مقتطف حسن قرى - طفولة تنحت الصخر.. قصة قصيرة

اقتربت الساعة الرابعة زوالا، تجمعنا نحن الأطفال بالقرب من الحائط الخلفي للمقهى البلدي، أسندنا ظهورنا الصغيرة إليه استعدادًا وترقبًا لانقضاضنا الجماعي الذي اعتدنا عليه من زمان. البائعون والخضارون والفكهانيون أمامنا يتهيأون لجمع محصول يومهم من النقود، ربح أو خسارة، لا يهم. الأولويّة عندهم هي إدراك المحطة.. والقطار لم يغادرها بعد للالتحاق ببيوتهم وأهاليهم بالضواحي، لا وقت للتضييع، يكفي جمع الميزان والكتل والساري، وطي الفراش البلاستيكي المتسخ، ووضع الكل ب"قراب" مصنوع من "الدوم" اليابس، ورمي الكل فوق أقرب عربة "كارو" للوصول إلى المحطة في الوقت المناسب.
تكون هذه المغادرة الجماعية للبائعين، لحظة حاسمة لبداية معاركنا نحن الأطفال المتربصين، كل ما فضل من خضر وفواكه عن البائعين هو نصيبنا الأسبوعي من خيرات هذا البلد، والتي لا نتعارك حولها إلاّ بعد مغادرة الباعة، طماطم متعفنة، برتقال مشروخ إما بسبب وطء أقدامنا أو ثقل الصناديق، جزر أو بطاطس أو جلبان، أو حتى تفاح وإجاص أو برقوق أو مشمش مهمل-حسب المواسم- لم ينل قبول المتبضعين.
تبدأ معركتنا الحامية والعنيفة بمجرد قذف أحدنا الآخر بحبة طماطم أو برتقال، لا هوادة ولا تسامح، يمتزج اللهو بالثأر، قاتل أو مقتول، ضارب أو مضروب، المهم للثأر أصول، تعارفنا و تواطأنا عليها. تنقلب الساحة إلى معركة حقيقية، لا يسلم منها لا جدران المنازل المحيطة، ولا عربات الخضر والفواكه الفارغة.
لم أكن لا ذكيا ولا شجاعا، بل فقط كنت قد تدربت مع الوقت والتجارب، على تجنب كل الضربات وتلافي الاشتباكات، أتحين كل فرصة ممكنة لأملأ كيسي من أجود ما تبقى من خضر وفواكه، ولم تسجل عني والدتي يوما أنني أتيتها بشيء فاسد، حتى أن اعتقادها كان راسخا أن البائعين يتركونها هكذا جيدة وصالحة للأكل طمعا في أجر الله، ومساعدة للمساكين والفقراء من أمثالنا. لم تفكر يوما في الذهاب إلى السوق الأسبوعي للتبضع، فهي كانت تعول علي كثيرا وأنا لم أخيب ظنها أبدا.
كانت تخصص النقود القليلة التي يمنحها لها والدي كل أسبوع، لحاجات البيت من عند البقال والجزار أحيانا، وبائع الفحم، وزيت القنديل أو شموع الإضاءة.
واصلت مهمتي بنجاح لزمن ليس بالقصير، ساعدت أسرتي على تمويل حاجات البيت من هذه المواد الحيوية والأساسية لإغناء موائد الفقراء من أمثالنا، كنا نشعر ونحن نتحلق أنا وتسعة من إخوتي الصغار حول مائدة الطعام بأننا أغنياء نأكل لحما بخضر متنوعة ونختم بفواكه موسمية مختلفة، هي هبة السوق الأسبوعي.
"براكة" القصدير التي كنا نسكنها وتجمع شتاتنا، كانت منطلق سعدنا هي الأخرى لكن هذه المرة بفضل والدتي التي كانت تملك حسا جيدا في التدبير رغم أميتها وبداوتها. بسبب حكمتها وحرصها ومثابرتها تمكنا من إتمام دراستنا، وحصلنا على شهاداتنا، قبل أن نحصل على وظائفنا.
يسقط الظلام، وتنتهي المعركة، ويذهب كل منا إلى حال سبيله حاملا ما تمكن من انقاذه ودافع باستماتة عنه. كانت هذه هي طفولتنا المكافحة في زمن كان فيه للحياة طعم خاص.
انتهى


* عن كتاب سيري قيد الإعداد " أوراق من مذكرات حمار " حسن قرى

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى