يسري عبدالغني عبدالله - تأثر الأدب الغربي بالأدب العربي ( محاولة للفهم الصحيح)

للأدب العربي في مشرقه ومغربه آثار بارزة في الأدب الأوربي، فقد انتقلت بعض خصائصه إلى هذه الآداب، وأدت إلى ظهور الجانب الإنساني الواقعي فيها بعد أن كانت سمتها البارزة تتمثل في الجانب الوثني المستمد من الأدب اليوناني القديم.
وعلى الرغم من أن كثيراً من النقاد والباحثين الأوربيين يعزفون عن الاعتراف الصريح بفضل العرب على أوربا في هذا الجانب الأوربي، كما هو ديدنهم دائماً في إنكار فضل الحضارة العربية على أوربا، فإن الوقائع والأحداث التاريخية والأدبية تشهد ببروز تأثير الأدب العربي والحضارة الإسلامية على الغرب.
والمتأمل فيما سجله التاريخ الإنساني يعرف بجلاء أن حضارة الشرق الأوسط كان لها تأثير بالغ ومهم في حضارة الغرب الأوربي بوجه عام، فالشرق مهد الحضارات ومهبط الأديان السماوية، هذه الحضارات العالمية القديمة يعرف الجميع أثرها الممتد إلى العصور الحديثة.
فالفلسفة التي ظهرت بواكيرها في القرن السادس قبل الميلاد هي امتداد للتطور الفكري والعلمي في الشرق، ثم انتقل أثر ذلك إلى الغرب الأوربي.
وبهذا يسلم الرأي الذي يذهب إلى أن الفلسفة اليونانية قامت على أسس من الحضارة الشرقية، وإلا فكيف نفسر وصول الفلسفة اليونانية إلى ذروتها أو إلى قمتها؟ وهل حدث ذلك على سبيل الطفرة الفجائية كما يزعم بعض القائلين باستقلالية الفكر اليوناني؟!
لا مناص من القول بأن التفكير اليوناني استمد أصوله من فكر الشرق وعلومه، وهذا من الحقائق الثابتة تاريخياً.
ومن المعروف أن أفلاطون ذلك الفيلسوف اليوناني الكبير زار مناطق متعددة في المشرق، وبخاصة مصر ، وأفاد كثيراً من علوم الشرق ومعارفه.
وإذا كان التأثر اليوناني بالفكر المشرقي حقيقة لا مراء فيها، بل لا يمكن لأي باحث إنكارها، فإذا قلنا بتأثر الغرب بفكر اليونان وثقافته، فتكون النتيجة المنطقية لذلك أن الغرب يعد مديناً للشرق بالفضل الأول، حيث قامت الفلسفة الإغريقية على التأثر بثقافة الشرق، ويقرر ذلك بعض مؤرخي الغرب أنفسهم .
فنضج الثقافة الغربية برز جلياً حين دخلت الثقافة العربية إلى البلاد الأوربية في القرن الثاني عشر الميلادي، ونقلت معهم كثيراً من علوم العرب وآدابهم، مما جعل أوربا تعزف عن ثقافة اليونان، وتتجه إلى المعين الجديد من الثقافة العربية .[فؤاد زكريا ، نحن وثقافة الغرب ، بحث منشور في مجلة الفكر المعاصر، العدد التاسع ، نوفمبر، 1965 م ، بتصرف].
هذا ، وقد ثبت تاريخياً اتصال الأوربيين بالعرب في فترات تاريخية متعددة تبعاً لأحداث معروفة، فالعهد الأموي العربي يمثل مرحلة ارتفع فيها مستوى الحياة والحضارة العربية في جوانبها المادية والعلمية والصناعية.
وبلغ العرب مجداً مزدهراً في العصر العباسي، وقد امتد أثر ذلك كله إبان فتح الأندلس حتى جاوز جبال البرانس، ووصل إلى جنوب فرنسا في القرنين الحادي عشر والثاني عشر الميلاديين، وامتد هذا النفوذ إلى إيطاليا وألمانيا شرقاً ، وإلى باقي أنحاء فرنسا شمالاً ، وانتقل منها إلى انجلترا وما يجاورها، وعلى أثر ذلك ازدهر الأدب في تلك البلاد.
ويعد هذا الازدهار الأدبي المتأثر بالأدب العربي ثمرة من ثمرات نقل الحضارة العربية إلى أوربا التي كانت تعيش في ظلام دامس خلال فترة العصور الوسيطة، ثم نهضت إلى العصر الحديث نتيجة معرفتها العميقة بعلوم العرب وآدابهم، والتي انتقلت إلى أوربا خلال القرن الثاني عشر الميلادي.
وقد نقلت أصول الصناعات والمعارف ، وفنون الملاحة ، وعلوم الرياضيات ، والفلك ، والطب ، والفيزياء، والكيمياء، والجغرافيا إلى الأوربيين، وكما نقلت إليهم مؤلفات أرسطو اليوناني، نقلت إليهم مؤلفات الشيخ الرئيس/ ابن سينا ، ورائد النزعة العقلية في الفلسفة/ ابن رشد، وغيرهم من علماء المسلمين الذين استفادوا منهم كثيراً، في نفس الوقت الذي انتقل فيه أهل أوربا إلى بلاد العرب بحثاً عن العلم والفكر في شتى مناحيه.
ومن الذين ذهبوا إلى بلاد العرب للبحث عن العلم العربي، والسعي إلى معرفته: دانيال دي مورلي ، وجيراردي جير مون، و ريجيو موفيانوس ، الذي كان يبحث عن جدول لمواقع الأفلاك أدى إلى أن يجوب المحيطات (هنري الملاح) و (فاسكو دي جاما) و (كريستوف كولومبوس)، كما ذهب (أيدل هارد) إلى قرطبة الأندلسية، ليحصل على النسخة الخطية من كتاب (إقليدس) الذي ظل يدرس في معاهد العلم الأوربية حتى سنة 1533 م.
وإذا كان اللقاء بدأ مع ابن سينا، فقد امتد إلى الفارابي وابن رشد، الذين التقى بهم بعض الأوربيين من أجل دراسة الفلسفة والعلوم، كل هذا وغيره كان له أثره الكبير في نقل العلوم والمعارف العربية إلى أوربا.
وعندما خالط العرب الأوربيين في الأندلس، وفي إقليم البروفانس الذي أقاموا به، وخالطوا أهله ، أكثر من قرنين ، قامت علاقات وروابط وثيقة بين أمراء العرب وأمراء البروفانس، كما توطدت بينهم الصداقة والتحالف الذي كان يقوم أحياناً بين أمير عربي وأمير أوربي.
ولم تظهر أي بوادر للتعصب الديني بين الإسلام والمسيحية خلال الفترة التي عاشوها معاً جنباً إلى جنب خلال ثلاثة قرون من الزمان، كانوا يتزاوجون ويتزاورون ، وصحب كل أمير شعراءه ومنشديه عند القيام بزيارته للأمير الآخر، وفي كثير من الأحيان التقى الشعراء العرب بالأمراء الأوربيين في البروفانس أو أسبانيا، حيث كانوا يجتمعون في الحفلات والمنتديات والملتقيات، يتحدثون ، يتحاورون ، وينشدون أشعارهم.
ويذكر أن بلاط الملك (سايكو الرابع) كان يضم بين جنباته 13 شاعراً عربياً ، و 12 شاعراً أوربياً مسيحياً.
ومن هنا تبدو الصلة واضحة جلية بين الشعراء العرب والشعراء الأوربيين، مما كان له أكبر الأثر في تأثر شعراء أوربا بالشعر العربي.
ويعد إقليم بروفانس موطناً للشعراء التروبادور، وهم تلك الجماعة من الشعراء التي بدا تأثرها بالشعر العربي.
والتسمية نفسها (تروبا دوري) تشهد لهذا التأثر، فكلمة (تروبادور) مركبة من (تروب) المأخوذة من الكلمة العربية (طرب)، يضاف إليها الأداة الدالة على اسم الفاعل اللاتينية وهي (أدوار)، فالمراد بهذه التسمية الشعراء المطربون، والمقصود الذين ينشدون الشعر الغنائي.
وتأثر الشعراء التروبادور بالأدب العربي واضح جداً في كثير من المنظومات الغربية، ويبدو ذلك في ملحمة أغنية (رولان) الفرنسية، فهي متأثرة باتصال الأوربيين بعرب الأندلس.
وأغنية رولان مستوحاة من المعارك الحربية التي نشبت بين العرب والأسبان منذ أوائل القرن الحادي عشر الميلادي إلى أوائل القرن الثاني عشر الميلادي، واشترك فيها عدد من الفرسان الفرنسيين .
والقارئ لهذه الملحمة يلاحظ استعمالها لنظام القافية الموحدة ، وهذا مأخوذ من نظام القصيدة العربية الملتزمة دائماً بالوزن الواحد والقافية الواحدة.
ومن أوائل الشعراء التروبادور في التأثر بالشعر العربي، الشاعر/ جيوم دي جواتييه ، الذي نظم الشعر بلغة بلاده العامية، وبعده جاء كل من الشاعر/ تركامون، والشاعر/ مركيرور، وغيرهم من الشعراء الذين دعموا أساس فن الشعر البروفانسي.
وقد تغنى شعراء بروفانس بالشعر العاطفي الذي قلدوا فيه العرب، واستخدمت في إنشاده آلات العزف، وبدت فيه مظاهر الأناقة والأبهة التي تنم عن الذوق المهذب ، فظهرت عند الأوربيين أشعار عاطفية ذات معان سامية، منتقاة، بالإضافة إلى الصياغة المدروسة المتقنة.
وبهذا هبت على الأدب الأوربي نفحات إلهام غنائي جديد، تأثراً بسمو المشاعر العربية، وجرياً وراء أبهة المشرقيين في أسبانيا، وقد أمدت هذه المنظومات العاطفية الغنائية الشعراء الشبان في الغرب الأوربي بنماذج أدبية تردد صداها في شعر ذلك العصر.
كما رأينا هذا الصدى مسموعاً في شعر وأغاني المنشدين المتجولين في الشمال الفرنسي، وامتد أثر ذلك في ألمانيا وانجلترا وإيطاليا وغيرها من البلاد الأوربية [الكاتب الفرنسي/ روبير بريفو، كلامه الذي ورد في كتاب : التروبادور والعاطفة الرومانسية ].
ولم تكن متابعة شعراء بروفانس للشعراء العرب في الأندلس مقصورة على التعبير عن العواطف الرومانسية فقط لا غير، بل أنهم تابعوها كذلك في استخدام القافية الموحدة، التي لم تكن تعرفها أوربا حتى ذلك الوقت .
وقد أشار إلى ذلك (دي ساس) في كتابه: (بحث أولي في العروض عند العرب)، فقد ذهب إلى أن العرب هم الذين نقلوا القافية الموحدة إلى الشعر الأوربي .
كما تعدى الشعراء التروبادور ذلك إلى نظم الشعر باللغة الدارجة متابعين بذلك طريقة بعض الشعراء العرب ، حيث نظموا على نظام الزجل الذي اشتهر به أهل الأندلس، وكان ابن قزمان الأندلسي أشهر ناظمي الزجل الأندلسي .
فمن المؤكد أن الشعراء التروبادور نسجوا على منوال أزجال ابن قزمان في أوزانها، وترتيب قوافيها .
كما انتقل هذا التأثير إلى بعض أدباء فرنسا الذين ترجموا أعمالاً أدبية مختارة من اللغة اللاتينية إلى اللغة الفرنسية الدارجة، وانتقل بذلك تأثير الأدب اللاتيني إلى الشعوب الأوربية في مرحلة تالية لتأثرهم بالأدب العربي.
وقد تأثر الشعر الإنجليزي قُبيل عصر شوسر، وفي عصره بالشعر العربي عن طريق تأثره بالشعر البروفانسي الذي لا يختلف عن الشعر العربي في شكله ومضمونه، ويتبين ذلك من خلال دراسة المقطوعات الشعرية الإنجليزية التي تتجه الاتجاه العاطفي، وتأثر كذلك من بعد تشوسر العديد من الشعراء الإنجليز بهذا اللون من القصائد العاطفية مثل: شكسبير وشيلي وغيرهما.
والرافد الثاني الذي أدى إلى انتقال أثر الأدب العربي إلى أوربا يتأتي عن طريق دخول العرب إلى جزيرة صقلية الإيطالية، وقد بلغت مدة إقامة العرب هناك زهاء قرنين من الزمان، وعد الحكم الإسلامي هناك فترة نهضة وازدهار اعترف بها الإيطاليون ، وأفاد منها أهلها، وظلوا مدينين لما خلفه المسلمين هناك من الحضارة التي أعجبوا بها إعجاباً كبيراً.
وقد انتهت سيطرة العرب على جزيرة صقلية بغزو النورمانديين لها في أواخر القرن الحادي عشر، وإن ظل أثر المسلمين بادياً بعد جلائهم عنها مدة قرن من الزمان.
والرافد الثالث للدور الحضاري العربي الإسلامي في ثقافة الأوربيين وآدابهم حدث نتيجة للحروب الصليبية التي شنها الأوربيون على الشام ومصر، وإذا كانت تلك الحروب لم تحقق أهدافها السياسية والمطامع الأوربية التي جاءت من أجلها، فإنها فتحت المجال لاكتساب جوانب حضارية إسلامية عربية، وقد أفاد الأوربيون من حضارة المسلمين التي بهرت الصليبين، وكانت باعثاً لاهتمام أوربا بالعالم الإسلامي وإقبالهم على دراسة لغاته، والاهتمام بآدابه وتراثه. [طه ندا ، الأدب المقارن ص 249، بتصرف]
ومن هنا كانت سوريا ومصر في المشرق العربي مصدراً هب منه تيار الحضارة وتأثير الأدب العربي على الأدب الأوربي.
يذكر جورجي زيدان أن العرب أقوى الأمم شاعرية وأقدرهم على نظم الشعر الغنائي، والدليل على ذلك عدد شعرائهم وضروب الشعر الذي نظموه في قرن واحد وبعض القرن قبل هجرة الرسول محمد (صلى الله عليه وسلم) من مكة إلى المدينة، ولذلك أسباب نذكر منها:
1 – العربي بفطرته ذو نفس مرهفة، وشعور راق، وأريحية واثقة، سريع الطرب، سريع الغضب، ولذلك كان أكثر شعر العرب غنائياً أو موسيقياً يعبرون به عن إحساسهم، ويصورون به شعورهم .
2 – إن لغتهم شعرية لما فيها من أساليب الكتابة، والاستعارة، ودقة التعبير، وكثرة المترادفات التي تيسر وجود القافية.
3 – صفاء جوهم وتفرغهم للتأمل في الطبيعة، فإن أهل الجو الصافي تكون أذهانهم صافية لا سيما إذا كانوا أهل خيال وتصور مثل العرب، والصفاء يزيدهم شاعرية، وكذلك يدفعهم إلى قول الشعر ما كان يدور بينهم من حروب ومنافسات. [جورجي زيدان، تاريخ آداب اللغة، 1 / 28 ، بتصرف] .
ومن هنا يلاحظ صدق الشاعر العربي القديم في تصويره للواقع، فإن أشعر بيت أنت قائله بيت يقال إذا أنشدته صدقاً , على حد قول زهير بن سلمى الشاعر الجاهلي.
ولذا وجدنا أن الشاعر البدوي إذا وصف مشاعر الشوق والهيام لا يبالغ، بل يمثل ما يشعر به ويعبر عن واقعه، ومن هنا قال عبد الرحمن ابن خلدون: ” إن الشعر ديوان علوم العرب وأخبارهم ، وشاهد صوابهم وخطئهم، وأصل يرجعون إليه في الكثير من علومهم وحكمهم “.
فالشعر العربي يمثل الاتجاه الواقعي على حين أن الشعر الإغريقي الملحمي كان يصور اتجاهاً وهمياً لا يمت للحقيقة أو الواقع بصلة ، فهو يصف الآلهة والعمالقة والفرسان الذين يتسمون بقدرات خارقة، ويحلقون في خيالات أسطورية لا تؤدي إلا إلى التسلية والإمتاع للمستمعين إليها أو قارئيها.
ذلك بخلاف الشعر العربي الذي يعتمد على الحقائق والوقائع ، ويدل على يقظة العرب العقلية بعكس الأدب الأسطوري الذي يشطح فيه الخيال، ويجنح إلى التهويل والإغراب، ويلجأ إلى الدعاوى الكاذبة في تلك البطولات الحربية الوهمية، بعكس العربي الذي يأنف الكذب بطبعه حتى أمام أعدائه الذين يحاربهم.
وكانت للفارس العربي مكانته التي ارتفعت في نفوس أهله وناسه، وعلت مكانة المرأة عنده، فتمنعت ودلت وعفت، فألهب ذلك حماسته، وولد عنده مشاعر الحب والهيام بالمحبوبة ممزوجاً بالتقدير والإجلال والاحترام، ومثال على ذلك: فرسان العصر الجاهلي ، ومنهم عنترة بن شداد العبسي، شاعر الحب والحرية، وكذلك في العصر العباسي نجد أبا فراس الحمداني.
وقد اقتبست أوربا هذه الخصال وتلك الصفات عن العرب في العصور الوسيطة ، وانتقلت بها أوربا من عدم التحضر إلى التحضر، وانعكس هذا على الشعر الأوربي، فبدأ الشعراء يهيمون بالجمال المعنوي، ونفحات الرياض، ووقع الألحان، ونمى هذا في الشعر العاطفي الغنائي الراقص، الذي صادف هوى في نفوس الأوربيين الذي أخذوا بأسباب الحضارة العربية، وما عرفوه عند أهل الأندلس العربية.
وقد بدى ذلك واضحاً في الشعر التروبادوري العاطفي، يقول (بيرديكس) في كتابه (القصة في سبعة قرون) عن الشعر الأوربي: لقد تبدل العالم الإغريقي الوثني في هذا الشعر الجديد، وبدا صوت المرأة يتردد في أبياته العاطفية، في حين كان ذلك الصوت لا يعلو في الشعر القديم إلا ليتبادر بالويل والثبور.
وقال أيضاً: عرفت الطبقة الفرنسية ذات السلطان في مطلع القرن الحادي عشر ذلك اللون الجديد من الحب العف السامي، وخضع الأدب فيه كل الخضوع لاتجاهات الشعراء التروبادور.
ويضيف قائلاً: ونشأ في أوربا لون جديد من الشعر يسمو على ما سبقه من منظومات، ويعرض عن ذكر آلهة الملاحم القديمة، وأساطير (أوفيد)، ويستبدل بها الحقائق الواقعية.
وبهذا يبدو التأثير العربي من ناحية المضمون، أما من ناحية الشكل فقد بدا تأثير الشعر العربي في الآداب الأوربية واضحاً في النظم الشعري، وكانت الموشحات الأندلسية المتنوعة القوافي ذات صلة وثيقة بأوليلات الشعر الأوربي عند الشعراء التروبادور ، وقد لقيت من الأوربيين مع الزجل الأندلسي قبولاً كبيراً , واهتماماً متميزاً.
والمعروف لنا: أن الزجل ينظم بالعامية، أما الشعر فينظم باللغة العربية الفصحى ، ولكن الزجل الأندلسي كان أيضاً ينظم باللغة العربية الفصحى باستثاء كلمات قليلة أسقطت بعض أحرفها للتخفيف في النطق، ولم تبد فوارق ملحوظة بين الزجل والشعر الأندلسي إلا في تطبيق بعض القواعد ، فاللغة العامية في الأندلس كانت تهمل التنوين الذي تتمسك به الفصحى، ولعل خير مثال لذلك ما نجده في أزجال الشاعر/ ابن قزمان أمير الزجل الأندلسي .
و الأزجال لا تخرج عن الشعر العربي إلا في تركها العمود الشعري التقليدي، ونظام القافية الواحدة، وهي تسلك في ذلك مسلك الموشحات الأندلسية، ولجأ الوشاحون والزجالون إلى ذلك لمناسبة الغناء والرقص والحاجة إلى تنوع الأنغام الموسيقية، وللموشحات أنواع وأغراض متعددة.
يذكر (هارت مان) في كتابه (بحور الشعر العربي): أن هذا اللون الجديد من الشعر (الموشحات) انتشر حتى وصل إلى مصر وغيرها من بلاد الشرق العربي .
ومن المؤكد أن العرب هم الذين نقلوا نظام القافية في الشعر إلى أوربا ، إذ أن الشعر الأوربي لم يكن يعرف نظام القافية قبل أن يعرف القصيدة العربية الموزونة المقفاه.
وقد تأثر الشعراء التروبادور بالنظام التقليدي للشعر العربي وبخاصة الأزجال والموشحات، فبعض ما وصلنا من شعر (جيوم دي بواتيه ) صيغ على نمط الموشحات والأزجال الأندلسية ، وبعضها لا يختلف عنها إلا اختلافاً يسيراً.
وبناء منظومات الشعراء التروبادور يطابق بناء الشعر العربي عموماً، ويقع كل منهما في زهاء عشرين بيتاً من روي واحد، ويتخذ شكل القصيدة العربية. [روبير بريف ، بحث أولي في العروض العربي، ص 36، بتصرف] .
ومنظومات (تركا مون) و (مركبيرو) أو أغلبها تطابق الزجل الأندلسي من حيث الشكل، وقد وصلنا من منظومات (مركبيرو) ما يقرب من أربعين منظومة تتبع قوالب الزجل في نظامها ، ويشيع ذلك في أغلب أعمال الشعراء التروبادور.
وفي جانب التعبير والصور نعرف أن الشعر العربي يتميز بما لا تعرفه الآداب العالمية من تصوير للواقع عن طرائق شتى من الوان التشبيه والاستعارة والمجاز والكناية، في صور حية متحركة، ويعد هذا تصويراً يبعث الإحساس والحيوية، ويحرك المشاعر الإنسانية، وهذا لا نظير له في الشعر الإغريقي الذي كان يهتم أول ما يهتم بتجسيد الخرافات، ويبعد عن والواقع المعاش للإنسان.
فالعربي كان يصور الواقع ويوضحه، ويعطي تصويراً دقيقاً على نحو عميق، فيعطي للقارئ أو للسامع معانٍ تشف عن النزعات الإنسانية والميول والرغبات، كاشفاً بها عن الحقائق الإنسانية المعاشة.
أما الأدب الإغريقي فكان يفسر الحياة تفسيراً غير سليم، وينسب أحداثها إلى الأساطير التي تتكلم عن الآلهة الوثنية والشخصيات الخرافية ، فيمحو من السامع والقارئ جوانب الواقع والعلم ، ويرين على قلبه بكل صنوف الجهالة وهو بذلك يضع الخرافات مكان الحقائق في عالم وهمي أسطوري .
ومما لا ريب فيه أن الأدب الحق هو ذلك الأدب الذي يربط السامع والقارئ بالفكر والواقع والحياة الحقيقية ، ويوجه المجتمع إلى الأحسن والأفضل ، ويسمو بالمشاعر والأحاسيس ، ولعل ذلك ما جعل بعض النقاد الألمان يقولون : إن محاكاة النماذج الإغريقية والأدب الإغريقي يعتبر نوعاً من عدم التحضر في عصرنا الحديث !.
وتتجلى واقعية الشاعر العربي في أسلوبه الصادق الذي يمكن إدراكه والوعي به ، ومن يراجع الشعر العربي يتأكد من ذلك.
كما تميز أسلوب الشعر العربي بجمعه بين السهولة ودقة الصياغة، وتأدية المعنى من وجه بلاغي ينقل إلى السامع إحساس الشاعر دون اللجوء إلى أساليب التهويل والتضخيم الجوفاء.
ولذا بهر به شعراء أوربا حينما اطلعوا عليه وعرفوه، وقد بدا ذلك واضحاً جلياً في الشعراء التروبادور .
ويذكر أن تشوسر الشاعر الإنجليزي تأثر عن طريق الأدب الفرنسي بالأدب العربي في الافتتان بالقافية ، وفي اختيار الألفاظ السهلة الموحية، وحسن الصياغة، وأخذ الصدق في الاعتبار، والإيجاز في التعبير، وتجنب أساليب المبالغة، والاتجاه إلى تصوير العواطف الإنسانية بصدق وموضعية، من أجل الكشف عن الحقيقة والواقع.
وبذلك تمكن شوسر من أن يعكس ظواهر الحياة بجلاء ووضوح، وإذا ظل هذا الشاعر متأثراً بتيار الأدب الإغريقي وحده لأضحى شعره منتحياً جانباً وهمياً زائفاً في تناول الأحاسيس والمشاعر الإنسانية، وفي إطار خيال خادع، وعالم خرافي، لا حقيقة له، ولا صلة له بحياة البشر.
وفي مجال القصة نلاحظ أن الأدب الأوربي كان لا يعرف قبل احتكاكه بالعرب غير القصص الخرافية والملاحم الأسطورية، حيث أنهم لا يعترفون بغير الأدب الإغريقي أو اللاتيني.
وعندما انتقلت الحضارة العربية إلى بلاد الأندلس وتأثر بها الأوربيون في جنوب فرنسا وازدهرت نهضتهم احتذوا بالعرب في حركاتهم وسكناتهم، وبإطلاعهم على الشعر العربي تحولوا إلى اليقظة بعد السبات العميق.
فمالوا إلى الشعر العاطفي الصادق، وتولد مع ذلك نوع أدبي مستحدث ألا وهو القصة الشعرية العاطفية التي تعبر عن الواقع الجديد.
وبذلك تغير ذوق الأوربيين، وتركوا الخرافات والأوهام، واتجهوا إلى تلك القصص المنظومة التي نشطت في فرنسا حركة أدبية كبرى.
يقول (بيبرديكس): إن هذه الحركة الأدبية الكبرى التي نشطت في فرنسا تدل على اتخاذ موقف تجاه العالم الواقعي أقرب بلا شك إلى الإدراك العقلي السليم.
ويقول الكاتب الفرنسي/ جوستاف كوهين: إن النهضة القصصية انبثقت من روح الشعر الغنائي العاطفي الذي شاع في فرنسا وقت ذاك.
ويقول (جان فراييه): إن قصة (كليجيه) تتميز بالواقعية البادية عليها فليس فيها أساطير، ولا حكايات خرافية، ولا شطحات متعذرة التصديق، ولا تركيب سحري غريب الأثر، وهي تتميز أيضاً بمسحة علمية، وتجمع بين الحقيقة التاريخية والخيال القصصي.
والرافد الأساسي الذي تدفق على فرنسا، وأنبت فيها أدبها الجديد، قد أتى من الأندلس.
وعلى الرغم من إنكار بعض الباحثين الغربيين والعرب عملية التأثير هذه، فإنها واضحة جلية من جانب العرب وآدابهم في الأوربيين وآدابهم ولا سيما في القصة، ولا يعوز إثبات ذلك الأدلة والبراهين.
ومما يذكر في هذا الصدد أن الأوربيين استهواهم هذا الفن من الأدب، وقد أخذوا بعض الأقاصيص والحكايات التي كانت تجري على ألسنة التجار وجنود الحروب الصليبية، وتأثروا بها ولا سيما في مجال الرحلات وعجائب المخلوقات.
وممن تأثروا بهذه الحكايات (يوكاشيو) و (تشوسر) في قصته (حكاية الفارس ) التي دارت كما حكاها ببلاد التتار.
ومن القصص والحكايات التي تأثروا بها قديماً حكايات كليلة ودمنة التي ترجمت إلى اللغة العربية، ووصلت عن طريق العرب إلى أوربا، وتأثر بها لافونتين الفرنسي في كثير من حكاياته على ألسنة الطير والحيوان.
وكذلك المقامات العربية التي وصلت إلى أسبانيا، وظهرت على أثرها الحكايات والقصص التي تتحدث عن الشطار والمشردين والصعاليك، وراج هذا اللون من القصص في القرن السابع عشر.
وكذلك الليالي أو حكايات ألف ليله وليله التي كان لها الأثر الكبير في الأدب القصصي والروائي والمسرحي في أوربا.
ومما لاشك فيه أن كل ذلك فتح مجالاً للنسج على منواله من جانب الكتاب الأوربيين، ولعله من الغريب أو الطريف أن بعض الكتاب الأوربيين نسب قصص مؤلفة على نظام ألف ليله وليله إلى الشرق.
وقد كثر إقبال أدباء أوربا على الإفادة من قصص ألف ليله وليله بشكل كبير وواضح، ومن هؤلاء: ولهلم هاوف، وهانس كريستيان أندرس.
وقد أعجب كثير من الأدباء الأوربيين والأمريكيين بلغة هذه القصص، والمعاني التي تؤديها الألفاظ فيها، وتعبيرها عن المشاعر الإنسانية.
كما أن هذه القصص قد أثارت خيال قراء الغرب ووجهتهم إلى لون جديد من ألوان الأدب لم يعرف أو يعهد عندهم من قبل .
وغني عن البيان بعد ذلك القول بأن الآداب اللاتينية واليونانية لم تكن مؤثرة في قراء الغرب الأوربي بمثل ما أثرت به هذه القصص الشرقية .


[SIZE=6] د. يسري عبد الغني عبد الله (باحث و خبير في التراث الثقافي)[/SIZE]

تأثر الأدب الغربي بالأدب العربي (محاولة للفهم الصحيح) بقلم/ د. يسري عبد الغني عبد الله (باحث و خبير في التراث الثقافي)

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى