محمد المصطفى موسى – الطين و الدعاش.. قصة قصيرة

كدأبه منذ بدء الخليقة ، لملم الليل أطرافه المبعثرة بخطىً حثيثة وانصرف .
طاردته طلائع النهار بشغفها المعهود حتى غيّبه الأفق . كعادته ، إستفاق " محمدو" على طنين ذبابة لئيمة وهي تغزو حدقات عينيه بعنادٍ حميس . أزاحها عن وجهه بكف يده اليمني ، فبقيت تحوم في حماه .. تتربصه كما يتربص الصياد احدى فرائسه . حسناً ..
هذا اليوم بؤسه بادٍ منذ وهلته الأولى التي لا يعقبها مثلها إلا ما أعتاده من نهايات خاسرة .
جالت بذهنه المغتم أطياف من معاركه الحياتية التي انتهى جلها بخيبات مدوية . مضى لا يلوي على شيء وهو يغرس نظراته في صورة وجهه التي توسطت المرآة .. دلق عليه نصف دلوٍ من الماء دون أن ينزاح معشار ما بدا له من قسماته المتجهمة .

حسناً.. عليه الآن أن يتصالح مع أخطاء القراءة العديدة التي درج عليها والده الثمانيني وهو مكبٌ على وجهه يتلو ما تيسر له من المصحف . لماذا يساكن محمدو بسنوات عمره الخمسين أباه وحيداً ؟ هذا سؤال جيد .. بيد أنها حكاية يطول شرحها .. أصل القصة أن هذه الأسرة بأكملها ليست سوى تجسيد لكل معاني كلمة سوء الحظ و مترادفاتها الممكنة . الأب عبدالبارئ الكشيف كان يعمل " مراسلة " بمصلحة البريد والبرق قبل أن يغريه صديق عمره حسن الضاوي بإلاستقالة ليعملا معاً بتجارة المانجو . بدأت المغامرة من "مريدي " بجنوب السودان حيث تفوق أعداد شجيرات هذه الثمرة الحلوة أضعاف سكان الجنوب بأسره .
عبأ الصديقان عشرات الشاحنات من هناك نحو الخرطوم ، فأقبل عليها الموردون بتهافت حثيث . في لمح البصر ، أقبلت عليه الدنيا بعدما شغفته بطول تمنعٍ و إباء. لاعبته كفتاة تعرف كيف تستدرج نحوها الطامعين بجسدها الممتليء بتفاصيل الغواية. عرفته حانات الأرمن والأغاريق التي كانت تضج بها شوارع خرطوم السبعينات بوسطها المزدحم بخلق الله . هناك تُبذل الخمر المعتقة على كؤوس زجاجية دائرية ، فتتلألأ أطرافها كما يتلألأ البرق الخاطف بقلب سماءٍ تنذر بالمطر . كل ذلك استثار مكامن النزق في نفسه القلقة فاندفع يستكشف عوالم طاولات القمار.
غمرت لذائذ المكسب السريع حواسه الخمس قبل أن تذيقه الطاولات ذاتها علقم الخسائر ومرارة الخيبات ..
كان محمدو شاباً في السابعة عشرة من عمره عندما حل الثراء المباغت ضيفاً على دارهم بلا إستئذان . أربكهم جميعاً وشتت شملهم وكأنه جحافل غزاة دكت ببأسها بلدة آمنة مطمئنة. والدته الرضية بنت جابر صارت متنازعة بين مطالعة ذراعيها اللذين إمتلأ أحدهما بغوائش الذهب وبين مجابهة مغامرات زوجها التي صارت أبرز عناوينها الخمر والنساء والمقامرة .
آه من هذه الدنيا حين تجعل من امرأة عُرفت بالحكمة والتدبير مثلها ، إلهاً اغريقياً آخر.. ينظر في اتجاهين مختلفين و كأنه " يانوس" أثينا القادر على كل شيء . إنشقت الأرض وابتلعت بجوفها هدأة البال في هذا البيت حتى لم يعد مكاناً صالحاً للعيش . حتى عثمان شقيقه الأكبر اجتذبه الجاه بمغناطيسه الآسر فقرر أن يتقدم للكلية الحربية ليصبح ضابطاً تلتمع كتفه ب"دبابير" السلطة كما يمتليء جيبه بأوراق البنكنوت .
تخبطت المسالك بمحمدو ، فترك دراسته متذرعاً بموهبة زعزعته تجاه الأدب والكتابة . سيصبح كاتباً مرموقاً في لمح البصر مثلما صار أبوه ثرياً قبل أن يرتد إليه طرفه الحائر .. لم لا ؟ هذا بيت لا يحمل من فيه في رؤوسهم أي فكرة عن أي شيء . حين يثقلهم الفقر يلعنون كل من حولهم بحقدٍ صامت قتّال .. وحين يغمرهم الغنى يقبلون على موائده فيلتهمون ما فيها بأصابع شرهة لا تعرف الشبع . هؤلاء كالبهائم يتخبطون في اللذائذ بلا خطة و لا سبيل. ليس مهماً بالنسبة له ما قالته تلك العجوز الخرفة .. "أم نورين" . يلقبونها بعرافة الحي و مستودع حكمته . قالت بصوتها المبحوح :
" بيت عبدالباري يتراءى لي كصقر الجديان يرتفع عالياً فوق رؤوسكم جميعاً .. ولكن لا تسألوني عما سيحدث بعدئذ ، أما هذا الولد - وقد أشارت إلى محمدو - فإني أراه كخادم الفقيه يتخطف الناس تمره دون أن يتذوق منه شيئاً" .
كلام بلا معنى بذلته هذه الشمطاء مثل غيره من تخرصات المنجمين الكذبة . هبْ أن الصدفة لعبت دوراً في جعل بعضه حقيقة . هبْ أنه ما زال هناك من يؤمن بعنقاوات الخرافة والأساطير من هذا النوع . أليس هو بقادرٍ - بنجاحاته التي ستتبع موهبته بلاشك - على تحويل تلك الترهات إلى هباءٍ من الأوهام ؟ .. سيخرج إذن من هذه المحنة محاصراً بما يكفي من سبابات المدح والإعجاب .. وستصبح قصة الأديب الشاب الذي خرج من بيتٍ أحتشد بالترف والسرف ، سيرة تلوكها الألسن بشغف لتقبع مخلدة في الذواكر .

أرسل عشرات المقالات للصحف المختلفة .. تجاهلوه في البداية ولكن تصميمه اشتعل كجذوةٍ لاهبة . غاندي قالها من قبل.. سيتجاهلونك .. إذن أنت الآن تضع قدميك على الطريق الصحيح ! قرر أن يحمل مقالاته بنفسه ليقابل رؤساء تحرير تلك الصحف المأفونة . وضع على جسده النحيل بدلة أنيقة وربطة عنق زاهية وأعد نفسه لنقاشات طويلة سيخرج منها منتصراً حين يتفهم هؤلاء طبيعة العبقرية التي كانت تنضح بها كتاباته .
ترفعوا عن مقابلته جميعاً فيما عدا رئيس تحرير مجلة "صوت العقل " المغمورة . هي مجلة نصف شهرية ولكن لا بأس منها كزقاق يقود إلى ما يصبو إليه من تأكيد لذاته . قابله ذلك الرجل بفتور فلما اطلع على احدى مقالاته.. تفلتت من صدره ضحكة مجلجلة وهو يقول : كيف يكون عنوان مقالك : " ترهاقا الفرعون النوبي الذي حكم مصر" وانت تكتب كلمة "الذي" بالزاي وليس بالذال ؟ .. خرج منه هائج النفس ، ممزق الكرامة .. فنفخ كل غيظه في سيجارة ولما ألقى بعقبها إلى الأرض تذكر ما قاله غاندي .. بعد تجاهل طويل ، سيقابلونك بما يكفي من السخرية ! لا تجزع يا محمدو أنت على بعد ياردات قليلة من النصر الساحق .. وهي ذات المسافة الضئيلة التي تفصل بين حرفي الذال والزاي في ترتيب حروف الهجاء . ستدهسهم جميعاً يا محمدو بظفرك المبين كما تدهس شاحنة عملاقة مجموعة من القطط الغافلة على طريق الأسفلت . ظل يلهث وراء أمانيه المتوهمة حتى داهمت دارهم الأقدار لتأخذ أمانتها من جديد . في البدء زُج بأخيه عثمان إلى سجن عسكري قاسٍ . لا حول ولا قوة إلا بالله، المسكين لم يلبث كثيراً على حاله بعدما زينت كتفيه نجمتان براقتان .. زادهما توهجاً منكباه العريضان وقامته المهيبة . قالت إذاعة أم درمان أنه قد أُتهم بالضلوع في انقلاب عسكري آثم قبل أن يعُدم مع غيره من "الخونة والمارقين" في ميدان عام . لحقت به أمه بعد عامٍ واحد حين أثقلت الحسرة قلبها الذي احتبس فيه الدم حزناً و كمداً عليه . عرف أبوه لعنة المال بآخرة بعدما وسمت الخمر كبده بميسم الفشل .. فأنفق جل ماله يطلب الإستشفاء بمشافي بريطانيا . عاد من هناك يتأبط العافية .. بيد أنه أنفق من أجلها ثروته بأكملها . سبحان الذي لا تنفد خزائنه .. ها هو يستسمح مدير مصلحة البريد والبرق لعله يرجعه لعمله كمراسلة مرة أخرى ولدهشته قُبل طلبه بلا إبطاء . أكمل عبدالباري رحلته الصاخبة مع المسغبة والغنى جيئة و ذهاباً . لا مناص من أن يعود الآن لإملاقه القديم بعدما فقد نصف أفراد أسرته في ارتحال لن تعقبه أوبة ..

آه يا محمدو .. ها هو البياض يتمدد على ما تبقى من رأسك الأصلع حتى لم يعد لأي لون سواه من موضع . أُحيل أبوك إلى المعاش بعدما بلغ السبعين ، وما زلت أنت تلهث وراء سراب أغواك بملاحقته حلقك المتيبس دون أن ترتوي شفتاك بما تبدى لك من ماءٍ خلفه . أرفف مكتبتك الخاصة لا يعوزها كتاب في الأدب والفكر أو التاريخ . ما زلت تقرأ كل سطر فيها بعينين حاذقتين تستحلي حدقاتهما روعة المعاني و تحسن إصطفائها . يصطادها ذهنك الشغوف فيختزن منها المعارف كما يختزن الشحيح كنزاً من الزمرد و الكهرمان . تستنطق القلم فيندلق دفقه على الورق طيّعاً مخلصاً لما حمّلته من أفكار . تدرجت من كتابة المقالات نحو القصة ومنها إلى الرواية دون أن يقرأ لك أحد . تذهب إلى الندوات العامة المنعقدة لمناقشة جل الكتب التي التهمتها عيناك من قبل . قدماك تسوقانك دوماً إلى آخر الصفوف لتجلس هناك وحيداً . ترفع يدك لتستجدي فرصة للحديث فيقابلك الجميع بالتجاهل . يرمقونك بإزدراء مضمرين ما يكفي من الإحتقار لأسمالك البالية . لم تعد تؤمن بغاندي ولا النصر المختبيء وراء التجاهل والسخرية و تهافت الأعداء . أنت يا محمدو أحقر من أن يعاديك أحد . أنت خيال مآتة لا قيمة له . قلقلتك الحقائق بوخزاتها المؤلمة قلقلة جنونية . وعندما تذكرت نبؤة أم نورين ، لعنتها في سرك ألف مرة بعدما وخزتك هي الأخرى كإبرة نفذ رأسها الحاد إلى مواضع العصب . بدأت رحلة الإنحدار حين قبلت بأن تعتاش على مساعدة المراهقين في كتابة رسائل غرامية لحبيباتهم . كنت لا تلبث أن تكتب رسالة ما لأحدهم دون أن تأتيك فتاته متخفية بعد يومين لتنقدك ثمن رسالة تتضمن ردها المعبأ بالشوق والحنين والقبلات . ساقك التهافت إلى منتهاه حين عرضت كل ما اختطه قلمك كبضاعة مزجاة تذهب لمن يدفع أكثر . جاءك المتبضعون من عديمي المواهب يبتاعون من أوراقك ما يشأون . يساومونك كثيراً و لا يعطونك إلا القليل من المال . " من أراد ملاعبة جروٍ صغير، فليصبر إذن على خربشة مخالبه الغضة" . رددتها بعقل غائب و أنت تحرض صدرك الحانق على إحتمال الأذى .

ثمة رغبة لحوحة استدرجت محمدو بذاك الصباح نحو " كشك" الصحف المقابل للبيت . ترك أباه وهو يتلجلج و يلحن كعادته كلما قرأ بضع آيات من القرآن . مختار صاحب الكشك تلقاه بإبتسامته الغامضة المعهودة . أجلسه على مقعد مهترئ بداخل كشكه الذي يماثل في ضيقه علبة من كبريت . ألقى عليه - كما جرت العادة - بعدة صحف ليطالعها بالمجان . " اتفضل يا أستاذ" .. قالها بترفع و إزدراء ثم أشاح بوجهه نحو زبائنه الذين تزاحموا على نافذة البيع كسربٍ من النحل يصطرع على خلية .
اصطنع محمدو لنفسه تبلداً تجاهل به ما تبدى عليه حاله من مهانة . مضى يقرا العناوين بلا مبالاة تتناسب مع ما تضج به من عبث .. الحكومة تدعو المعارضين للحوار .. وزارة الزراعة تستورد أسمدة بمواصفات عالية من الصين .. إضراب معلمي الخرطوم يدخل يومه السابع .. المريخ يهزم الموردة والصدارة ما زالت للهلال . دلف لصفحة الثقافة والفنون وبدأ يقرأ ما فيها بإهتمام .. رواية " الطين والدعاش " لأحمد ساتي تحصد جائزة الطيب صالح لهذا العام واحتفال بهيج بصاحب الرواية الشاب . صعقته المفاجأة فقذف بالصحيفة إلى الأرض وكأنه ينفض يديه من سلك كهربائي عالي الضغط . عاجلته ذاكرته المتقدة بمشهد ذلك الشاب النحيل الذي ساومه بصفاقة قبل عدة أسابيع على أوراق روايته " الطين والدعاش" ثم بذل له حزمة بنكنوت بائسة مع علبة سجائر مستورد فاخر الصنع . ابتاعها من محمدو .. كعقيم يستولى على أولاد ذوي المسغبة بحفنة مال . تقدم نحو شارع الأسفلت كسكير مترنح و قد احترق صدره بالحنق على كل شيء . طاردته نبوءة أم نورين الملعونة .. فصم أذنيه وكأن به مس من جنة .. تراءى له طيف المهاتما غاندي فحصبه بسيل مما توفر تحت قدميه من حجارة .. ما زال يترنح بلا هدى حتى اعتلى صراخ السابلة بجانب الأسفلت : حاسب .. حاسب ..
و في لمح البصر .. إندلق الدم يشخب من رأسه على التراب .. دهسته سيارة مسرعة بلا لوحات ثم توارت عن الأعين .. كما يتوارى البرق الخاطف ..


محمد المصطفى موسى – السودان


نادي القصة السعودي

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى