سمية حطري - إشكالية السرقات الشعرية في النقد القديم

المعاني المشتركة العامة وإشكالية السرقات الشعرية في النقد العربي القديم

حتى نحكم بالسرقة أو الابتكار، لا بد من سعة في المعرفة والاطلاع الواسع على التراث الأدبي، عبر العصور الطوال، وحفظ الكثير منه حتى يسهل ربط المتقدم بالمتأخر، ويعرف السابق من اللاحق[1]، لأن السرقة تعود للنصوص السابقة سواء من زمن متقدم أو متأخر.

لذا لا يمكن لنا الحكم بالسرقة إن لم نكن على دراية بالنصوص السابقة، ونحفظ الكثير منها، بحيث يكون الحديث عن السرقات اجتهادا مبنيا على العلم الواسع المدى، حتى نحيط ببعض هاته النصوص الكثيرة التي أهمل بعضها[2]. هذا ما أكده ابن رشيق بالنسبة للشاعر، وينطبق هذا أكثر على الناقد لأن "الشاعر مأخوذ بكل علم مطلوب لاتساع الشعر واحتماله كلما حمل من نحو ولغة وفقر وجبر وحساب"[3].

كما أن كل شاعر، محتاج أن يقرأ لأسلافه، والحفظ لأشعارهم حتى ترسخ بذاكرته، هذا ما وضحه ابن خلدون في كتابه " المقدمة ":

" اعلم أن لعمل الشعر وأحكام صناعته شروطا أولها الحفظ من جنسه أي من حسن شعر العرب حتى تنشأ في النفس ملكة ينسج على منوالها ويتغير المحفوظ من الحر، ومن كان خاليا من المحفوظ فنظمه قاصر رديء فمن قل حفظه أو عدم لم يكن له شعر. واجتناب الشعر أولى بمن لم يكن له محفوظا"[4]؛

الشاعر الحاذق لا يكتفي بالحفظ، وإنما ينساه حتى ينقش في ذاكرته. ويبقى عالقا فيحصل تفاعلا وتداخلا نصيا واضحا عند ممارسة النظم، لأن الأساس الموجود هو الذي يساعد على تكوين تجربة جديدة ناجحة.

وربما يقال إن من شرطه "نسيان ذلك المحفوظ لتمحى رسومه الحرفية الظاهرة، إذ هي صادقة عند استعمالها بعينها، فإذا نسيها وقد تكيفت النفس بها انتقش الأسلوب فيها كأنه منوال يأخذ بالنسج عليه بأمثالها من كلمات أخرى ضرورة"[5].

وقد شبه شعراؤنا ونقادنا القدامى لهذا التداخل النصي واعترفوا به منذ العصر الجاهلي، فعنترة ابن شداد، قد لاحظ أن هناك شعراء سبقوا إلى نظم المقدمات الطللية، وأن جل شعراء هذه الفترة يسيرون نفس الخطوات في نظم قصائدهم، فتتفاعل وتتداخل نصوصهم فيما بينها.

هل غادر الشّعراء من متردّم = = =أم عرفت الدّار بعد توهّم[6]

ويبين هذا كعب بن زهير وكأن تلك الأشعار يستثيرها ويتبادلها الشعراء أو يعيدونها عن طريق التكرار.

ما أرانا نقول إلاّ معــارا = أو معادا من لفظنا مكرورا[7]

ويؤكد هذا التوارد أبو عمرو بن العلاء لما سئل أرأيت الشاعرين يتفقان ويتواردان في اللفظ، لم يلق واحد منهما صاحبه، ولم يسمع بشعره؟ فأجاب قائلا: "الشعر جادة، وربما وقع الحافر على الحافر"[8].

ربما لولا هذا التداخل النصي، الذي يرجعنا إلى الأخذ من قول السابقين بتكراره أو استرجاع جزء منه لنفذ حديثنا، ولم نجد ما نقوله. يذكر أبو هلال العسكري في الصناعتين قول الإمام علي بن أبي طالب كرم الله وجهه: "لولا أن الكلام يعاد لنفذ"[9]. هذا الرجوع المستمر إلى المخزون الفكري، من النصوص السابقة يعود إليه أبو تمام في شعره:

يقول من تفرغ أسماعـه = كم ترك الأوّل للآخـر[10].

رجوع الأديب بصفة عامة إلى مختلف العلوم والنهل منها، أمر طبيعي وضروري. هذا ما يؤكده ابن عبد ربه: "من أراد أن يكون عالما، فليطلب علما واحدا، ومن أراد أن يكون أديبا فليتسع في العلوم"[11]. ولكن شرط ألا يكون سرقة ونهبا واختلاسا، وهذا ما نستنتجه من خلال تقسيم النقاد العرب القدامى للسرقات الأدبية إلى مباحة، ومذمومة، فالأولى تعد تناصا والثانية سرقة. أما المعاني المشتركة العامة فلا تعد سرقة. فما المقصود بذلك؟

المعاني العلمية المجردة هي معان عامة متقررة في نفوس الجميع، تتناقل بين الناس جميعا، فلا مجال للسرقة الأدبية في المعنى العام؛ وهذا ما ذهب إليه الجاحظ في قوله: "نظرنا في الشعر القديم والمحدث فوجدنا المعاني تقلب ويؤخذ بعضها من بعض"[12].

ربما لم يهتم الجاحظ بالسرقات، لأنه كان يرى أن الأفضلية للشكل الشعري، وأن المعاني قدر مشترك بين الناس: "والمعاني المطروحة في الطريق، يعرفها العجمي والعربي، والبدوي والقروي وإنما الشأن في إقامة الوزن، وتمييز اللفظ، وسهولته، وسهولة المخرج، وفي صحة الطبع، وجودة السبك"[13].

ومن المعاني العامة يذكر الآمدي بيتا من البحر البسيط لأبي تمام:

ألم تمت يا شقيق الجود منذ زمن = فقال لي: لم يمت من لم يمت كرمه[14].

قال الآمدي إن أبا تمام أخذه من بيت من البحر الكامل للعتابي:

ردّت صنائعه إليه حياته = فكأنّه من نشرها منشور

وما لا يقال فيه مسروق من قبيل "إذا مات الرجل من أهل الفضل والخير، وأثنى عليه بالجميل، أن يقولوا: ما مات من خلق هذا الثناء، ولا من ذكر بمثل هذا الذكر، وذلك شائع في كل أمة وكل لسان"[15]. مثل هذه الأقوال لا تعد سرقة لأنها شائعة متداولة بين الناس، يعرفها الكل ويرددها.

ينقل ابن رشيق في كتابه "العمدة" ما رواه عبد الكريم بن ابن إبراهيم النهشلي من آراء السابقين حول السرقات، ومنها ما يتعلق بالمعاني العامة، التي لا تعد سرقة وإنما اشتراكا وتداولا بين الناس: "والسرق أيضا إنما هو في بديع المخترع الذي يختص به الشاعر لا في المعاني المشتركة"[16].

ويقسم عبد القاهر الجرجاني المعنى إلى مشترك وخاص بطريقة تمتزج فيها البلاغة بالفلسفة. ويتفق الشاعران مع الأخذ والسرقة والاستمداد والاستعانة[17]. أما النوع الأول فهي المعاني الخاصة فيجعلها في الاتفاق في الغرض على العموم؛ والاتفاق في وجه الدلالة على الغرض.

أما النوع الثاني وهي المعاني العامة فقسمها على النحو التالي:

أولا، مما اشترك فيه الناس في معرفته وكان مستقرا في العقول والعادات، (حكم العموم) كالتشبيه بالأسد في الشجاعة. وثانيا، على الثاني أن يجتهد فيدعى فيه الاختصاص والسبق. والأولوية، وإن يجعل فيه سلف وخلف، ومفيد ومستفيد. وبالتالي سمى عبد القاهر الجرجاني المعاني المشتركة معاني عقلية، والمعاني الخاصة، معاني تخيلية[18].

أما ابن الأثير، في المثل السائر، فيقرّر أن الأصل المعتمد عليه في باب السرقات هو "التورية والاختفاء"، وهو يعارض من يرى بأن المعاني المبتكرة سبق إليها، ولم يبق معنى مبتدع وفي ذلك يقول: "والصحيح أن باب الابتداع للمعاني مفتوح إلى يوم القيامة ومن الذي يحجز على الخواطر وهي قاذفة بما لا نهاية له؟"[19].

وهو يشترك في أن المبتدع من يسبق في الفكرة لأول مرة. كما يقدر أن هناك معاني مشتركة، ظاهرة تتوارد الخواطر عليها من غير كلفة وتستوي على إيرادها. ومثل ذلك لا يطلق على الآخر فيه اسم السرقة من الأول، وإنما يطلق اسم السرقة في معنى مخصوص، وتكون الحكاية فيها مشهورة.

ويقر الجرجاني يقر بصعوبة الحكم بالسرقات، ويذكر أنه باب لا ينهض به إلا الناقد البصير والعالم المبرر، وليس كل من تعرض له أدركه[20]. وهو ينفي السرقة عن التشبيهات في الأمور التي يشترك فيها الناطق والأبكم، والفصيح والأعجم، والشاعر والمنجم، كتشبيه الحسن بالشمس والبدر، والبليد البطيء بالحجر والحمار[21].

كما يذكر الجرجاني أن العامة والخاصة لم تزل تشبه الورد بالخدود والخدود بالورد نثرا ونظما. وتقول فيه الشعراء وتكثر، وهو من الباب الذي لا يمكن ادعاء السرقة فيه إلا بتناول زيادة تضم إليه أو معنى يشفع به[22].

ولا يعد الجرجاني من السرق الصحيح إلا ما جمع اتفاق الألفاظ، وتساوي المعاني، وتماثل الأوزان، فأخرج من السرقات كلا من التوارد؛ والمعاني المشتركة بين الشعراء (بدر، بحر)؛ والاقتباس من القرآن الكريم والحديث الشريف والأمثال؛ وإذا جاء الأول فأخذ من المعنى العام المتداول ثم جاء متأخر فأخذ من المعنى واللفظ فلا يعد هذا سرقة[23].

ويدرج أبو هلال العسكري في "الصناعيين" فصلين للحديث عن السرقات، قبح المأخذ وحسنه. أما حسن المأخذ عنده فمنه "المعاني مشتركة بين العقلاء، فربما وقع المعنى الجيد للسوقي والنبطي والزنجي وإنما تتفاضل الناس في الألفاظ ورصفها وتأليفها ونظمها وقد يقع للمتأخر معنى سبقه إليه المتقدم[24] من غير أن يلم به، ولكن كما وقع للأول وقع للآخر". إذن الأساس هو كيفية صياغة هاته المعاني المشتركة.

ويشير الآمدي إلى أن أبا الضياء في كتابه "سرقات البحتري من أبى تمام " أورد واحدا وأربعين مثلا من المعاني المستعملة الجارية مجرى الأمثال. وذكر أن البحتري أخذها من أبي تمام، فناقش الأسدي هذه الأمثلة، وقال إن الأمر هو اتفاق بين الشاعرين في المعنى لا أمر أخذ الواحد من الآخر، فما هو بسرقة، وإنما اتفاق في الكلام ومعاني العرب[25].

على سبيل المثال، قول أبي تمام:

جرى المجد مجرى النّوم منه فلم يكن = بغير طعان أو سماح حالم[26]

وقول البحتري:

ويبيت يحلم بالمكارم والعلى = حتّى يكون المجد جلّ منامه[27]

ويؤكد الآمدي في "الموازنة" أن السرق لا يوجد في المعاني المشتركة، وإنما في المعاني المخترعة الخاصة. أما الاشتراك في المعاني بين شاعرين متقاربين فأمر طبيعي "وغير منكر لشاعرين متناسبين من أهل بلد متقاربين أن يتفقا في كثير من المعاني، لا سيما ما تقدم الناس فيه، وتردد في الأشعار ذكره وجرى في الطباع والاعتياد من الشاعر وغير الشاعر استعماله"[28]، كتمثيلهم الشجاعة بالأسد فهذا أمر متداول عندهم.

معظم الدراسات النقدية القديمة التي رجعت إلى السرقات الشعرية كانت تفرق بين "المعاني المشتركة التي لا يجوز ادعاء السرقة فيها، والمتبذل الذي ليس أحد أولى به، وبين المختص الذي حازه المبتدئ فملكه، وأحياه السابق فاقتطعه، فصار المعتدي مختلسا سارقا والمشارك له معتديا تابعا وتعرف اللفظ الذي يجوز أن يقال فيه: أخذ ونقل، والكلمة التي يصح أن يقال فيها: هي لفلان دون فلان"[29].

يقول الجرجاني بشأن المعاني المشتركة، إنها متبادلة بين كل البشر فإن شئت أن ترى ما وصفته لك بخصوص المعاني المشتركة بالعين المجردة، وتعلمه علما يقينا لا شك فيه، فاعترض أول عامي غافل تستقبله، وأعجمي جلف تلقاه، ثم سله عن البرق فإنه يؤدي إلى قول عنترة:

إلا ياما لذا البرق اليماني = يضيء كأنه مصباح بان[30]

وإن لم يذكر لك " البان" لجهله بعادة العرب في الاستصباح به، فإنه يؤدي بك إلى معنى امرئ القيس:

يضيء سناه أو مصابيح راهب = أمال السّليط بالدبال المفتل[31].

وهنا الشعراء يشتركون في الشيء المتداول، لكن قد يضيف أحدهم لفظة جديدة تروقه، أو اهتدى إليه، فكل الشعراء يشتبهون الطلل بالكتاب، فيرى أن لبيد بن ربيعة كان مبتدعا في صياغته قائلا :

وجلا السّيول على الطّلول كأنها = زبر تجد متونها أفلامها[32]

وهذه المعاني مشتركة متداولة بين الناس والعودة إليها لا تعد سرقة.

من خلال كل ما تقدم عن المعاني العامة المشتركة نصل إلى أن النقد العربي القديم لم يرجعها إلى السرقات وإنما اعتبر العودة لها وتكرارها أمرا عاديا طبيعيا.

= = = =

الإحالات

1= أبو علي الحسن ابن رشيق القيرواني، العمدة في محاسن الشعر وآدابه ونقده، تحقيق عبد الحميد هنداوي 1-2، المكتبة العصرية، بيروت، 2004، ص 82.

2= علي بن عبد العزيز الجرجاني، الوساطة بين المتنبي وخصومه، تحقيق وشرح محمد أبو الفضل، إبراهيم علي محمد، يمباوي، منشورات المكتبة العصرية، صيدا بيروت، ص 214.

3= بدوي طبانة، السرقات الأدبية: دراسة في انتحال الأعمال الأدبية وتقليدها، دار الثقافة، بيروت، لبنان، 1986، ص 4.

4= بدوي طبانة، السرقات الأدبية، ص 9.

5= ابن رشيق، العمدة في نقد الشعر ونقده، ص 171.

6= عبد الرحمن ابن خلدون، المقدمة، دار الكتب العلمية، بيروت، لبنان، ص 476.

7= علي بن عبد العزيز الجرجاني، الوساطة بين المتنبي وخصومه، تحقيق وشرح محمد أبو الفضل، إبراهيم علي محمد، يمباوي، منشورات المكتبة العصرية، صيدا بيروت، ص 214.

8= بدوي طبانة، السرقات الأدبية: دراسة في انتحال الأعمال الأدبية وتقليدها، دار الثقافة بيروت، لبنان، 1986، ص 4.

9= بدوي طبانة، السرقات الأدبية، ص 9.

10= ابن رشيق، العمدة في نقد الشعر ونقده، ص 171.

11= عبد الرحمن ابن خلدون، المقدمة، دار الكتب العلمية، بيروت، لبنان، ص 476.

12= أبو عبد الله الحسين بن أحمد الزوزني، شرح المعلقات السبع، دار الفكر للطباعة والنشر والتوزيع، بيروت، لبنان، ص 191.

13= كعب بن زهير، الديوان، قدم له محمد يوسف نجم، بيروت، 1995، ص 31.

14= الحاتمي أبو علي محمد بن الحسن، الرسالة موضحة، تحقيق محمد يوسف نجم، دار بيروت، 1965، ص 163.

15= الحسن بن عبد الله العسكري، كتاب الصناعتين، الكتابة والشعر، تحقيق علي محمد البجاوي ومحمد أبو الفضل ابراهيم، المكتبة العصرية، صيدا، بيروت، 1998، ص 196.

16= إيليا الحاوي، شرح ديوان أبي تمام، دار الكتاب اللبنانيين، 1980، ص 270.

17= ابن عبد ربه، العقد الفريد، ج2، المطبعة الشرقية للقاهرة 1916، ص 99.

18= أحمد سليم غانم، تداول المعاني بين الشعراء: قراءة في النظرية النقدية عند العرب، المركز الثقافي العربي، الدار البيضاء، المغرب، 2006، ص 13.

19= الجاحظ، الحيوان، تقديم أحمد فؤاد باشا، عبد راضي، مكتبة الأسرة، من عيون التراث، ج 3، 2004، ص 444.

20= أحمد سليم غانم، تداول المعاني بين الشعراء: قراءة في النظرية النقدية عند العرب، المركز الثقافي العربي، دار البيضاء المغرب، 2006، ص 13 نقلا عن زهر الآداب وثمر الألباب، لأبي إسحاق، إبراهيم علي الحصيري القيرواني، تحقيق علي محمد البجاوي، ج 2، ص 739.

21= الآمدي، الموازنة بين أبي تمام والتبريزي، تحقيق أحمد صقر، ص 123.

22= ابن رشيق، العمدة، ج1، ص 282.

23= عبد العزيز عتيق، في النقد الأدبي، دار النهضة العربية للطباعة والنثر، بيروت، الطبعة الثانية، 1972، ص 351.

24= عبد القاهر الجرجاني، أسرار البلاغة، تحقيق محمد الفاضلي، المكتبة العصرية، بيروت، 2003، ص196.

25= إحسان عباس، تاريخ النقد الأدبي عند العرب، نقد الشعر من ق2 إلى 8هـ، دار الشروق الأردن، ص 9.

26= ابن الأثير، المثل السائر في أدب الكاتب والشاعر، تحقيق محمد محي الدين عبد الحميد، المكتبة العصرية،رلابيروت، 1999، ص 342

27= عبد العزيز عتيق، في النقد الأدبي، ص 353

28= الجرجاني، الوساطة بين المتنبي وخصومه، ص 183.

29= المرجع السابق، ص 183.

30= الجرجاني، الوساطة بين المتنبي وخصومه، ص 187

31= المرجع السابق، الصفحة السابقة.

32= أبو الهلال العسكري، الصناعيين، ج1، ص 196.



د. سمية حطري - الجزائر

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى