سوسن الشريف - صلة رحم.. قصة قصيرة

تجاوزت الأمن والسكرتارية في هدوء وإصرار، قوة جسدها النحيل أزالت كل العقبات أمامها، ظهرت على باب مكتبه كطيف يُغشي الضوءُ ملامحه. تجمد في كرسيه كأنه يحاول تذكرها، لم ينسها، لكن حضورها إليه لم يخطر بباله ولو كحلم، اعتقد لثوانٍ أنها ليست حقيقية. اعتلت وجهه ابتسامة متلونة، فرحة، انتصار، شوق ولهفة، اشتياق ودهشة، حافظ على رباطة جأشه ومظهره أمام الحاضرين، أتى صوته فرحٍ وهو يرحب بها، ويقدمها لهم بشكل رسمي، ردت على تحيتهم بابتسامة واهنة، وجلست في ركن بعيد تراقبه. نفس الصوت الذي لطالما سحرها وهو يهمس، وهو غاضب، عشقت طريقة نطقه لسمها، نفس العيون السوداء اللامعة، البشرة الخمرية، الابتسامة الهادئة المطمئنة، في كل مرة تراه يزداد وسامة، وجاذبية. كان يتحدث للآخرين محاولًا إنهاء الاجتماع سريعًا، وكل دقيقة ينظر إليها، تشعر بعينيه يحتضناها، تتنسم عطره، ذراعيه القويتين يحيطاها بدفء وحنو، اشتاقت لهذا الحضن الآمن، حتى اشتاقت لملمس بذلته الناعم وهي تريح رأسها على صدره.

فتحت عينيها على صوته يناديها برقة، ببطء استوعبت أنها على سرير في عيادة طبيب، طمأنهما الطبيب، فما أصابها حالة تعب ووهن، إنها في حاجة إلى رعاية حقيقية. سألها الطبيب عن أقاربها، فأجابت بصوت ضعيف “ده جوزي، وهو كل قرايبي”، مذهولًا نظر إليها وإلى الطبيب، واطمئن إلى إمكانية خروجها بعد دقائق. راحت تلملم أشياءها، متجاهلة تساؤلاته، إلا سؤاله الأخير: “اوصلك للبيت؟”، أجابته “ايوة وصلني لبيتك”، وعندما ساد صمت مرتعش، سألته “انت لسة عايز تتجوزني؟ .. متخافش هنتجوز بشروطك”.

ركبا السيارة، تذكرت هذا المقعد جيدًا، لم يتغير شيء، فقط الراكب عليه هو الذي يتغير، لم تعد تعلم هل هي سيارة اجرة أم ملاكي، فكم شهد بكاء وضحكات، وخجل، وكم شهد عددًا لا بأس به من النساء أيضًا. كرر السؤال عن وجهتها، ردت هي بنفس الاجابة. سألها إن كانت جادة في قولها، وما سبب هذا التغيير بعد سنوات من محاولاته المضنية لإقناعها بالزواج منه، أخبرته بأنها تغيرت، تغيرت كثيرًا، وطلبت منه الذهاب لأقرب مأذون. أخبرها أنها حلم فقد الأمل في تحقيقه، وعليهما الانتظار لبضعة أيام على الأكثر لينهي ترتيبات سريعة استعدادًا لزواج طال انتظاره، وليقابل أهلها، ويستأجر شقة، هو لا يزال غير مُصدق ما يراه أمامه، لولا أنه هو الذي حملها بين ذراعيه إلى عيادة الطبيب، ويشعر برعشة جسدها بجواره. قاطعت كل الافكار المزدحمة برأسه، أخبرته أنها ستتزوجه كما يريد، كما كان يخبرها دومًا، بما أنهما ناضجان فلا يجب أن يكون للأهل وصاية على قصة حبهما، وأن شقته المستأجرة بجوار عمله ستكون مكان مؤقت حتى يمهله الزمن ليحضر لها شقة مناسبة، وطلبت منه أن يذهبا للمأذون.

ذهبا إلى مكتبه، بعد أن اتصل بمأذون صديق له، واثنين آخرين ليشهدا على العقد، أمطرها بكل كلمات الحب التي اعتادت سماعها منه، مزينة بفرحة لا يصدقها بموافقتها أخيرًا على الزواج، صار ينسج لها أحلامًا حول شهر العسل، وعدم صبره على اللحظة التي يمكنه فيها لمسها لأول مرة كزوج وكعاشق. لم تكن ترد عليه، فقط تنظر إلى عينيه، ترى بريق الشهوة يحركهما، أخيرًا سيحصل على صيد انتظره لثلاث سنوات، أخيرًا استسلمت وخضعت للحب، هو يعي جيدًا تأثيره على النساء، ومتأكد من أن صبره عليها تلاشى أمام لحظة الانتصار هذه.

بدأت الإجراءات الرسمية لكتابة العقد، وطلب منها المأذون أن تكرر خلفه “زوجتك نفسي ..”، نظرت في عينيه، وقالت “زوجتك نفسي بنفسي، وبدون حضور أحد من أهلك ولا من أهلي، وافقت على كل شروطك، أتيت إليك بكامل ارادتي. أحببتك، وأحببت صبرك عليَّ لمدة عام وأنت تحاول إعادة ثقتي في الآخرين، تسلل حبك بداخلي، اختلط بدمي وصرت جزءً مني، وصرت جزء منك، وعندما وافقت على الزواج ٍصدمتني بشروطك، وأقساها عدم الإنجاب .. كيف؟ كيف وأنا أحب الأطفال منذ صغري، وحلمي أن أكون أمًا، صار هدفي من الزواج الأساسي لفترة طويلة، وبعد أن أعدت إلىّ شعوري بالحياة سلبتها مني بقسوة. ابتعدت، قاومت، أنت الآخر أصررت، ألححت، وفي كل مرة تلوح بموافقتك على الإنجاب، تشعل فرحتي، حتى نصل للمأذون لتخبرني، برفضك للأطفال. في كل مرة كنت تقتل جزءً مني، تمر على الشهور والسنوات، وحبك ينهش في قلبي كوحش، يعوق أي أحد من الاقتراب، يبعث فيَّ رائحة الموت البطيء، وبعد أن قتلت بناتي وأولادي، تاركين بداخلي دماءهم مختلطة بالألم والدموع، تعود في كل مرة لتقتل ما تبقى مني.

هل تقبل الزواج مني الآن، وقد وافقت على كل وأقسى شروطك؟ لن أنجب لا تخف، قلتها لك ذات يوم، انطلقت الفرحة على وجهك، صدمتني فرحتك بحرماني من الأطفال، لرغبتك بالاستمتاع بي لك وحدك، دون شريك، دون مسئولية، فقط أنثى، أنثى جاهزة دومًا فوق سرير الرغبة المتأججة بداخلك ولا تهدأ، رغبتك في تذوق حب نما على يدك، رغبة تذوق لحظة تحول الفتاة إلى امرأة كاملة النضج تذوب بين يديك. انصرفت وأنا على يقين أنني لن أعود إليك ثانية، نجحت بقسوتك أن تقتل وحشك الذي زرعته بقلبي، رأيته ينتقل إلى نظرة عينيك الفرحة وقتها، فبداية حياتك معي، تبدأ بجريمة قتل لحلم الأمومة بداخلي، وقتل طفل يقدر الله وحده وجوده من عدمه.

هل تقبل الزواج مني اليوم؟ لقد حققت كل شروطك، حتى حلمك بأن آتي إليك، دون عناء أو جهد منك، أجر أذيال الهزيمة. لقد خرجت من المستشفى أمس، اكتشف لدي الأطباء بالصدفة ورم ملتف حول الرحم، ويجب إزالته، كي لا يتحول لمرض خبيث كحبك.

نعم .. لقد ذهبت كل مخاوفك من الإنجاب، وذهب معه حلم الأمومة، لقد حقق الله رغبتك فيَّ، وحقق رغبتي في الاقتراب منك لحد البُعد.

والحالة الوحيدة التي تخلق صلة بيننا، هي .. قطع الرحم



صلة رحم. قصة : سوسن الشريف

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى