عبد القادر وساط - السائق

د. وساط.jpg

قبل أن أحترف الكتابة كنت سائقَ سيارة إسعاف.
ذات يوم غضب مني رئيسي في العمل لأسباب غير واضحة، فاتخذ قراره بنقلي إلى منطقة نائية، يرمزون لها في الخريطة بحرف (دال).
أمرني الرئيس أن أتوجه إلى تلك المنطقة بسيارة الإسعاف وأن أحمل معي ما يكفي من الماء والزاد، لأنني سأقضي هناك مدة لا يعلمها إلا الله.
قال لي إن منطقة (دال) عبارة عن قفر شاسع موحش، لا نبات فيه ولا ماء.
سألتُه عن الجدوى من سيارة الإسعاف، في ذلك البلقع الخالي، فقال لي وهو يبتسم ابتسامة غامضة:
- لا تكثر من الأسئلة. من يدري ؟ قد يأتي يوم تنقذ فيه بسيارتك شخصا تائها ومشرفا على الهلاك.
هكذا وجدتُ نفسي وحيدا في تلك المنطقة المقفرة. أعيش داخل سيارة الإسعاف بلا أنيس. حتى الحيوانات المتوحشة لم أكن أسمع لها حسا في تلك القفار. لا زئير أسود ولا زمجرة نمور ولا عواء ذئاب. لاشيء إطلاقا. ما من صوت أو حركة في المحيط القريب أو البعيد.
شيئا فشيئا صرتُ أقوم بسلوك المجانين. أمشي عاريا تحت أشعة الشمس اللاهبة. أحدثُ نفسي بصوت مرتفع. أدخل في مشادات كلامية مع أشخاص لا وجود لهم، وأنطق بالشتائم البذيئة دون خجل.
وذات يوم قائظ وقفتُ كما ولدتني أمي على سطح سيارة الإسعاف، وشرعتُ ألقي خطبة طويلة. كان الحر شديدا والسراب يتلألأ على امتداد البصر. لكني كنت مصرا على إتمام خطبتي رغم كل شيء. ومما جاء فيها:
" يا أهل ( دال)، إني رأيتُ آخرَ هذا الأمر لا يَصلحُ إلا بما صَلحَ به أولُه: لينٌ في غير ضعف، وشدة في غير عنف. وإني أقسم بالله لآخُذنّ الولي بالمولى، والمُقيمَ بالظاعن، والمقْبل بالمدبر، والمُطيعَ بالعاصي، والصحيح بالسقيم، حتى يلقى الرجلُ منكم أخاه فيقول: انْجُ سعْد فقد هلكَ سُعَيد.
يا أهل ( دال)، إياي ودلَج الليل، فإني لا أوتىٰ بمدلج إلا سفكتُ دمه. لقد أحدثتم أحداثا لم تكن وقد أحدثنا لكل ذنب عقوبة. فمن غَرَّقَ قوماً غرّقْناه، ومن أحرقَ قوماً أحرقناه، ومن نقَبَ بيتا نقبنا عن قلبه، ومن نبشَ قبرا دفناه فيه حيا. فكُفّوا عني ألسنتكم وأيديكم أكففْ عنكم يدي ولساني. وأيْمُ الله إنّ لي فيكم لصرعى كثيرة، فليحذرْ كل امرئ منكم أن يكون من صرعاي."
ورغم أن سطح السيارة الملتهب كان يشوي قدميّ الحافيتين، فقد واصلتُ قائلا:
" ما بالكم ترفعون إلي أبصاركم كأنكم تريدون أن تضربوني بسيوفكم؟ أغرّكمْ أنكم فعلتم ما فعلتم فعفوت عنكم؟"
إثر ذلك تمثلتُ ببيت سُحَيم:
أنا ابنُ جلَا وطلّاع الثنايا
متى أضع العمامة تعرفوني
فلما انتهيت من خطبتي تلك قفزتُ أرضا، ودخلتُ السيارة العتيقة ثم تمددت على سريري الخشبي الصغير. كان العرق يتصبب من جسمي بأكمله وكان مخزوني من الماء قد نَفِد، فلم يبق لي من أمل سوى أن يجيء أهلُ ( دال) حاملين على ظهورهم قرَبَ الماء الزلال.
* كاتب وطبيب نفسي من المغرب.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى