خيرة جليل - التشكيلي المغربي بدر التديلي تجربة مسار البحث في الرمز لتشكيل هوية تشكيلية مغربية كونية

إن ما تشاهده الساحة العربية حاليا والعالمية عامة من نشاط وحركة ودينامكية في المجال التشكيلي لا يعبر عن قطيعة مع ما كانت عليه المدارس التشكيلية أو ما وصل إليه التشكيل في الحداثة و ما بعدها، إنما يعبر عن الاحتقان بالساحة الثقافية والاجتماعية الاقتصادية وما شاهده العالم من تغيرات فكرية وفلسفية إلى درجة غابت فيها معاير الجمال والفلسفة المؤطرة للإبداع ، لكن هذا لا يعني أن عالمنا العربي لا توجد به تجارب جادة ربطت الحركة الإبداعية بالنشاط الثقافي الجاد الذي يتطلع إلى أحداث تغيير ، وهذا ما أسعى إلى الوقوف عليه في مقالاتي النقدية متبعة منهجا تحليليا تركيبيا للخروج بقواعد نقدية تبعدنا على المجاملة وتؤسس للنقد التشكيلي العلمي الجاد. في سعيي الدءوب إلى استعراض مجموعة من التجارب التشكيلية المغربية والعربية عبر سلسلة مقالات نشرتها. هي تجارب متنوعة في مساراتها الفنية وأساليبها التعبيرية و اتجاهاتها الفنية، وأنا على وعي تام و مدرك لحقيقة إنها لا تمثل التجارب الوحيدة التي تحظى بموقع الأولوية و الأهمية بل هدفي هو تقديم نماذج تصويرية و نحتية و غرافيكية بهدف دراستها و استعراضها في محاولة للتعريف بمبدعين لم يأخذوا حقهم من طرف الإعلام الوطني للتعريف بفنهم وجودته وعمقه الفكري، بل يؤلفون أطيافا مختلفة من النسيج التشكيلي العربي المعاصر الآخذ بالنضوج و الارتقاء إلى جانب التجارب العالمية. و من حرصي على الوقوف إلى جانب الإنتاج الإبداعي الذي يعمق صلة الإنسان بالحياة باعتباره حلقة مهمة من حلقات الثقافة و ركيزة قوية من ركائزها بل قاطرة للتنمية والتطور والانفتاح والتعايش في سلام.

اليوم سنتناول تجربة تشكيلية تميزت بعمقها وبعد دلالتها رغم قلة إبداعاتها( أو قلة الأعمال التي توصلت بها)، لأنها تربط بين نذرة العمل والجودة فيه، وتجربة اليوم هي أعمال التشكيلي بدر التديلي ، فمن هو هذا الفنان؟ وما هي المدرسة التي اختار التعبير في إطارها ؟ وكيف ينظر إلى الإبداع بصفة عامة والتشكيل بصفة خاصة؟ وكيف تعامل مع المنشأ التشكيلي ككل؟

الفنان بدر التاديلي من مواليد مدينة أولاد عياد ببني ملال، فنان عصامي الإبداع لكن كانت له فرصة اكتشاف عالم الفن والإبداع وتاريخ الفنون بالعلوم التطبيقية ، ما يهمني من مساره ومعارضه المتنوعة هو تجربته الفنية من خلال سفره لسنوات لرومانيا التي منحه فرصة ولوج الكتدرائيات والكنائس والاستفادة من الورشات الفنية التي لها علاقة بتكوينه المهني والفني. عودته للمغرب تركت لديه فراغا نفسيا وتعطشا للمزيد من البحث والابتكار في الميدان التشكيلي خصوصا وانه استفاد من ورشة والده بالبيت والتي وفرت له أرضية خصبة للتعامل مع أفكاره وابتكاراته على ارض الواقع بتوفر فضاء للممارسة وعتاد متنوع، لكن سفره إلى جنوب إفريقيا منحه فرصة الانفتاح على الإرث الإفريقي والاحتكاك مع تجارب أخرى والدخول في مغامرة التعامل مع الرموز أكثر.


التشكيلي بدر التديلي يشتغل بالدرجة الأولى في صمت على الرمز والدلالة الرمزية في علاقتها الميتولوجيا والمساواة بين الجنسين والتي يمكن ندرجهما ما بين المدرسة السريالية والتكعيبة أحيانا، لكن أعماله جاءت تتميز بالجرأة والعمق والمرجعية الفكرية والبحث الفني وهذا يرتبط بشخصية الفنان بحد ذاته بالأخص في مجموعته "الآلهة المزيفة" مما ينبئنا انه في طريق البحث عن مسار شخصي يحمل بصمته ولا علاقة له بالتجارب المغربية السابقة، لأن رموزه وأشكاله وألوانه سيدة اللوحة. فجل أعماله الفنية تمثل تركيبة رمزية تحكي قصص بلغة شاعرية انسيابية متمردة تعكس غنى مخيلة المبدع، كما تحمل المتأمل إلى عوالمه الفكرية الخفية لتخلق انسجاما بصريا حيك بحبكة ذهنية رائدة في مجال البحث التشكيلي الرمزي والهندسي: الشكل والدلالة (symbole et la thématique) وهذه الانسيابية في التنزيل الرمزي يشكل تنزيل موسيقي تشكيلي يجعل من الفنان مايسترو متمكن من معزوفته التشكيلية على اللوحة التي تحس أنها تعج بالألوان والأشكال والانحناءات والقصائد والموسيقى والرقصات لتحمل المتأمل في سفر تأملي عميق( poésie, rêve, musique et ses formes, courbes, couleur)

لفهم أعمال التديلي يجب أن نركز على استعمال العقل لنغوص بأعماله فنستخلص جمالية الأشياء من خلال تأملها وملاحظتها وترجمتها لألوان واشكال ورموز غنية بالدلالات الفنية والرمزية والروحية في حد ذاتها ، فهي ليست في متناول الكل او من ليس له ثقافة فنية، فهي السهل الممتنع بالدرجة الأولى مما يفرض علينا استدعاء معارفنا الفكرية الفلسفية وتركيز عقولنا لنغوص إلى أعماق العمل وهذا ما دعا إليه أرسطو في نظريته لاستعمال العقل. فحين يقف المتأمل لأعماله، فهو يقف أمام ذائقة فنية واعية بواقعها العلائقي والفكري والإنساني وترجمت انفعالاتها العاطفية والفكرية إلى إبداع فني يحقق نوعا من الشعور بالارتياح والإشباع الفني والفضول الإبداعي كأعلى درجات الإدراك. ومن هنا ندرك من الملفوظ النصي أنه يتطابق مع المفهوم الهيغلي : "إن ما يخلق فعل الابتهاج والراحة للإنسان هو محاكاة الطبيعة للإنسان" وبالتالي فإنه يشعر بفرحة عارمة عندما ينتج ما مطابقته بين الفلسفة وتاريخها حيث جعل من هذا الأخير موضوعا للفلسفة. وفي أعماله الأخيرة التجريدية الأخيرة نلاحظ نوعا من الانفلات من قبضة هيغل ليبدع إبداعا تجريديا يعج بالحركة والرموز والدلالات ، فينهل لإعماله من الفلسفة المعاصرة والتي هي برمتها حسب فوكو ما هي إلا محاولة للانفلات من قبضة هيغل في المنطق والتاريخ و ما جعله يتوج بآخر نسق في تاريخ الفلسفة. وهذا التمييز لمرحلته الأولى عن المرحلة الثانية في حد ذاته ماهو إلا نتيجة لقراءته للمذاهب والمدارس الفلسفية التي صنفها الباحثون والنقاد في محاضراتهم في تاريخ الفلسفة وعلاقتها بمفهوم الجمال وسفره بين العديد من الدول الأوربية والإفريقية التي عمقت نظرته للفن مثل رومانيا وجنوب إفريقيا. وحتى من خلال أسفاره نلاحظ انه انتقل بين فضاءين مختلفين تاريخيا وفكريا و جغرافيا وفلسفيا، مما حتما سيكون له تأثير واضح على منظوره الفني، لكن تعامله مع العلوم التطبيقية الفنية جعلته قادرا على أن ينفذ لوحات يمكنها ان تخرج من إطارها التشكيلي لتتقمص هيئة نحتية بليغة الدلالة ليعمل جاهدا على تشكيل مجموعة أشكال ورموز ليكون كتالوغا (catalogue) ليُكوِّن مرجعا لكل رمز وفي نفس الوقت يحقق حرية التعامل مع أي موضوع نفسي اجتماعي ، فهو حسب تعبيره"إني أتمرد لكن بلطف" كانت ضرباته بالفرشاة أحيانا قوية يتم تحديد مجال تحركها بقلم حبر اسود تعكس غضبه وتمرده عن ما أثقل قلبه من اضطرابات نفسية أو عاطفية وأحيانا أخرى خفيفة تتناغم مع سكونه العاطفي والنفسي فتأتي بألوان برتقالية خفيفة ، وفي بعض الأحيان يستغني عليها ليعمل بيده عن طريق تقنية والترميد مباشرة ليعبر على أن الذات المبدعة هي المتحكمة في زمام الأمور. فحين تقف أمام لوحاته تتمتع بها وتتمتع هي بسلبك مفهوم الزمان والمكان , فتستقطبك برموزها من خطوط عريضة وضيقة أفقية وعمودية ومائلة تؤثتها رموز نسائية وأعين تذكرنا بالتكعيبية لدى بيكاسو لكن بلمسة مغربية.

عموما إن التشكيلي بدرالتاديلي يؤسس لتشكيل يحمل بصمته ولا يبث لآخر بصلة لكن يستمد مشروعيته من تعدد الروافد التراثية والحضارية للمغرب، لأنه اعتبر الورشة مختبر علمي يجب الاعتكاف به للدراسة والتمحيص والخروج برموز فنية تشكيلية لها دلالات فكرية فلسفية تترجم رؤيته الفنية وتطلعاته التشكيلية في تقاطعها مع المستجدات المجلية والدولية لتغدو أعماله لوحات كونية تتكلم لغة التشكيل.





محمد مومر: : * من ثقافة الحركة الوطنية الى ثقافة الحركة المواطنة * الثلاثاء 6 دجنبر 2016 في التحوَل الثقافي

كتاب الفرد والمجتمع تأليف : ميشال فوكو...ترجمة حسين موسى

" جون ديوى": الفن خبرة - ترجمة زكريا إبراهيم - مراجعة زكى نجيب محمود - ( دار النهضة العربية - بالاشتراك مع مؤسسة فرنكلين) - (القاهرة - بيروت ) سبتمبر 1963.

- انظر صليبا، جميل: المعجم الفلسفي - جـ1 - دار الكتاب اللبناني - الطبعة الأولى - بيروت - 1971.

10- "هريرت ريد" معنى الفن - ترجمة سامي خشبة - مراجعة مصطفى حبيب - الهيئة - المصرية العامة للكتاب القاهرة - 1998 -
  • Like
التفاعلات: ماماس أمرير
عن الكاتب
خيرة جليل
https://www.facebook.com/khira.jalil
https://www.facebook.com/KhiraJalilArt/
https://www.facebook.com/KlmtWmny/
https://www.facebook.com/%D9%85%D9%86%D8%AA%D8%AF%DB%8C-%D8%A3%D8%AC%D9%86%D8%AD%D8%A9-%D8%A7%D9%84%D9%81%D9%86-%D9%84%D9%84%D8%B3%D9%84%D8%A7%D9%85-%D9%88%D8%A7%D9%84%D8%A7%D8%A8%D8%AF%D8%A7%D8%B9-%D9%88%D8%A7%D9%84%D8%AA%D9%86%D9%85%DB%8C%D8%A9-101273344766649/

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى