كتاب كامل الفلسفة الغربية وأثرها على المذاهب المسرحية (الكلاسيكية ، الرومانسية ، الواقعية ، التعبيرية) الفصل الثالث

الفصل الثالث

المذهب الواقعيRealism

الفلسفة الواقعية عكس الفلسفة المثالية ونقيضتها تماماً، إذ إنها اتجهت إلى الواقع في إبراز رؤيتها الكونية وتوصورها للوجود، ومن أشهر الفلسفات الواقعية الفلسفة الاجتماعية أو الاشتراكية " تعنى بإصلاح المجتمع لإسعاد الفرد[83]" وكذلك ظهر تيار الفلسفة الوضعية أو التجريبية، التي " تجعل من الفرد صدي ونتيجة لعوامل مادية[84]"

وهناك عدد من الفلاسفة لعبوا جوهرياً وأساسياً في توجيه الفن عامة وجهة واقعية أمثال سان سيمون( 1760 –1825م) وكذلك جوزيف برودون Joseph Broudon ( 1809 –1865م) والذي يري أن العدالة ما هي رؤية مثاليــة صنعها الإنسان لنفسه لكنها وليدة المجتمع ، ويرى جوزيـــف أن مظهـــر الدالة في الطبيعة هو ( التعاون بين أجزاء الطبيعة ) ومظهرها في المجتمع (هو التعاوني المبني على المساواة بين الناس) أما مظهرها في الفرد نجده في ( مبدأ الفكرة وصورتها ) كما يرى جوزيف أن العدالة هي الغاية من الوجود والمعرفة . كما نادي بأن يخدم الفن هذه الغايات والمبادئ، ويمكن إيجاز الواقعية في الفكر الغربي في الآتي " إن المعرفة المثمرة هي معرفة الحقائق وحدها ، وأن العلوم التجريبية هي التي تمدنا بالمعارف اليقينية ، وأن الفكر الإنساني لا يستطيع أن يعتصم من الخطأ ، في الفلسفة وفي العلوم إلا بعكوفة الدائم على التجربة ،وبتخليه عن كل أفكاره الذاتية السابقة وأن الأشياء في ذاتها لا يمكن إدراكها ، لأن الفكر لا يستطيع إدراك شيء منها سوى العلاقات ثم القوانين التي تخضع لها العلاقات [85]" إن أكبر تـيار فـي النقــد الأدبي أنتجته الواقعية هو ما يطلق عليــه ( النقد السياقي ) بل إن فكرة السياق نفسها تعتبر من أكبر الأفكار التي أنتجها القرن التاسع عشر ، وهي تعني تفسير الشيء وفقاً لسياقه إن كان ذلك السياق اجتماعي أو أدبي أو نفس . ومن أشهر التيارات النقدية السياقية، تيار النقد النفي والنقد الموضوعي ، وهما تياران كان للتجارب الواقعية اثر كبير في ظهورهما.

2- الواقعية في المسرح:

تقول فيليس هارتونيل في تعريفها للواقعية في المسرح"مسرحية جيدة الصنع ظهرت عند نهاية القرن التاسع عشر وأته فيها التمثيل إلى قضايا ومشاكل ذلك القرن من حيث الحوار والمواقف [86]" لكن هناك عوامل عديدة فكرية واجتماعية أدت إلى نشؤ هذه الأنماط من المسرحيات حيث طرأت تحولات على المجتمع عند منتصف القرن التاسع عشر ولعبت الفلسفة دوراً حيوياً وكبيرا في جوهر هذا التحول ، ثم بدت الفكرة الرومانسية التي تسعي إلى حل مشاكل الإنسان عن طريق قدرته التي لا نهاية لها على الخير فكرة غامضة وغير عملية وبدأ كثير من الناس يدعون إلى التخلي عن الأحلام والبحث بطريقة منظمة وعلمية عن حلول لمشاكل الإنسان عن طريق حقائق مادية ملموسة وتجريبية.

لقد بدأ الفكر الأوروبي رحلة الخروج من الذاتية المثالية إلى الواقعية التجريبية، والبحث عن شروط ومقدمات منطقية لتفسير الظواهر المختلفة. ولم تعد ا لفردية هي محور البحث ومقياسه، بل أصبح البحث عن السبب الموضوعي الذي يؤدي إلى نتيجة واضحة هو محور التفكير. وهذا انتقلت أوروبا إلى مرحلة جديدة من التفكير وهي مرحلة أخذت ملامحها تنعكس بوضوح على الأدب والأجناس الفنية المختلفة بما في ذلك فن كتابة المسرحية، بل وفن إحراجها وعرضها على الخشبة (Stage) المسرحية.

3- أثر الفلسفة الوضعية على المسرحية الواقعية:

تعتبر كتابات الفيلسوف أوجست كونت (1789م – 1857) صاحب الفلسفة الوضعية ( Positivism ) من أكبر العوامل التي ساعدت في تطوير الواقعية ( Realism) ففي كتاباته التي ظهرت ما بين 1830م ، 1854م ، كان كونت يدعو إلى أن علم الاجتماع هو أعلي أنواع المعرفة إ أن كل أنواع المعرفة يجب أن تسخر في خدمة المجتمع والسبيل إلى هذه الخدمة لا يتأتي إلا عن طريق الملاحظة والتجربة بحيث يستطيع الإنسان أن يري العلاقات بين الأحداث المختلفة التي تحدث في المجتمع كعلاقات سبب ونتيجة.

إن الفلسفة الوضعية جعلت من المجتمع موضوعاً للتجربة الأدبية وأصبحت قضايا المجتمع هي عناصر البحث الأدبي والأثر الفني. وهو اتجاه جاري فيه الأدب الاتجاه نحو المعرفة العلمية التي اعتمدت على التجربة في العلوم التطبيقية المخلفة والمتعددة. كما كان لظهور نظرية داروين المعروفة بـ (اصل الأجناس ) دور كبير في دعم فكرة البحث المادي والمحسوس.

وفي المسرح يعتبر الروائي الفرنسي نوري دي بلزاك Honore De Balazac) 1799 –1850م أحد مؤسسي تيار الواقعية في الأدب ، والذي أجرى دراسة عميقة لمجتمعه "تكشف عن فساد وتحلل المجتمع في ذلك الوقت[87] " وكتب بلزاك قائلاً " أن المؤرخين في كل بلد قد نسوا أ، يؤرخوا للأخلاق[88] ".

وكان لبلزاك أثر كبير على مجرى الواقعية بطريقته العلمية والأمينة في تحليل النفس البشرية وتبعه في ذلك عدد من الأدباء والكتاب.

وكتب إميل (زولا ) وهو أحد رواد الواقعية مدافعاً عن ا لطبيعة قائلاً " لقد وصلنا إلى ميلاد ما هو واقعي وهو القوة الوحيدة في القرن التاسع عشر وستسقط حوائط الدراما القديمة وحدها دون مجهود أن الحدث في مسرحيتي لا يكمن في قصة ابتكرت خصيصاً لهذا الغرض.. بل في صراعات الشخصيات الداخلية … فليست الحوادث هي التي تهمني بل العاطفة والإحساس [89]" وتخلي بلزاك عن الحدث هو بداية الدخول إلى عالم الشخصية (Character ) . وهو ما عرف مؤخراً ( بالواقعية النفسية) حيث بدأ البحث داخل النفس البشرية وصراعاتها بعد تأثرها بالواقع . وهذه الانعكاسات هي التي تطور قصة المسرحية وليس الحدث Action كما هو في المسرحية الكلاسيكية. وينظر عديد من النقاد والمؤرخين إلى أميل زولا (Emile Zola ) 1840 –1920م على أساس أنه البداية الحقيقية لتيار الواقية في المسرح ذلك لبيانه الشهير الذي قال فيه "المسرحية شريحة من الحياة [90]" التي انتشــرت فــي كــل أنحاء أوروبا بعد عرض مسرحيــته الشهــيرة ( الأعماق السفلي ) في عام 1902 بمسرح الفن بموسكو. لكن هناك ناقد فرنسي يدعى (فرديناند برونتير ) ينظر إلى زولا بوصفه رومانسي وأن إيمانه بالعلم ليس إيماناً علمياً " ايمان إميل زولا بالعلم كان إيماناً غير علمي تشوبه الرومانسية . ذلك فقد يؤدي إلى القدراية الآلية[91]"

وحقيقة القول أنه إلى برونتير تنسب علمانية المسرح ، وذلك بعد أن أتجه بالمسرحية إلى المادية البحتة ، والصراع مع البيئة وصورها بدلاً من فكرة القدرية التي سادت الدراما الكلاسيكية كما شهدنا ذلك في مسرحية (أوديب ملكاً) ويرى بروننتير إن الدراما إنما تكمن في محاولة الإنسان أن يتحكم فيما حوله[92] " وكان برونتير ؤمن بقوة الإنسان وإرادته …,تلك الإرادة التي من شأنها أن تقهر الطبيعة وهو يرى أيضاً إذا ما ضعفت إرادات البشر فذلك يؤدي إلى تهديد حياة المسرح ومن ثم تحلله ونهايته . وهذا رأي يجعل من الحياة معادل موضوعي للمسرح ، والواقع الاجتماعي المحسوسة أساساً للبناء الدرامي ، فإذا ما انعدم الواقع الخارجي انعدمت الفكرة المسرحية لأن الفكرة في عرف الواقعية ما هي إلا انعكاس للواقع . وأنه لولا الواقع المحسوس والمادي خارج الذات لما استطعنا إدراك أي شيء. وهو إفتراض فيه معكوس المثالية التي ترى أن الحواس هي التي تمكننا من إدراك الواقع ، فإذا إندمعت الحواس ، لا يمكن للفرد أن يدرك الواقع ، فنحن لا نقوي على تخيل شخص دون حواس البصر والسمع واللمس والشم والذوق .ولكن الواقعية في الأدب ترى عكس ذلك كما هو عند برونتير.

ويعتبر الناقد الفرنسي ( تين ) ذا أثر فاعل في دفع تيار الواقعية الاجتماعية في المسرح خاصة والأدب عامة "كان يري الأدب تعبيراً عن ثلاث قوية رئيسية: البيئة والنوع البشري والفترة [93]" أي الأدب في نظر تين (Tin ) منتوج اجتماعي بحت وهو خلاصة تفاعل الإنسان ككائن بشرى مع ما حوله من بيئة ، وهو اتجاه يصب في خانة الواقعية الاجتماعية للأدب . كما كان للفيلسوف ( بيرجسون) أثر كبي ومباشر على المبدعين خاصة الكاتب المسرحي هنرك ابسن (Ibsen ) 1828 –1906م رائد الواقعية في المسرح والذي سوف نعرض في الجزء القادم لجزء من حياته وكتاباته.

4- هنريك ابسبن ( 1828 –1906م):

" كاتب درامي وشاعر ولد بمدينة سكين ( Skien ) في النرويج لصاحب ثروة كبيرة لكن سرعان ما فقد تلك الثروة ، لذلك أمضي أبسن حياته الأولى في الفاقة[94] ".

ينظر النقاد المسرحيون إلى ابسن كمؤسس لتيار المسرحية الحديثة ، تلك المسرحية ( جيدة الصناعة) والتكنيك الكتابي ،والتي تخلت عن البحث للمحافظة على المآسي فقط ، أو الأحاسيس الرومانسية ،بل الولوج إلى مناقشة القضايا الاجتماعية الحية وابسن هو رائد هذا التيار الحديث الذي يطلق عليه اسم الدراما الحديثة (Modren Drama) ، وأهم مميزات ابسن اكتشافه تكنيك كتابي تجعل الشخصيات داخل المسرحية تناقش مشاكلها ، بدلاً من أن تزعن إلى حظها المأسواوي " إن ابسن هو الذي وجد الوسائل لإجبار الناس على مناقشة مشاكلهم وأصبحت المسرحية على يديه وسيلة لمناقشة المشاكل والأدواء التي يعاني منها المجتمع. وكانت المسرحية قبل ابسن تتكون من العرض ،والعقد ( الموقف ) ثم الحل أما عند ابسن فالمسرحية هي العقد والعقدة ( الموقف ثم الحل أما عند ابسن فالمسرحية هي العرض ، والعقدة والمناقشة . لابد من مناقشة المشكلة التي تتناولها المسرحية [95]" انظر الشكل (2) و (3) . ويبدو ابسن في مسرحه أشبه بفيلسوف اجتماعي ، همه إثبات أثر المجتمع على الفرد ، وإمكانية انعكاس ذلك في رؤية هذا الفرد للأحداث. لم يكتف ابسن بالمسرحية الاجتماعية التي تناقش قضية المجتمع في كليته بل اتجه نحو الفرد ثم عاص في داخله وحاول رسم البناء النفسي لشخصياته بصورة واقعية لم يسبقه إليه احد وتتميز مسرحيات ابسن بخصائص ومواصفات واقعية ذات أصول فلسفية يمكننا أن نجملها في الآتي:

1/ أمانة بأن الإنسان يمكنه أن ينقذ نفسه بنفسه وهو ما حاول أن يصوره في مسرحيته (براند) والتي يقول فيها البطل-(سواء كنت فقيرا أو غنيا فسأريد بكل طاقتي ... والإرادة وحدها تكفي) ويري رشاد رشدي أن تركيز ابسن علي النزعة الفردية توضح تأثره بـ(شوبنهارو[96]) إلا أن القاري ابسن استطاع أن يبرز إرادة الفرد وحريته انطلاقا من علاقة الفرد بالمجتمع .

2/ ينطلق ابسن من فلسفة محددة وهي أن الإنسان نتاج لبيئته لكن هذه البيئة الاجتماعية لا يمكن لها أن تتغير إلا بعد أن يتغير الإنسان نفسه لذلك نجد أن ابسن يضع الخلاص الذي ينبع من نفس شخصياته هو الحل الوحيد للمشاكل الاجتماعية التي تتعرض لها .

3/ نلاحظ أن شخصيات ابسن وخاصة في مسرحيات المرحلة المتوسطـــة (المسرحيات الاجتماعيـة ، بيت الدميـة ، الأشبـاح ، ( البطة البرية ) تكافح في سبيل التحرر من القيم الاجتماعية الزائفة ، وابسن في هذا يتفق مع الرومانسيين أمثال (جوته) و ( شيللر ) ولكن في حين كان الطريق إلي الحرية وهو هدم القيم الاجتماعية والزائفة قضية عامة للرومانسيين نجد أن ابسن يأخذ هذه القضية ويستخدمها موضوعاً في المسرحيات ويطبقها تطبيقاً عملياً على الحياة الاجتماعية فمثلاً نجد احد شخصياته في مسرحية (بيت الدمية ) تقول ( سأجد من منا على حق أنا أم المجتمع). ولقد أصبح مسرح ابسن المثل الأعلى للمسرح الواقعي.

ولقد انتشرت الواقعية في كل أنحاء أوروبا ففي إنجلترا ظهر جورج برنادشو ( 1856 –1950م) وفي روسيا ظهر انطوان تشيخوق (1860-1904م) . ثم تدريجياً بدأت الواقعية في ا لتنوع إلى مدارس أخرى منها الرمزية والتعبيرية ذلك بعد ظهور جديدة في أوروبا أدت إلى تحولات جذرية في القارة الأوربية وهو ما ذهبنا إلى بحثه في الفصل الرابع إن شاء الله.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى