شعبان يوسف - دروس بشير السباعي

" بشير السباعي لم يكن مثقفاً غزير المعرفة ومترجماً شديد التميز وحسب، بشير كان مناضلاً صلباً، وهو مؤسس العصبة الشيوعية الثورية في مصر، في منتصف سبعينات القرن الماضي، وهو أول من أدخل إلي مصر مفاهيم الثورة الدائمة علي المستوي السياسي والتنظيمي، تزاملنا سوياً في سجون السادات، سجن القلعة وسجن مزرعة طرة، وترافقنا في رحلة النضال من أجل الاشتراكية، كان رفيقاً مخلصاً شديد البأس، وانساناً شديد الرقة والعذوبة، وموسوعة معرفية ثورية لا تنضب، الوداع يا صاحبي"‬.
بهذه الكلمات ودّع الطبيب الدكتور علاء عوض رفيقه وأستاذه الكبير ومعلّمه بشير السباعي، وكان تأكيد عوض في نعيه علي أن السباعي »‬لم يكن مترجماً فحسب» موفقاً، لأن هذه السمة هي التي تأكدت عنه عبر أكثر من ثلاثة عقود فائتة، وربما أكثر من ذلك، هذا لأن الإنتاج الأبرز والأغزر هو الترجمة، وقد نقل إلي اللغة العربية أكثر من سبعين كتاباً كما قالت المصادر المتعددة، وبالطبع لا يمكن حصرها في مقال تعريفي كهذا، ولكن يمكن الإشارة إلي بعضها، حيث كان ينقل هذه الآثار من ثلاث لغات، وهي الفرنسية والإنجليزية والروسية، في لغة عربية رصينة عندما يتعرض لنقل كتابات في الفكر السياسي أو الاجتماعي كما فعل علي سبيل المثال في كتاب »‬مصر في الخطاب الأمريكي»، أو في لغة رقيقة، كما فعل في ترجمة أشعار جورج حنين وجويس منصور وقسطنطين كافافي علي سبيل المثال.
ولا بد أن نسوق ملاحظة في هذا السياق، وهي أن اختيارات السباعي كانت امتداداً لما يعتقده ويتبناه وتوجهاته الفكرية العميقة والأصيلة التي لم يتخلّ عنها تحت أي ضغوط يمينية أو يسارية أو بوليسية، فقد ظل مدافعاً عن تلك التوجهات حتي رحيله، وهذا يبدو من بعض فقرات كان يكتبها علي صفحته بموقع التواصل الاجتماعي، فقبل رحيله بأيام، كتب: »‬من الأشياء الدالة علي نبل هنري كورييل الشخصي، أنه عندما حصل علي إفراج بكفالة، عرض علي لطف الله سليمان، المناضل التروتسكي وخصمه السياسي، الامتناع عن دفع الكفالة حتي لا يتركه في السجن وحيدا!، بالطبع، لم ينس لطف الله سليمان هذا الموقف النبيل، كما لم ينس أنه قال له ساعتها: لا ياهنري. . يجب أن تخرج.. إن مكاننا يجب أن يكون وسط الناس دائماً».
وهذه شجاعة من بشير السباعي الذي ظلّ قابضاً علي تروتسكيته حتي النهاية، رغم أن العالم الماركسي كله من حوله ليس كذلك، ولكنه استطاع أن ينشئ كما نوّه دكتور عوض فريقاً من المناضلين الأشاوس، وهو عندما يستعيد لطف الله سليمان المناضل القديم، والذي أنشأ دار »‬النديم»، ونشر فيها جميع أطياف كتابات اليسار المصري، بل كان المحرر الذي عمل في الدار كان ماركسياً لينينياً كبيراً، وهو الكاتب الشاب، آنذاك، ابراهيم فتحي، وكذلك يصف بشير، هنري كورييل بالنبيل، متجاوزاً كل الصفات الأخري والسلبية التي لحقت فيما بعد بكورييل.
وهذا لا يعني أن بشير السباعي كان من حمائم اليسار، أو كان مهادناً في خلافاته السياسية أو الفكرية، بالعكس تماماً، فهو كان صلباً، وربما كان عنيفاً كذلك في خصوماته الفكرية والسياسية، ولكنه كان قادراً علي صياغة علاقة إنسانية عميقة بينه وبين المختلفين معه تاريخياً، وعلي رأسهم المترجم خليل كلفت، فكلاهما كان يشيد بالآخر، وكان يتبادلان السيرة العطرة، وهذا حديث يعرفه القاصي والداني من كل الذين عرفوا الكاتبين والمترجمين الكبيرين، رغم ذلك الغبار الذي كان يعلو دوماً حول الحراك السياسي، ولكنه كان يزول عند أول منعطف إنساني محض.
أما السمة الأخري التي لحقت بكثير من ترجماته، أنها ترجمات تخص »‬مصر» علي وجه الخصوص، مثل الكتاب الذي أشرنا إليه سابقا، وهو »‬مصر في الخطاب الأميركي» لتيموثي ميتشل، و»‬الحملة الفرنسية في مصر.. بونابرت والإسلام» لهنري لورنس، و»‬استعمار مصر» للمؤلف نفسه، كما أنه كان معنياً بترجمة ما يخص الشرق العربي عموماً، وعلي سبيل المثال كتاب »‬تاريخ الدولة العثمانية»، وهو كتاب من مجلدين، وفيه يتعرض للهيمنة العثمانية علي جميع البلاد العربية منذ عام 1517، بالإضافة إلي ترجماته الأدبية التي أشرنا إليها سابقاً، كما ترجم مسرحية للشاعرة المصرية صفاء فتحي، وراجع لها كتاباً، قامت بترجمته من تأليف المفكر الفرنسي جاك دريدا، وكان بشير السباعي أستاذاً وأباً روحياً للشاعرة صفاء فتحي، والتي تقيم في باريس منذ سنوات عديدة، كما أنه قام بترجمة الشاعر اليوناني المصري قسطنطين كافافي، وقد رأي فيه وفي أشعاره ما لم يره آخرون من مترجميه، كما قال في ترجمته التي نشرها في دار إلياس.
وعندما نقول إن السباعي كان متأثراً في ترجماته بالتوجهات الفكرية التي كان يعتنقها منذ عقد السبعينات، فإن هذا ينطبق بشكل بارز علي ترجماته للشاعر جورج حنين، والشاعرة جويس منصور، وكان بشير هو المعني الأول والأعمق بترجمة تراث الشعراء والكتّاب السورياليين المصريين، الذين أنشأوا وقادوا حركة فنية منذ أواخر عقد الثلاثينات وأوائل عقد الأربعينات في القرن الماضي، وكان ديوان »‬منظورات» لجورج حنين، إحدي ثمرات ذلك الجهد، وهذا الاهتمام، وقد صدر الديوان عن الهيئة العامة لقصور الثقافة عام 1997، وكتب له السباعي مقدمة جاء فيها:
»‬ارتبط اسم الشاعر الكبير جورج حنين ارتباطاً وثيقاً بظاهرة علي جانب كبير من الأهمية في تاريخ الأنتلجينسيا المصرية المعاصرة، ظاهرة تهميش الأنتلجينيسيا الليبرالية وظهور الجيل الأول للأنتلجينسيا الثورية المعاصرة، وقد اعتبره أندريه مالرو، الروائي الفرنسي الكبير، النموذج الأكثر ذكاء لذلك الجيل.
تشكلت رؤي الشاعر الكبير تحت تأثير الانعطافات التاريخية المأساوية التي أعقبت تراجع المد الثوري في أوروبا بعد هزيمة الثورة الألمانية في عام 1923، وتحت تأثير الغليان السوريالي الذي تفجر بين صفوف الأنتلجينسيا الإبداعية الأوروبية التي روعتها مجزرة الحرب العالمية الإمبريالية الكبري (1914-1918)، واستفزها عداء البورجوازية الأصيل للتحررالإنساني، الذي كان ماركس قد رصده منذ أوائل أربعينيات القرن التاسع عشر».
ويسترسل بشير في مقدمته، ويفصح في تلك المقدمة عن وعي عميق وثاقب وفريد، وهذا يبرر تصديه لترجمة تراث السورياليين في مصر، بعد أن تبنّاه آخرون، ليسوا علي دراية بأولويات ذلك التراث، من هنا تأتي أهمية كل ترجمات بشير السباعي الشعرية والأدبية لهؤلاء الشعراء والكتّاب المصريين، وبالتأكيد كان هؤلاء الشعراء قد تركوا أثراً واضحاً في قصائد بشير السباعي التي تضمنها ديوانه »‬فوق الأرصفة المنسية»، ويكتب في مستهل الديوان:
»‬رماد الأزمنة الجميلة
كنت أبتسم
إذ أري الممرضة ذاهلة
من اللامبالاة المرتسمة علي وجهي
في وجه الخطر
وكنت، ككل الأطفال، لا أخاف الموت
وكنت أستقبل الوحدة الجبرية
والأسر في الميناء
دون أن تفارق وجهي الابتسامة»
بقيت نقطة أخيرة أود الإشارة إليها، وهي التي ذكرها الدكتور علاء عوض، حول أن بشير السباعي كان أول من أدخل مفاهيم الثورة الدائمة إلي مصر، وهذا ما لست متأكداً منه، حيث أن هناك فصيلاً يسارياً ماركسياً له ميول تروتسكية، وكان من قياداته لطف الله سليمان وابراهيم عامر، علي المستوي الفكري، والمناضل العمالي محمد علي علي عامر، الذي نفض عن نفسه البعد التروتسكي في أواخر حياته، كما أن كتابات إبراهيم عامر التي نشرتها دار النديم في النصف الثاني من عقد الخمسينات، كانت متأثرة بالبعد التروتسكي، وبالطبع كانت ترجمة كتاب »‬الثورة الدائمة» الكاملة والصحيحة، صدرت في بيروت عام 1968 عن دار الطليعة، وتم تداولها في شتي أنحاء العالم العربي، واتُخذت كمرجع في عدد من الأبحاث والدراسات فيما بعد، أما ما نجلّه في دور المفكر بشير السباعي، أنه جعل من الثورة الدائمة حركة علي الأرض تمشي وتتمرد وتحلم وتثور وتتحول شعراً يحبه وينتمي إليه كثيرون في عدة أجيال متعاقبة.
لا تصلح أي سطور سريعة في الإشارة إلي مفكر وقائد نبيل مثل الراحل الكبير بشير السباعي.



شعبان يوسف

4/27/2019

دروس بشير السباعي

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى