عبدالجبار الحمدي - الجياع تأكل لحمها

لم يتوانى أبدا عن قضم أظافره أو لِنَقُل بقايا شحفورات لحمية... لقد قُلعت في تلك الأقبية المُغلُقة والزنازين المظلمة.. لم يتسنى له معرفة سبب غزو حياته التي كان يعيش شأنه شأن بقية الخلق لا يهش ولا ينش.. حول عالم السياسة المحاط بأسلاك شائكة فطالما طن وأز الذباب حول رأسه بتغيير نمط فِكر يهمش نفسه او حثه بجعله ينعق كعندليب، هذا ما حاولوه عدة مرات صُحبة لازمته فترة ليست بالقصيرة لكنه بقي كما هو حتى بعد التغيير الذي جاء بغربال شمس ليحجب حقيقة أن الموت يقطن تحت إبط رجل أمن بولاء او آذان مخبر متنكر بأنه مخبر... لم تفته تلك المدارس فقد خبرها عندما ساقت الأقدار أخاه الأكبر بعد أن رفع صوته عند معارضته لسياسة نظام.. فحفته رعاية السلطة، سمحت له أن يمارس حرية التعبير ولكن بألم و أوجاع جاز له ان يعبر عنها كيفما يشاء في المكان الذي رتقوه فيه بعد أن أخاطو جلده على الجدران، أدرك أن الجياع تأكل لحمها عند شعورها بالظلم للخلاص من الحياة، هكذا أنهى أخاه حياته، نال من ديمقراطية التعبير جانبا لكن بشكل سَمَحَ له كأخ بأن يتذوقها بترك بصمتهم على صدره ببضعة تواقيع مهروها بأعقاب سجائر.. كان مطفئتهم التي حين يتسامرون ويسكرون يستخدمونه كمنفظة لحقوق الإنسان الموشحة بديمقراطية الدول النامية... عندها ومنذ تلك اللحظة لم يمارس حق التعبير حتى في منامه او حين دخوله الحمام لقضاء حاجته... أدخلوا الطمأنينة رعبا يترصده في كل شيء فصار شخص منكوش كما يطلق عليه بعض من لازمه في صحبته..

لم تؤمن قناعاته في يوم أن العالم الذي يحيط به وهالة المعوقات العاهات والفساد يمكن ان تغير ما خطه الدهر بمخالب ذئاب لا تأكل سوى اللحم الميت.. فالفريسة الحية توقظ بداخلها غريزة القتل فتعمد الى نهشها بشكل يعطي المعنى المقصود للقاصي والداني.. ذلك ما شاهده في أم عينه عندما دخل حيث عمله كحاجب في إحدى دوائر الحكومية بعد أن كان من كبار من يديرونها ولكن... تلك النكشة جعلته يُلزِم نفسه أن يكون بهذه الصورة حتى يسلم على ما بقي له من حياة... في ذات يوم جلس الى جواره أحد المراجعين يشكي همه ومشكلته له سائلا إياه العون والمشورة ربما من خلال معرفته بموظف ما او خاطر له هنا او هناك تمكنه أن يمرر معاملته للحصول على توقيع مسئول حتى ولو بهدية لا رشوة لا سامح الله لأنه يخافه وحرام..

تصبب عرقا وأهتز كسعفة وهو يسمع هذا المراجع.. دس يده الى جيبه فأخرجها وبها عدد من السجائر.. أخذ واحدة ثم أعاد البقية الى الجيب البعيد بحذر عن الذي جلس الى يمينه.. أشعلها وقد أخذ نفسا عميقا طويلا منها ثم نفثه بوجه المراجع ثم أعاد الكرة ضجر المراجع فصاح... أمخبول أنت!؟ ماذا حل بك كي تنفث الدخان في وجهي؟ كل ما طلبت المساعدة لكن يبدو انك مستفيد لذا لم يرق لك شكلي الذي يشعرك بفقر حالي... ولا يمكنني دفع نفقات خدمتك جميعكم منتفعون مرتشون تحبون أكل الحرام والسحت، ألا لعنة الله عليكم وعلى من جعلكم تتمكنون من رقاب الناس..

لم يشعر إلا وضجة وضجيج يرافقه فضول قصم ظهر البعير، لحظات كان واقفا أما مدير الدائرة والى جانبه ذلك المراجع الذي راقت له فعلته التي أوصلته الى غرفة المدير فهتف مادحا شاكرا العدالة والحق وقد شكى هذا الحاجب الذي طلب منه رشوة كي ينجز له معاملته دون تأخير وإلا سوف تتأخر وتتعرقل... وإنه لا يملك سوى عدة سيجارات أخذها منه ودسها الى جيبه ثم دفع به بعيدا وهي شاهدة على فعلته...

لم ينتظر المدير رد الحاجب لكنه قال: شعشاع أنت يا حاجب النحس... بإشارة صغيرة جرجر مع عبارة حولوه الى التحقيق...

تلك هي آخر مرة يتذكر فيها نفسه وحرية التعبير دون كلام لقد أبدى رأيه وتذمره بدخان سيجارة فنال أعقابها تذكارا على جسده في التعبير عن رأيه لرفض واقع إستشرى الفساد بين العامة فأزاح ستار الحق المسلوب الثياب، لا يعلم منذ متى حشر مع صعاليك الكلمة الحرة والتعبير عما تجيش به بطون عقولهم التي لا زالت تشكي الإجهاض بعد فجورهم وحبلهم بإبن حرام لا يحق له الحياة كونه لقيط زمن الديمقراطية...

في تلك السفرة كما يطلقون عليها من يأتون كل ليلة ليتسامروا معه، يكملون كتابة سيناريو أن العالم يتجه نحو الأفضل فبالقضاء على مروجي الأفكار وثقافة ( العلمو نورن والجهلو ظلامن) لا يمكن ان يتأتي على يد أمثال المرتشين والفاسدين فعدالة القانون وميزان الحق هما من يتسيدان الموقف فما أمثال هذا الحاجب إلا وباء يستشري بين العامة في وطن يبني المستقبل لأجيال وهمية تمسك بالضياع براهين يومية، فعامة الناس تحب أن تشعر بالمأساة والوجع والضيم، تحب أن تجرب الظلم الأزلي وسادية من عقروا الناقة، سادية حكام لا يؤمنون بقول لا للبيعة لأنها الحق برأيهم.. فلك ان تتصور يا حاجب مدى سماحة عين القضاء بعد أن عزموا إطلاق سراحك، خاصة أنك لمست فسحة العلاج النفسي والجسدي الذي يجعلك مؤهلا لأن تكون مواطن يترفع عن المساس بأذيال خطوط رسمت له بعدم تجاوزها لأنها تودي به الى بؤرة الفاسدين الذين تسعى أيدي كثيرة لنيل ممن يتخطفونها دون أن ينالوا عقابهم..

العدالة عمياء لكن مطرقة القضاء شاهد عيان على مجريات زمن باع عصارته الهضمية أوراق تبرئة للعاكفين والركع السجود...

سيطلق سراحك وأنت تعض النواجذ حقا على فرصك الضائعة .. لكن سنترك لك فسحة التعبير بعد ان وثقت في سجلاتنا الرسمية بعنوان مجنون سياسي سابق.



القاص والكاتب/ عبد الجبار الحمدي

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى