أحمد العكيدي - اللغة العربية وسيكولوجيتنا المهزومة

" اللغة العربية لغة أدبية عظيمة جدا ويجب تعلمها، ولا ينبغي أن يقتصر ذلك على من هم من أصول مغاربية أو من بلدان ناطقة بالعربية ". هذا ليس كلاماً أو تصريحًا لأحد مسؤولينا العرب، بل هو لوزير التعليم الفرنسي، أدلى به لأحدى القنوات الفرنسة. هذا فضلا عن تقرير صدر عن معهد " مونتين" للدارسات والبحوث، اقترح تعزيز تعليم اللغة العربية في المدارس وجعل دورها يتعدى المساجد. في حين يحجم الكثير من مسؤولينا ويتعالون عن التحدث بها للإعلام وفي المحافل الدولية، وأحيانا حتى في الأمم المتحدة التي تعتبر اللغة العربية إحدى لغاتها المعتمدة.

في الوقت الذي تتوالى فيه مثل هذه التقارير الدولية، خاصة في الدول الأوربية، بشأن إدماج اللغة العربية في أسلاك التعليم في هذه البلدان والاهتمام بها لدواعي اقتصادية وأمنية وسياسية وغيرها. كتقرير صدر عن المجلس الثقافي البريطاني، صنف اللغة العربية في المرتبة الثانية بعد الإسبانية، كلغة أجنبية أكثر أهمية لمستقبل البريطانيين، ودعا إلى دمجها في التعليم الأساسي للأطفال البريطانيين. في المقابل، نجد في الدول العربية من يشن حروبا لا تنتهي ضدها، مستهدفا وجودها وعمقها الثقافي والحضاري.

في المغرب -على غرار مجموعة من الدول العربية- الذي يعتبر دستوره اللغة العربية لغة رسمية وجب الحفاظ عليها وتطويرها، هناك نقاش متجدد حول دمج العامية في مناهج التدريس لضرورة بيداغوجية وسيكولوجية تساعد الطفل على الاندماج في العملية التعليمية بشكل أفضل كما يدعي أصحاب هذا التوجه. يصل الأمر أحيانا إلى المطالبة بالاستغناء عن هذه اللغة وإحلال مكانها العامية إلى جانب اللغات الأجنبية بدعوى أنها لا تساير التطور العلمي والثقافي والتكنولوجي السريع في العالم. وكأن باقي لغات العالم تتطور ذاتيا بدون انخراط أهلها في تطويرها وجعلها قادرة على مواكبة المتغيرات العالمية في شتى المجالات! .

هناك أيضا من يتوقع (ربما يتمنى) لها مصيرا مشابها لمصير اللغة اللاتينية التي تقاعدت من وضائف طالما كانت تضطلع بها، وبات استعمالها لا يكاد يتجاوز الكنائس والمناسبات الدينية.

تتشابه اللغات في النشأة والأفول ولعل تطور اللهجات المحلية في أروبا واستعمالها من طرف كتاب ومثقفين في نصوصهم الأدبية ومقالاتهم وأعمالهم البحثية وفي تواصلهم.. أدى بشكل تدريجي إلى وضع اللغة اللاتينية التي كانت سائدة في شتى المجالات العلمية والتفافية وغيرها على الرف. اللغة العربية الفصحى نشأت على أنقاض مجموعة من اللغات القديمة وعلى رأسها اللغة الأرمية. كما ذهب إلى ذلك محمود عباس العقاد في كتابه: "الثقافة العربية أسبق من ثقافة اليونان والعبريين"، وقد اعتبر الثقافة العربية أقدم حتى من الثقافة اليونانية والعبرانية خلافا لما كان سائدا من قبل.

ازدهرت اللغة العربية شعرا وأدبا قبل مجيء الإسلام ولعل في الشعر الجاهلي ما يؤكد ذلك. ثم احتلت مكانة مرموقة مع بزوغ فجر الإسلام والتطور الحضاري والثقافي الذي عرفته الأمة الإسلامية حيت سطع نجم مجموعة كبيرة من العلماء والأدباء والمفكرين في ميادين علمية ومعرفية عديدة. مما جعل منها لغة يتهافت على تعلمها العديد من العلماء الأجانب. مع انحسار وتراجع دور المسلمين في العالم وخضوع معظم البلدان العربية والإسلامية للاحتلال الأجنبي، همشت اللغة العربية وأصبحت في الكثير من البلدان العربية لغة ثانوية بحكم الواقع، في حين حظيت اللغات الأجنبية (لغات الاحتلال) بمكانة مرموقة جعلت منها لغة الاقتصاد وعالم المال والتعليم خاصة المستويات العليا منه...

في اعتقادنا، الوضع الذي تعاني منه اللغة العربية لا يختلف كثيرا عن الوضع العام الذي يعاني منه وطننا العربي؛ تخبط هائل في السياسات العامة وغياب رؤية استراتيجية واضحة تخرجنا من مستنقع التخلف الذي بات ساستنا يقنعوننا تصريحًا او تلميحًا أنه قدرنا المحتوم. الأمر ذاته ينطبق على سياساتنا اللغوية؛ من لغة قائمة بذاتها بلغت من الغنى والتنوع كمًا هائلا إلى لهجة نريدها لغة مستقبلية غير مكثرتين بالكلفة الاجتماعية والثقافية والاقتصادية الهائلة التي قد تترتب عن هذا المسار، إضافة إلى المجهود الجبار الذي قد يواكب هذه العملية؛ من بحث وتقعيد لغوي وقوامس وترجمة.. ربما لا لشيء فقط هي سيكولوجيتنا المهزومة تدعونا إلى التخلص من إرثنا الحضاري عبر التجني على اللغة العربية وربطها بانحطاطنا المزمن؟

اللغة العربية لها تاريخ عريق وثقافة خصبة، كتبت بها علوم كثيرة؛ من جبر وطب وغير ذلك، واستطاعت الاستمرار لقرون في وقت اختفت فيه لغات كثيرة. ثم إن ارتباطها بالإسلام وبتاريخه، جعلها تحتل مكانة متميزة في وجدان المسلمين خاصة العرب منهم، فأصبحوا يدافعون عنها بشكل عفوي رغم أنها ليست لغة تواصلهم اليومي. مما يستدعي الانكباب على تحسين طرق ومناهج تدريسها لتصير أكثر نجاعة وليس الدخول في متاهة لغوية نحن في غنى عنها...


في تصورنا، لا يجب إهمال اللغة العربية والدفع ببديل لها لأسباب في ظاهرها لغوية بيداغوجية وفي باطنها أيديولوجية وسياسية. الحفاظ على اللغة العربية لا يعني بالضرورة إهمال اللغات الوطنية الأخرى أو اللغات الأجنبية، بقدر ما يعني الانكباب على صياغة استراتيجية لغوية وطنية متكاملة بعيدا عن التوظيف السياسي والأيديولوجي لنظريات علم اللسانيات وغيره من العلوم الإنسانية.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى