ناصر الحلواني - بنت.. قصة قصيرة

للعصافير الآتية مع ندى الفجر، كان ينثر حبَّات الأرز بقبضة يده الكهلة أمام الدكَّان، ينثرها في المساء، فكنت أشم لها رائحة اليوم الساري في طين الليل المتراكم في الزقاق، المؤدي إلى البيوت الجاثمة على ضيق نهايته، تحولُ دون تمدده، وتجبره على الانكماش، وما بين مقعد الإسكافي ودكان الترزي البلدي، كان دكانه الصغير.

في الليل، في الميدان الصادح بالنور، ألعب مع العيال، نقذف اللمبات بالطوب، ونتحدث عن البنات النائمة، تداريها الحوائط، وصرامة الشوارع، ونثقب ظلام الزقاق بصيحاتنا المرتجفة، نلمح القطط والعفاريت، نطوِّحُ نحوها الأحجار.

لم أكن أجرؤ على دخوله، فالأرض ضيقة، يسكنها رماد يوم محترق، والدكاكين ساكنة، ارتخت أبوابها على العتبات، والبيوت معتمة، تمتص دُكنَتَها ظلام الشوارع المحيطة، وكائنات تسبح في جوعها، تُطوِّحها رغبتها في الامتلاء، وينوبها الخوف الذائب من شحوب المصابيح العالية، لا تُبدي التي هناك، ترقد في وهن اللهب المشتعل في فتيل اللمبة المعلقة بين الحجرات، ترجف تحت لحظات باقية من غطاء قديم.

في الصباح أذهب إلى الدكان، وكانت حكايات الشيخ عن الراقدة خلف الثقب الظاهر في جنب البيت، تصيح دوما ولا تموت، والبنت التي تتسرب ليلا، يفوح عطرها فتُغشى العيون عنها، لتعود قبلما تلتقط العصافير الغافية حبات أرزه المبدورة في الليل، تسير في خطوات مكدودة، ترقبها مداخل البيوت في نهم، وقبلما تدرك الوصول، يتخبط صياح العجوز الراقدة، خلف ليل ينفذ من ثقب في جنب البيت، فتهتز الذبالة الباقية في لمبة الجاز، وتحين الصلاة، وينبت سؤال عن جنون العجائز، فيصمت عن حكاياته، وأعرف.

في الليل أنتظر، أرقب الزقاق، وخطوات الأمس المرسومة في طراوة الطين، ولهفة الخفافيش على دفع بقايا ضوء اليوم، وبعيدا، ألمح الثقب الضئيل، وفي اتساع الخَلفِ أرى البنت نائمة عند أقدام العجوز الراجفة، تحلم بي، أعتنق الحلم، تمد الكفَّ، ألهف إليه، أحس في الفم طزاجة، أدسُّ القلب في المسافة بيننا، ينحشر بين الطوب المتآكل وصوت العجوز، فيحل في الحلق طعم الانتهاء المرتقب.

في بعض الصباحات، كان يدعني أبقى في الدكان وحدي، ويذهب، وكانت تجيئ، تبتاع الملح الخشن وأرغفة خبز، يضل الإحساس بقروشها القليلة في يدي، ويسكن صوتها الخفي في سمعي، وأنتظر انغمارها في مدخل بيتها، وتبقى معي عيناها، أحوطهما بألفة الصباح، فتمتزجان بطعم السمسم، ورائحة معتقة تفيض من حوائط الدكان، وزقزقة عصافير تلتقط حبات أرزها، ونهار جديد.



بنت. قصة : ناصر الحلواني

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى