فنون بصرية سعيد بنكراد - تجليات الصورة.. سميائيات الأنساق البصرية

إهداء

إلى الصديقين: الأستاذ حسن منير والأستاذ سعيد أورزوق
وإلى جميع أستاذات وأساتذة السلك الثاني، فلولاهم ما رأى هذا الكتاب النور


شكر

أتقدم بجزيل الشكر إلى الأستاذين: أحمد الفوحي وإدريس جبري لتفضلهما بمراجعة هذا النص


مقدمة

لهذا الكتاب قصة. فقد استضافني منذ بضع سنوات خلت مجموعة من أساتذة السلك الثاني بإحدى نيابات التعليم بالدار البيضاء للتداول في طبيعة الصورة وقضاياها وطرق قراءتها. وقد فوجئت يومها بالحضور المكثف للأساتذة من كل الأعمار، وهذا دليل آخر على أن الضمير المهني عند هؤلاء كان دائما أقوى من مثبطات المحيط الرسمي والاجتماعي.

لا أحد أرغم هؤلاء على الحضور، ولم يجيئوا رغبة في التعرف على شخصي، بل كانوا يودون جميعهم فتح حوار حول أحسن السبل وأكثرها نجاعة في تدريس الصورة وتحليلها مع التلاميذ. وكانوا بذلك يؤكدون، مرة أخرى، ضرورة فتح جسور بين أسلاك التعليم. فقد تجاوزت ملاحظاتهم وأسئلتهم السياق الذي وضعت فيه مداخلتي. فأدركت حينها أننا لا نعرف في التعليم العالي إلا الشيء القليل عما يجري في مدارس البلاد وثانوياتها. وكنت أول من تعلم من هؤلاء. ويومها ولدت فكرة هذا الكتاب.

ما واجهه هؤلاء في أقسامهم هو ذاته ما يواجهه أساتذة التعليم العالي، أو بعض منهم على الأقل. فعلى الرغم من هيمنة الصورة واكتساحها لكل الفضاءات العامة والخاصة، وعلى الرغم من عبث الناس الدائم بالهواتف المحمولة بحثا عن "حقيقة" أخرى تنسيهم واقعا لا يورث سوى السأم والملل وكل أشكال الإحباط، ما زال قسم كبير من ساكنة هذه البلاد لا يعرف إلا القليل عن الصورة: طبيعتها ولغتها وطرق التدليل فيها. فالصورة عند العامة، وعند جزء كبير من الخاصة أيضا، هي تمثيل بريء لعالم بغاية استنساخه في نماذج تحل محله. وهذا ما يلمسه المكلفون بتدريس مادة الصورة في الجامعات، وهو ذاته ما أدركه الأساتذة في الثانوي عندما فاجأتهم وزارة التعليم كعادتها بإدراج ما يشبه "تحليل الصورة" في المنظومة التربوية دون تكوين مسبق ودون استشارة المعنيين بالأمر.

وهذا أمر يدعو إلى الدهشة حقا، فلم تعد الصورة عنصرا غريبا عن محيط الناس ومعيشهم اليومي. فنحن الآن ننتمي أكثر من أي وقت مضى إلى زمن التمثيل البصري بكل أشكاله، فلا أحد منا يمكن أن يتصور شوارع المدن والساحات خالية من الصور، أو يمكن أن يقتني شيئا يصفه ويحتفي بمزاياه النص المكتوب وحده. لذلك لم يعد من الممكن أيضا تجنب دراستها والتعرف على إواليات التمثيل والاستنساخ والتضليل فيها. فالصورة ليست مودعة في الكتب التوثيقية والألبومات، كما كانت قديما، إنها في كل مكان، لقد تراجعت حقائق الوجود أمام الاندفاع الأهوج لحالات الاستعراء والاستبصار والتلصص والاحتماء الدائم بالصورة كما يفعل ذلك هواة السيلفي بنرجسية مريضة أو ما يفعله آخرون اتقاء لشر زمنية تُدمر كل شيء في طريقها.

لم يعد الطفل يتعرف على محيط بِكْر تبنيه حقائق ناطقة في وجود مادي، فحقائق هذا الوجود وتفاصيله تأتيه اليوم بواسطة الصورة أولا، وبعد ذلك تلتقط عيناه أشياء تكون صورتها في وجدانه نسخة سابقة بُنيت في الآلة بفضل تعديلات وتحسينات فوتوشوب، واستنادا إلى مسبقات المصور ومواقفه. وتلك حالة الحشود من التلاميذ والطلبة والمتعلمين من كل فئات الشعب. إن الصورة عندهم هي الحقيقة الوحيدة القابلة للتداول: لم تعد تُضحكنا مواقف الناس في الشوارع والحارات والأسواق، فنحن لا نكتشف المتعة فيها إلا عندما يتقاسمها الناس في الفايسبوك أو ينشرونها عبر الواتساب. وهذا معناه أن الصورة لم تعد وسيطا، إنها الواقعة والمنتج والجسد والطبيعة ذاتها، فهي لا تستنسخ واقعا، كما تَوَهمنا ذلك قديما، بل تُنتج نسخا منه مزيدة ومعدلة ستتحول مع الوقت إلى شاشة صماء تفصل بيننا وبين حقائق حياتنا كما ألفتها أعيننا.

لقد أُلتُقطت، حسب بعض الإحصاءات، ما يقارب 850 مليار صورة سنة 2012، ظل أغلبها حبيس العوالم الافتراضية ولم يعرف طريقه أبدا إلى السند الورقي[1] (1)، فقد تداول الناس هذا الكم الهائل منها في شبكات التواصل الاجتماعي بعيدا عن أي غاية فنية أو جمالية. لقد بدأوا يستنبتون أو يستثيرون في الافتراضي، بواسطة الصورة، سلسلة من الوضعيات التي يتوهمون أنها هي حقيقة الواقع وذاك مصدرها الوحيد. واستكانوا بعد ذلك لما استنبتوه هم أنفسهم، فتحول "الواقع" ذاته إلى لحظة هشة عابرة في الوجدان سرعان ما تتلاشى وسط حقائق تُبنى في عالم افتراضي ليس معنيا بتعقيدات الحقيقة الواقعية وطابعها المركب.

وهذه الحقيقة الجديدة هي التي تُحتم علينا الاعتناء بالصورة ومساءلتها والبحث في تفاصيل التمثيل البصري ذاته للكشف عما يخفيه وهم الاستنساخ. فذاك هو السبيل نحو استعادة الحياة أو بعض منها، كما يمكن أن تعيشها العين في محيط يَهَبُ بالمجان الورود والزهور والشمس والمطر كما هي في المراعي والبساتين، لا كما تقترحها الصورة على العين. إن النظرة حرة في الطبيعة، إنها ترى وتتأمل ما ترى وتعيد رؤيته وفق ممكنات الوجود ذاته؛ أما في الصورة، فإنها لا ترى إلا ما يبيحه "التلفظ البصري"، فالعين فيه لا تستنسخ، بل تنتقي ما يرغب الناظر فيه ويشتهيه. وهو ما يعني أن الواقع مودع في الآلة، وليس واجهة من واجهات الممتد الطبيعي أمام العين. لقد تغيرت علاقتنا مع محيطنا، إنه يأتينا عبر برمجيات تلتقط المصور وفق المتاح فيها، لا عبر ممكنات النظرة في العين.

لا أمل لنا في العودة إلى الوراء، ولا رجاء في التخلص من مظاهر العبثي في حياتنا، فلا أحد يستطيع الوقوف في وجه التقدم، لقد قُضي الأمر، وعلينا أن نقبل بما أفرزته الأزمنة المعاصرة. ومع ذلك بإمكاننا توجيه ما تنتجه الآلة وتقدمه بديلا عن الممارسة الطبيعية للحياة إلى ما يُغني وجودنا وينوع من مظاهره. فالحياة ستظل دائما أقوى من العوالم العارضة التي تقدمها الصورة. فلاشيء يمكن أن يحل محل الدفء الإنساني كما يتحقق في العلاقات الإنسانية بنقصها وهشاشتها ومحدوديتها. صحيح أن الجمال موجود في اللوحة لا في الطبيعة، ولكن الطبيعة ستظل، مع ذلك، هي مادة الجميل ومصدره. "إن العين مصباح الجسد"، كما قال السيد المسيح، فلكي نستمتع بالنور علينا أن نفتح العين على محيطها، لا أن نروضها لكي لا ترى سوى المصطنع أمامها.

استنادا إلى هذه الإبدالات الجديدة حاولنا في هذا الكتاب تقديم ما نعتقد أنه قد يسهم في تحقيق هذا المسعى، أو يلامس بعضا من مظاهره على الأقل. لم نُـمجد الصورة ولم ندع إلى تجنبها أو نبذها أيضا. لقد تعاملنا معها باعتبارها لازمة وجودية، مثلها مثل اللغة وباقي الوسائل التعبيرية التي اعتمدها الإنسان في سيرورة انفصاله عن كائنات محيطه، وتلك كانت جزءا من امتداداته الحقيقية خارج طبيعة تكتفي بالمتاح فيها وحده. فما تراه العين في الطبيعة لم يكن منفصلا أبدا عما خطته اليد على جدران الكهوف. لذلك اعتُبرت الصورة أيضا لغة تُنتج هي الأخرى معانيَ قد لا تتحقق في اللغة بالقدر نفسه من الوضوح، ولكنها توجه الوجدان إلى ما أغفلته الكلمات أو تجاهلته.

يتكون هذا الكتاب من ثمانية فصول: خصصنا الفصول الثلاثة الأولى للحديث عن الصورة وطبيعتها وتاريخها واستعمالاتها المتنوعة استنادا إلى حاجات الناس وعلاقاتهم مع الموت والحياة والخلود، وعلاقتهم مع المرئي واللامرئي في الوقت ذاته. وتناولنا فيها أيضا علاقة اللفظي بالبصري، فما تقوله الصورة لا يمكن أن يتسرب إلى الوجدان إلا عبر تمثيل مفهومي يتعرف من خلاله الذهن على محيط لا يصبح قابلا للإدراك والتداول إلا عبر اختصار التجربة الواقعية في صيغ تجريدية تحل محلها. ولكنها مع ذلك لا يمكن أن تكون مكملا أو مرادفا للغة، إنها تفتح النفس على حسيتها بما يستثير المتعة في النفس من خلال هذه الحسية ذاتها، وتلك طبيعة الفن.

ومن أجل ذلك حاولنا تحديد طبيعة العلامة البصرية ومكوناتها. فنحن نتعامل مع الصورة باعتبارها من منتجات النظرة لا حاصل إبصار محايد، فالنظرة فيها وحدها يمكن أن تحدد حقيقتها في الوجود وفي إواليات التمثيل لحقائق من طبيعة بصرية. فليست النظرة كاللفظ، وهذا معناه أن تركيب العلامة البصرية من طبيعة خاصة هي المحددة لطرقها في إنتاج معانيها والتنويع منها ( أفعال البصر). وهذا ما دفعنا مرة أخرى إلى الانطلاق من النموذج الذي تقدمه العلامة اللسانية من أجل الإحاطة بالطبيعة الخاصة والمميزة للعلامة البصرية. إن النموذج اللساني يؤول المثيرات البصرية ويمنحها معنى.

وتناولنا في الفصول الثلاثة الثانية قضية اللغة البصرية ذاتها، أي طريقة الصورة في إنتاج معانيها. وقدمنا الكثير من التفاصيل الخاصة بهذه القضية. فالصورة تنتج معانيها استنادا إلى سلسلة من القواعد لا يمكن للجاهل بها أن يدرك، فيما هو أبعد من التمثيل، سوى وجود الأشياء ذاتها. هناك مستويان متضافران يقودان إلى تحديد السبل المركزية للإمساك بالمعنى في الصورة:

-مستوى أيقوني، ويتضمن الإحالة على كل الموجودات في الكون، الحقيقية منها أو المخيالية، وكذا شكل حضورها في الصورة، ما يعود إلى الإنسان في المقام الأول، أي جسده وحركاته، جلوسه ووِضعته، نظرته ولباسه، وما يعود إلى الطبيعة بكل ظواهرها ( المطر والبرق والعواصف والأنهار والأشجار...) وما يعود إلى أشيائها وكائناتها من حيوانات وطيور وغيرها. فهذه العناصر تغادر بنيتها الأصلية لكي تلج الصورة محملة بدلالاتها الأصلية وتُستنبت داخلها ضمن بنية جديدة تمنحها بعدا دلاليا جديدا، وذاك هو المضاف في الصورة.

-وهناك مستوى ثاني هو المستوى التشكيلي، ويتعلق الأمر فيه بكل التقنيات التي يستعملها المصور وتحضر من خلالها الصورة أمام العين ( التأطير واللقطات وزاوية التقاط المشهد والتركيب) من جهة، والألوان والأشكال والخطوط من جهة ثانية. فقد تكون هذه المظاهر صامتة في الطبيعة، ولكنها في الثقافة، محشوة بدلالات سابقة، بعضها كوني يشترك فيه جميع الناس، بوعي ثقافي صريح، أو بحدس نفسي لاشعوري. ويكون بعضها الآخر حاصل التلوين القيمي المحلي.

وقدمنا في الفصل السابع مجموعة من الملاحظات حول رسوم الكتاب المدرسي. لم نقم بتحليل هذه الرسوم، ولم نبحث في ذاكرتها عن عناصر أخرى غير ما يمكن أن تقوله هي بشكل مباشر. لقد كانت غايتنا هي محاولة تحديد الروابط بين الرسم والنص المصاحب له. وكنا نطمح، من خلال هذا الربط، إلى الكشف عن الانزلاقات التي تجعل الرسم أحيانا استطرادا بلا معنى، أو مجرد محاولة لضبط مفهوم حديث من خلال تسريبه إلى نص يوازي بينه وبين الموروث التراثي في أغلب الأحيان.

أما في الفصل الثامن فقدمنا بعض الملاحظات حول الصورة الإشهارية: حول طبيعتها أولا، فما يشتريه الناس ليس منتجات، بل صور هي ما يلتقطه الوجدان ويحتفي به، وحددنا من خلال ذلك آليات أولية للتسويق. فالصورة لا تُخبر فقط، إنها بالإضافة إلى ذلك، أو هي في المقام الأول، محاولة لتوجيه الرغبة، من خلال المنتج، نحو سلسلة من الاستيهامات هي المضمون الحقيقي للوصلة. وتوقفنا في الأخير عند نموذج واحد هو حضور المرأة في الوصلة الإشهارية.

والمؤمل أن يقدم هذا الكتاب بعضا من العون لكل الراغبين في معرفة الطريقة التي تنتج الصورة من خلالها بعضا من معانيها.




[1] - Elsa Godart : Je selfie donc je suis, les métamorphoses du moi à l’ere du virtuel, éd Albin Michel, 2016, p.49




مقدمة
الفصل الأول :مفهوم الصورة
الفصل الثاني : اللغة والصورة، بين اللفظي والبصري
الفصل الثالث : طبيعة العلامة البصرية ومكوناتها
الفصل الرابع : كيف تُنتج الصورة معانيها I ؟
الفصل الخامس : كيف تُنتج الصورة معانيها II ؟
الفصل السادس : كيف تنتج الصورة معانيها III ؟
الفصل السابع : رسوم الكتاب المدرسي : ملاحظات عامة
الفصل الثامن : الصورة الإشهارية ، صورة المرأة

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى