كتاب كامل جورج سلوم - الفصل الثامن من رواية عنق الزجاجة

الفصل الثامن -

تردّد وضَياع..



قلنا إنَّ جرس الباب كان يُقرَع ..ومنظرها راعه لمّا انفتح مصراعه.. رآها خائفة تتلفّت خلفَها كأنها مُطارَدَةٌ من جهةٍ ما ..بعيدةً عن الباب وقريبة .. متردّدة في الولوج كأنَّ عتباته خطٌّ أحمر ..لذا خطَتْ خطوةً إلى الأمام وأخرى إلى الخلف .

-ادخلي بقدمكِ اليمنى ليتبارك بيتنا بخطواتك ..



ودخلت بقدمها اليمنى وهي تنظر أين تدوس ..وكأنّها في حقل ألغام !



وحاول أن يُخفي ارتباكَه ..وتابع :

-الجوُّ باردٌ خارجاً ..تفضّلي بجانب المدفأة ..لا تؤاخذينني كنت مشغولاً والآن أتيتُ لتوّي ..ولم أرتّبْ المكان ..إنّها فوضويّة عازب ..وعندما ستأتي الملكة كلُّ شيء سيتغيّر أعِدُكِ بذلك ..سيكون كلُّه جديداً ..وحتى البيت نفسه سأغيّره إن كان لا يروق لك ..



لكنّها جلسَتْ (والخوفُ بعينيها )..ولم تتأمّل بيتاً ولا عفشاً ..كانت تنظر في الأرض وتتفحّص موطِئ قدميها ..وتنفخ في أصابعها الباردة المزرقّة ..

قالت :

-منذ ساعةٍ وأكثر وأنا أمشي ..على قدميّ ..وأحوم حول هذا المكان .. كطائرةٍ تريد أنْ تستكشفَ مهبِطَها ..يتنازَعُني شعوران بالهبوط هنا أو مُعاودة الإقلاع ..لكنّ شيئاً ما في داخلي أجبَرني على الهبوط أخيراً في مدرّجات مطارك ..

ضحِكَ محاولاً تمييع الموقف ..وقال :

-هبوطٌ اضطراريّ بسبب نقص الوقود



لكنّها ما ابتسمت ..وقالت :

-لا ..كأنَّ طيارتي مخطوفة ..والخاطفون يريدون إنزالَها قسريّاً هنا



وتابع ابتسامته :

-أنا من أرسلتهم ليخطفوا طيّارتكِ وينزلونكِ عندي ..وأنتِ الآن رهينتي .. ولن أفاوِض على الرّهائن ..أتشربين القهوة ؟..وقهوتي طازجة ومن أفضل الأنواع



سمِعَ خطواتها وهي تستطلع المكان تروح وتجيء ..وكان يحضّر قهوته على نارٍ قويّة ..ويحرّكها بعصبية حتى فارت واندلقت ..وعندما عاد يحمل صينيّته بيدٍ مرتجفة كانت تجلسْ في مكانها ..وكأنّها حسَمَتْ أمرها



فنجانُها كان يرتجف بيدها أيضاً ..ونظرت في وجهه متفحّصة كما لم تنظُرْ من قبل ..وتلك النظرة رآها لأوّل مرة كأنّها عزمت على أمرٍ ما عن سابق تصوّرٍ وتصميم



-أما آن لنا أن نخرج من عنق الزجاجة ؟

قالت ذلك ، وأخرجت من حقيبتها ساعتها الرملية ووضعَتْها بينهما وبدأت حبيباتها بالتّساقط ..انتبَهَ للحرفين المرسومين على حجرتي الزجاجة وفهِمَ المقصود من الألف إلى الياء ..

-الألف شرعاً فوق الياء وهي التي ستمرّر لها الحروف الأبجدية .

قال ذلك ، ثم قلب الساعة وترك الياء تخرخر حبيباتها ..ثم قال:

-لعبةٌ جميلةٌ والله

-نحن هنا لا لنلعب ..أتيتكَ لوضعِ النّقاط على الحروف ..أنا طرحتُ سؤالاً وأنت ميّعت الإجابة كعادتك ..كفانا تقليباً لأوقاتنا ولمواجعنا ..ساعتُكَ الرملية تجترُّ حبيباتها نفسَها وما من جديد .

قالت ذلك وقلبت الساعة لتعيد الألف إلى أعلى بمعنى أنّ الألف ستدلو بدلوها الآن ..

وبدأت تتلاعب بمحبس الخطوبة الذّهبي ..تدوّره ..وتخرجه وتدخله من إصبعها وكان إخراجُه سهلاً ، وإعادة إدخالِه تحتاجُ مناورةً ومداورة وتدوير ..هناك استعصاءٌ ما .

وعيونُه كانت على ذلك المحبس كإشارة استفهام لا جوابَ لها ..قد يخرج وقد لا يعود ..قد ترميه الآن في وجهه ..لكنّها ما فعلت وانتظرَت جوابَه على تساؤلها ..

وماذا سيقول ؟ وهو الموقوف في عنق الزجاجة على ذمّة التحقيق ..موقوفٌ عرفياً بلا تهمة وينتظر الفرج ..

أزَمَتُهما المالية قد يتجاوزانها بقرضٍ مصرفيّ ، والأزمة العائليّة معقّدة إزاءَ ابنة عمّه التي سيفرضونَها عليه ..والأنكى من ذلك أزمةٌ طائفيّة بين الخطيبين ، فتلك الطائفتان لا تلتقيان إلا بإذن الله وإذا التقيتا فلا حول ولا قوّة إلا بالله ..إنّها زيجةٌ تحتاج الكثير من التفكير والتدبير والتحرير من قيود الطائفيّة ..

إنّ علاقة المواطَنَة في مجتمعه هلاميّة ومهما حاولوا أن يرتقوا بها ستبقى مخاطيّة يعطِسونها بزكامٍ بسيط ..وأيّة أزمة تتفتّق بينهم سيعودون إلى عشائريّتهم ومذهبيّتهم وجاهليّتهم ..أولئك هم مواطنوه بحالة زُكامٍ معنّد لا بُرْءَ منه ، والعدوى مُستشريةٌ بين ظهرانيهم .



نظر إليها وعينُه أوّل ما تقع دائماً على صدرها الفسيح ، وهي تعرف ذلك لذا تحرِصُ على كشف ما تيسّر من صدرها وتترك له تخيّل ما استترَ منه .. وهذا الصّليب الصغير المتدلّي من عنقها ، كم تمنّى أن يقبّله وهو على صدرها وأن يسجد عند قدميه ..لماذا يراه اليومَ ثقيلاً ومُنفراً ؟..كأنّه مشحونٌ بشحناتٍ كهربائية لا تتوافق مع شحناته !

أحسّ بغصّةٍ في صدره ..وبكلماتٍ موقوفة في حنجرته أيضاً فلا تخرج .. والقهوة أيضاً لا تمرّ من حلقه إلا بصعوبة ..وطعمُها مرّ.

عنق الزجاجة يعود إليه من جديد ..

وضع يده على قلبه وتذكّر تحذيرات الطبيب ..ومع ذلك أشعل سيجارة وأخذ يعبّ منها أنفاساً ولا يخرجها ..دعها تقتلني فأرتاح .

أصبح يرى حبّات الرمل تمرّ ببطء أيضاً من عنق الزجاجة ..وكأنّ الوقت سيمرّ ببطء لأنّه كان على المحكّ..كنائبٍ في البرلمان طُلِبَ إليه تحليل قضيّة أعناق الزجاجات الوطنيّة ..ولكنّه خائف ففضّل تمييع الموقف ..فأصرّوا عليه أن يتكلّم ..عندها انسحبَ من مجلس الشعب !



قال:

-لن أستطيعَ العبور إليكِ من عنق الزجاجة في وضعي الرّاهن ..مع أنني حاولتُ مراراً..وقد أعود مدبراً إلى الخلف متراجعاً معلناً انسحابي رافعاً رايةً بيضاء ..وأنت حُرّة في الاختيار الآن ..وذاك المحبس الثقيل على يدك ..انفضيه عنكِ وتحرّري من قيدي ولا حيفَ عليكِ ولا لوم ..

أمّا تلك الساعة الرملية فما جلبَت علينا إلا الهمّ ..وقد نبذها العالم بأسره فلماذا نعود إليها ؟



قال ذلك ..وقلب الساعة الرملية فعادت الياءُ فوقيّة ، وكأنّه رمى الكرة في ملعبِها وقبَعَ منتظراً الردّ ..أو كأنّه متّهمٌ ودافع عن نفسه بكلّ صراحة أمام القاضي ولم يبقَ إلا إصدار الحكم ..

وسكت الاثنان وعيونُهُما مثبَّتة على الساعة الرملية وحبيباتها التي تنهار من عنق الزجاجة نحو القاع ..وكم بدا الزمن طويلاً عندها ..وكأنّ تلك الحبيبات تنزل بالتصوير البطيء ، أو أنّ بعضها ينحشر فيتأخّر نزولُها ..أو أنّ عنق الزجاجة غدا أضيق ممّا مضى فزادت معاناة الحبيبات الآيلة للمرور والآيلة للسّقوط .

وانقطعت الكهرباء في شقّته وبدأت فترة التقنين التي يضبِطها موظّفٌ من شركة الكهرباء على ساعته الخاصّة ..فيقطع الكهرباء عن هذا الحيّ لساعتين وينقلها إلى حيٍّ آخر لساعتين ..وكانت الكهرباء عندَهم مادة مقنّنة يوزّعونها على الخلق فينال كلُّ شارعٍ منها نصيباً ..كلُّ شيءٍ أصبح مقنّناً في زمن التقشّف الإجباري ..وحتى الهواء المتنفَّس ..كلّه يجب أن يُوزَّع وفق بطاقاتٍ كانت ورقية ..ثم تطوّرت فأصبحت بطاقاتٍ إلكترونيّة ذكيّة ..إنه زمن عنق الزجاجة الالكترونيّ !

كان سعيداً بانقطاع الكهرباء على ما يبدو ..فالظلام بدأ يحلّ على المكان بالرّغم من الستائر المضمومة ، ولا شمعةً لديه ولا إضاءة بديلة ..وقد تشعر الخطيبة برهبة المكان في خلوتها معه لأوّل مرة في شقته شبه المظلمة .. والبرد سيدفعها قطعاً لإنهاء الجلسة ..فإمّا الخروج سويّاً إلى مشوارهما المعتاد يتناجيان ويطبطبان على جراحهما ويضعان الضماد عليها فلا تبين .. فيداويان أزمتهما بالتريّث وانتظار الفرج .. أو تخرج لوحدها بعد أن ترمي محبسه في وجهه ..

لكنّها كانت صامتة وتنظر في ساعتها الرملية وقد قاربت حبيباتها العلوية على النّفاذ ..وعندها إمّا أن يتوقّف تعداد الزمن ..أو تقلِبَها لتمرير نصف ساعة أخرى ..وكم ستكون عصيبة تلك السويعة القادمة لو قلبَتْ ساعتها ؟



كم تمنّى وحَلُم لو تزوره في شقته ..

وها هو الآن يختلي بها

وكلٌّ منهما ملتصقٌ بمقعده وينظر إلى الآخر ..متربّصاً ..والفاعل بينهما كان مفقوداً وسيلعبان بطريقة ردّ الفعل ..يجب أن يكون مُهاجماً كأيّ رجل ويجب أن تلعبَ مُدافِعةً كأيّة امرأة في خلوةٍ لا شرعيّة ..لكنّ اللاعبَين كانا مُسمّرين في مكانهما وينتظران انتهاء المباراة بالتعادل السلبي وبلا أهداف مسجَّلة .. ينتظران صافرة النهاية يُطلقها الحكم الذي يتأمّل معهما تلك الساعة الرملية ..

كانا كلاعبَي شطرنج متباريان في لعبة حاسمة ..وكلّ نقلةٍ للبيادق تليها قلبَةٌ غريزيّة للساعة المؤقِّتة.

حتى سقطت حبّة الرمل الأخيرة ..

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى