نجيب محفوظ - ماذا تعني الفلسفة؟

كانت الفلسفة بوجه عام علم الشمول الذي لا يحدد، علم كل شئ. وبمعنى أدق علم القوانين العامة التي تسير الأشياء جميعا، حتى ضيق التجريبيون ميدانها وجعلوها كعلم من العلوم الخاصة وحدد لها موضوعها هو الأفكار أو الحياة النفسية للفرد فلما جاء كانط بذلت مجهودات قوية للتوفيق بين فكرتي الشمول والتخصص.
وقد وقف كانط من مذهبي التجربة والعقل موقف الحذر ولم يسلم لواحد منهما بدعاويه العريضة: لم يسلم للمذهب التجريبي بأنه وفق إلى تحديد ميدان المعرفة الإنسانية. حق أن معرفتنا تبدأ بالتجربة ولكن ليس معنى ذلك أنها تشتق كلها من التجربة فقد تكون المعرفة التجريبية نفسها ليست من خالص التجربة ولكن مما يضيفه العقل إلى آثار الحواس ومنعكساتها أي قد تكون نتاج عمل العقل وتأليفه بين الصور الحسية المنقوله إلينا.
ويمكن الاعتراض على ادعاء المذهب التجريبي بمسألتين: أولا وجود قضايا عامة بالعقل لا تمت إلى التجربة بصلة ما، ولا يمكن تفسيرها عن سبيل التجربة، مثال الأفكار الرياضية البديهية. ثانيا أن لهذه الأفكار العامة قوة وجوب ضرورية تجعلها مستحيلة التصور على غير ما هي عليه. والتجربة لا تبرر هذا الوجوب الضروري، بل إن المعرفة التجريبية نفسها لا تبلغ درجة اليقين من غير معونة هذه القضايا الضرورية أو من غير العقل الذي يبدع لها صفة الضرورة. ومثال ذلك خذ أي قانون مأخوذ من التجربة وليكن قانون سقوط الأجسام فإن قولنا كل الأجسام تسقط نحو الأرض لا تبرره التجربة لأنها مهما امتدت وتعددت فلن تشمل كل الأجسام. وقصارى الجهد أن يجربها الفرد على عشرات أو مئات الأجسام فإذا أعطيناها هذا الشمول وأكسبناها صفة الوجوب والضرورة فإنما نعطيها ذلك ونكسبها هذا بقوة أخرى غير التجربة، وعلى ذلك فمعرفتنا تحوى من الأصول مالا يمت بصلة إلى التجربة.
كذلك لم يسلم للمذهب العقلي بادعائه حصر المعرفة في العقل وبأن المبادئ العقلية هي أصل كل معرفة إنسانية صحيحة، وقد بشر ديكارت بذلك ونبذ كل معرفة لا ترجع في ﻧﻬايتها إلى الأفكار البسيطة البديهية وجهل مهمة الفلسفة الأولى اكتشاف هذه الأفكار ثم استنتاج العلم الإنساني كله منها على الطريقة الرياضية.
وقد اعترض كانط على هذا الأسلوب من التفكير وفرق بين الرياضة والفلسفة تمهيدًا إلى تقرير هذه النتيجة وهي أن المعرفة الإنسانية لا تنحصر في مبادئ العقل وأنها تكسب الكثير من التجربة، فالرياضة في مجموعها ترجع إلى مبادئ عقلية بسيطة يركب منها العقل ما يشاء وهي صحيحة مادامت تنظر إليها بعين العقل.
وهذا لا يمنع موافقتها للتجربة لأننا لا نقول أن العقل يخالف الواقع. أما الفلسفة فمبادئها أفكار كالعلة والمعلول والجوهر. وهذه تحتاج في تصورها إلى المشاهدة والواقع، وعلى ذلك فالمعرفة ليست ملكًا للتجربة ولا ملكًا للعقل وإنما هي بين بين، وموضوع التي تسيطر على المعرفة والعمل الفلسفة عند كانط هو تحديد الأفكار العقلية وبيان تسلسلها وخلق نظام تام منها.
والفلسفة نظرية وعملية. النظرية تحدد موضوعًا أي تبين طبيعته وقوانينه والعملية تحققه، وهي عموما – نظرية وعملية – مجردة وتجريبية، مجردة من حيث أنها تقوم على مبادئ فوق التجربة وتجريبية من حيث أنها تجرد مبادئها من التجربة.
أما الفلسفة النظرية اﻟﻤﺠردة فهي الفلسفة بمعنى الكلمة وهي تنقسم إلى قسمين: من حيث أﻧﻬا تدرس قوانين الفكر العامة وهي ما يعرف بالمنطق، ومن حيث أنها تدرس علاقة الفكرة بالأشياء، وهذه هي الميتافيزيقا وهي علم القوانين الفكرية العامة المطلقة من حيث علاقتها بالأشياء، وكانت عند كانط تؤدي وظيفتين، واحدة تمهيدية وهي النقد أهم ما يغلب على فلسفته. والأخرى هي تسلسل القوانين العامة بما يمهد إلى إبداع النظام الفلسفي.
وأما الفلسفة العملية أو الأخلاقية فهي مجردة وتجريبية، مجردة غايتها معرفة قوانين العقل للحرية أي قانون الواجب، وتجريبية وتبحث في قوانين الحكمة والحقوق.
ولكن أهم وظيفة للفلسفة هي النقد، فبالنقد استطاع أن يمحص المذاهب الفلسفية السابقة. ويقصى عنها المبالغات والادعاءات المتطرفة لينتهي بإنشاء فلسفة قوية تعد من أمتن المفاصل في هيكل الفلسفة العام.
***
وبعد كانط نزع الفلاسفة نزوعًا من شأنه أن يعيد الفلسفة شمولها شيئا فشيئا ولو أﻧﻬم احتفظوا لها بشخصيتها كعلم متميز، وكان فخت أول من فكر في إيجاد علم للعلوم، كان يفهم معنى العلم فهما جيدًا وكان يرى أن لكل علم مادة وصورة. والمادة هي موضوع العلم والصورة هي منهجه المنطقي كالقياس في العلوم الرياضية والاستقراء في العلوم الطبيعية. والعلم يستقرئ الوقائع ويستنتج القوانين ويبدع النظريات ولكنه لا يحفل بتحديد موضوعه ولا منهجه فلا يسأل مثلا لماذا كان موضوعه ما هو كائن ولا ما هي الصلات التي تربط هذا الموضوع بغيره من موضوعات العلوم الأخرى، ولا لماذا يناسبه نوع من التفكير دون سواه، فالعلم الذي يبحث مواضيع العلوم ومناهجها هو الفلسفة، وبذلك يشمل كل العلوم ويتخصص في بحث موضوع خاص به.
ولكن إذا كان له موضوعه ومنهجه فهو يحتاج بدوره لعلم يدر سهمًا كما يدرس هو مواضيع ومناهج بقية العلوم، ولكن منعًا للتسلسل إلى غير ﻧﻬاية رأى فخت أن يعهد بدراسة موضوع الفلسفة ومنهجها إلى الفلسفة نفسها فتكون بذلك هي العلم الأول أو علم المبادئ وذلك يرجعها إلى تعريف أرسطوطاليس.
***
احتفظ شلنج وهيجل للفلسفة بما ميزها به كانط وفخت من أنها علم القوانين العقلية المطلقة أو علم العلوم ولكنهما زادا إلى شمولها هذا شمولا جديدًا في الموضوع ويفسر ذلك ويستتبعه رأييهما عن وحدة الوجود، فهما يريان أن الذات والموضوع والواقع والمثال والطبيعة والنفس تحدد ذواتها في المطلق أو الفكر. وليس هنا موضع شرح المغلق من هذه الفلسفة فلنكتف بالقول بأن ذلك معناه أن الوجود المتباين متحد بالذات في الفكر وأمامنا سبيلان لإثبات هذه الذاتية الواحدة، فأما أن نبدأ بالموضوع والواقع والطبيعة لنثبت أنها وما يقابلها من الذات والمثال والنفس شئ متحد في الفكر أو العكس. والفلسفة تعني ﺑﻬذين السبيلين لمعرفة وحدة الوجود فيتحتم أن يشمل موضوعها كل الوجود وبذلك يتم إرجاعها إلى سابق حالها على أيام أرسطو، على أن ذلك لم يمنع وجود بعض آراء معاصرة رجعت في تصور الفلسفة إلى ما كان يتصورها به لوك من أنها علم النفس كرأي ريد ودوجالد ستيوارت.
***
رأى كوزان عن الفلسفة لا يتعدى رأي فخت أو هيجل وتم له رأيه على درجتين فقال في سنة 1818 أن كل حقيقة تحوى ما يرفعها إلى مرتبة الحقائق وكل علم فيه الخواص الفردية ما يميزه عن بقية العلوم ومن الصفات العالية ما يكسبه مميزات العلم، فما الحقيقية ؟ وما العلم ؟ هذا هو موضوع علم العلوم أو الفلسفة.
وفي سنة 1828 رأى أن الفلسفة اشمل من ذلك وأوسع، فقال أﻧﻬا علم الفكر أو هي الفكر يفكر في نفسه وما يحويه من عناصر الحقيقة. فتنصب بذلك على المنطق والأفكار النافعة والعادلة الجميلة لأنها جميعًا ترجع إلى الفكر.
أما جوفروى فكان يرى أن الفلسفة تنحصر مسائلها في أسئلة يوجه بعضها إلى الأشياء ويوجه البعض الآخر إلى القوانين العامة، ولكنه لم يكن يعتبر هذه القوانين إلا من حيث علاقتها بالأشياء من حيث أﻧﻬا ﺗﻬيئ لها الحلول، فكل مسألة فلسفية تجد حلها في قانون عقلي أو نفسي فمرجعها في النهاية علم النفس.
***
أما الوضعيون فيرون أن زمن الفلسفة قد مضى كأﻧﻬا ليست أسلوبًا جوهريا في تفكير الإنسان وإنما حالة طارئة تلابس الفكر في طور من أطواره ثم تضحي من التقاليد الزائدة بعد مضي ذلك الطور، يقولون أن الفلسفة بمعناها الحقيقي لا وجود لها في ميدان المعرفة الإنسانية الآن، وجدت وكان وجودها ضرورة أيام كانت عناصر التجربة الإنسانية العملية محدودة في متناول الباحثين المتفرغين. أما اليوم فقد أنقسم العلم إلى علوم وتفرع كل علم إلى فروع وقام كل واحد من هذه الفروع على أساس إقصاء الأسئلة الميتافيزيقية عن ميدانه.
أضف إلى ذلك أن الميتافيزيقا في أوج مجدها لم تصل أبدا إلى حقائق مؤكدة لا يأتيها الشك من منفذ. وهي ما تزال كل يوم آخذة في تقرير من مناهجها من غير أن تنتهي إلى حل. وفي مقابل ذلك نجد فرعًا من فروع المعرفة – وهو العلم الوضعي – يصل إلى حقائق يقينية. يبنيها على تجارب حقيقة بالثقة والإقناع. مما يبرر الرأي القائل أن العقل البشري لم يوجد لحل المسائل الميتافيزيقية التي تستعصي عليه وأن كان في مقدوره أن يبحث المسائل العملية ويبلغ من بحثه أوثق النتائج.
وإذن فالعلم لا يبحث عن المطلق فهو نسبي. ولكنهم لم يقرروا نسبية العلم بالنقد العقلي وإنما استنتاجًا من تاريخ العلم الإنساني. قالوا أن العقل البشري قبل أن ينتهي إلى الحالة الوضعية مرّ بحالتين لاهوتية وميتافيزيقية، ففي الحالة اللاهوتية يترع العقل إلى الكشف عن ماهية الأشياء والعلل الأولى، ويفسر الظاهرات بقوة فوق الطبيعة، وفي الحالة الميتافيزيقية نجد تغيرا ظاهرا في تصوره، فالقوة الشخصية المميزة يستبدل بها قوى مجردة توجد في مختلف الظاهرات وتحدثها، أما في الحالة الوضعية فهمه الأول أن يدرس الظاهرات وتسلسلها ويستكشف قوانينها.
***
من خلاصة الآراء في الفلسفة نفهم أن معناها تردد بين أن تكون علم العلوم، أو علم القوانين العقلية المطلقة للفكر والوجود أو علم النفس الإنسانية فتتميز عن العلم إذن بدراستها النفسية ومن هنا كان علم النفس، وبفكرة الشمول والتوحيد بين الأشياء ومن هنا نشأت الميتافيزيقا، وقد ترجمت الفلسفة بين هاتين الفكرتين في جميع العصور حتى حاول كانط أن يوفق بينهما، فوجد – أثناء تقيده للنفس – القوانين العقلية المطلقة، أما من حيث الرد على المذهب الموضوعي فحسبنا أن نقول أن موضوع الفلسفة غير موضوع العلم، وهذا يبرر دواعي وجودها ولا يجعل من نجاح العلم في مناهجه دليلا على بطلان موضوعها أو فساد أساليبها ونجاح العلم وبلوغه أكمل النتائج لا يشفي عليل النفس الإنسانية المتعطشة إلى العرفان. حقًا أن في العلم نورا ومنافع للعلم ولكن كل هذا لا يقنع العقل بل يبقى متطلعًا صوب أسئلة أخرى تحيره وتغريه بالبحث، وهذه الأسئلة التي تنبع من صميم النفس هي التي تكفل وسوف تكفل بقاء الميتافيزيقا.
بل أن العلم نفسه ظاهرة حقيقة بالبحث والتأمل كيف ينشأ العلم وما هي دواعيه وأغراضه، وكيف تقرر له المناهج المختلفة، كل ذلك يتطلب علمًا يبحث العلم من نواحيه المختلفة، ثم أنه لا يكفي أن نعرف الظاهرات ونربطها بمختلف القوانين فهنالك مسألة لا تقل عن ذلك في أهميتها وأحقيتها بالمعرفة وهي ما قيمة هذا المعرفة ؟ أننا لا نعرف شيئا ولا نستنتج أمرا إلا عن طريق الفكر فهل تكون معرفتنا مطابقة الواقع والحق أم أنها أوهام من صنع فكرنا ونحته ؟ بل أين الدليل على أنه يوجد حق واقع وتصور ذاتي لا يتجاوز أمره الفكر ؟ كل ذلك يحتاج إلى علم يبحثه ويقرر الحق فيه.
الفلسفة رهن هذه الأسئلة وهي لذلك باقية ما بقيت هذه الأسئلة وما بقيت النفس التي توقظها.


*مقال للأستاذ نجيب محفوظ نشر في مجلة "المجلة الجديدة" في فبراير 1935


نجيب محفوظ

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى