الفلسفة الغربية وأثرها على المذاهب المسرحية (الكلاسيكية ، الرومانسية ، الواقعية ، التعبيرية) الفصل الرابع

الفصل الرابع

المذهب التعبيريImpressionism

نشأت التعبيرية كمدرسة فنية على نقيض الواقعية ، وهي في الأصل تمرد انتظم كافة ضروب الفكر والفن في القارة الأوروبية والتي ضاقت ذرعاً بصرامة الواقعية في الفن، ولقد أطلق اسم التعبيرية على مجموعة من الرسامين يحذون حذو فان جوخ وقوقان وتعتبر مسرحية "الابن للكاتب الروسي هياسنلكليفر Hasenclever)) أول مسرحية تعبيرية وهي من(عبر يعبر تعبيراً ) وتعني أن الشخص يعبر عن رؤيته هو للواقع أو الحقيقة وفقاً لانطباعه. وجاءت التعبيرية عكس الواقعية في المسرح ، أي أن الواقع ذو المفردات المتعددة والمظاهر المختلفة بات لا يعنى شيئاً للمسرحين بعد أن ضاق به المخرجون خاصة والدراميون بصورة عامة. "ومادام الكاتب يسعى إلى تصوير هذه الحقيقة الدخيلة، فهو يختار الوسائل التي تكفل له التعبير الملائم لذلك نجده أحيانا يغير أو يشوه مظهر الأشياء "ويمكننا القول إن المدرسة التعبيرية تمثل بداية الأزمة الحقيقية للإنسان الأوربي في مطلع القرن العشرين حيث ازدادت العزلة وتفاقم الإحساس بلا جدوى اللغة ، ثم بدأ النظر إلى اللغة على أساس أنها وسيلة غير فاعلة في توصيل الأفكار والرؤى ، لكل ذلك لم يعط التعبيريون اللغة في المسرح اهتماماً كبيراً كما هو الحال في المسرح ( الواقعي) و الكلاسيكي ) و ( الرومانيس ) ، واستعملوا لغة متقطعة ، لا تفيد في تطوير الحدث الدرامي أو القصة ، وكثيراً ما نجد ( الصمت) يلعب دوراً كبيراً في بناء النص الدرامي ، واهتم التعبيريون بالإنسان وعزلته ، ووقوفه حائراً أمام بدأت تأخذ حيزاً كبيراً من المدينة الأوربية وتلعب دورا كبيرا في ثقافة وحياة الناس اليومية.

لكن البداية العملية للتعبيرية ظهرت على خشبة المسرح عندما بدأ المخرج الروسي ماير هولد (Hold) في تخلص المسرح ومعماره من أثاثات الواقعية، لتوفير مساحة كبيرة تمكنه من تحريك شخصياته المسرحية فوق خشبة المسرح (Stage ) مثل الدمي (Puppets ) وفقاً لنظريته في الإخراج التي أطلق عليها أسم (البايو ميكانيك).

بلاشك إن المعني الفلسفي لهذه الحرة مرتبط بهروب الفنانين من الواقع إلى عالم الأحلام والاستغراق في الذات لدرجة أن شخصياتهم المسرحية لم تعد تظهر في شكل مسرحي واقعي كما هو الحال في المسرح التقليدي والواقعي ، بل في كثير من الأحيان جاءت في شكل دمي وأحلام لتعبر عن رؤاهم التعبيرية . وفي نظر التعبيريين أن الإنسان يسعى إلى الاكتمال و قادر على أن يكون عظيماً ونبيلاً … ولكن الثورة الصناعية قد جعلت حياة الإنسان آلية. بل وجعلت الناس أنفسهم آلات يختلف أحدهم عن الآخر في سلوكه وأخلاقه. هناك بعد فلسفي آخر عميق لتيار التعبيرية وهو رفضها التام للواقعية التي تنظر إلى الإنسان كواجد من المفردات الواقعية لهذا الوجود والذي يمكن دراسته على ضوء واقعة وبيئته الاجتماعية. لهذا كله كان بحث التعبيريين منصباً في النفس البشرية التي من شأنها أن توفر لنا التعبيرية تنظر إلى الفرد في أوج أزمته النفسية ، وبالتالي إن التعبيرية هي أول المذاهب المسرحية التي حملت إلينا تيار ملامح الفلسفة الوجودية ، وتيار التعبيرية في المسرح يكشف لنا حقائق هامة هدف إليها هذا البحث وهي:

أولاً: أنه بعد تيار التعبيرية أصبحت المسرحية الأوروبية أكثر احتكاكاً وملامسة للفلسفة، بل أصبح النص المسرحي أشبه بيان فلسفي يعبر عن رؤية الكاتب حتى في الغالب ما تأتي أشبه بزفرة أو صرخة تعبر عن أزمة الإنسان الأوربي في القرن العشرين.

ثانياً: بظهور ا لتعبيرية على خشبية المسرح Stage تخلقت المسرحية عن غالبية عناصرها التي اكتسبتها عبر تاريخها الطول من الكلاسيكية في مطلع القرن الثالث قبل الميلاد إلى الواقعية في الربع الأول من هذا القرن العشرين مروراً بالرومانسية عند القرن السابع عشر ، ويمكننا القول إن المسرحية والواقعية للمسرحية مثل التخلي عن مفهوم الفعل الاروسطي أو الشخصية الذي انحصر في الإنسان (Person ) حيث أصبحت الشخصية مفهوماً عاماً يفيد في الحوار فقط مثل أن تكون رقماً أو حيواناً أو دمية على هذا النحو مثلاً:

( الشخصية 1- ………………………)

الشخصية 2-…………………………)

خلاصة القول ما أن تيار التعبيرية مثل نموذجا للتمرد على المؤسسة المسرحية على مستوى البناء الدرامي والكتابة المسرحية ، وهو ذات التمرد الذي نجده في نواحي الحياة الأوربية المختلفة في تلك الفترة.

ثالثاً: إن التعبيرية وبتطابقها مع التطور الفلسفي الوجودي والعدمي بالتحديد بدت أشبه بختامة تاريخ المسرح الأوربي ، في حركة موازية للوجودية كخاتمة للفلسفة الغربية حيث تأتي التعبيرية في المسرح أشبه بنهاية منطقية لعرض هذا التيار على خشبة المسرح.

ولقد اتجه التعبيريون إلى شكلين يعالجون فيهما مأساة الإنسان الحديث "أولهما إبراز النواحي والعوامل التي ساعدت على تشويه الإنسان وأحالته إلى آله… ومن هذه العوامل طبعاً أو أبرزها القيم الزائفة … أما الاتجاه الثاني وهو لا يتضح في الدراما التعبيرية بنفس نسبة الاتجاه الأول فهو رسم الطريق إلى مستقبل أفضل[97]" ويعتبر الكاتب السويدي أوجست استراتندبيرج (August Strindberg) 1829 –1912م نموذجاً حقيقياً للكاتب التعبير ولقد كتب أكثر من خمسين مسرحية وهو يعاني حالة الجنون وأهم مسرحياته ( الحلم) و (سونات الشيخ).

كما كتب استراند بيرج في مقدمة مسرحيته ( الحلم ) بيانا ينظر إليه الدارميون على أساس أنه بداية انطلاق التعبيرية في المسرح يقول فيه"لقد حاول المؤلف محاكاة شكل الحلم وهو الشكل الذي قد يبدو منطقياً ولكنه في الحقيقة غير ذلك . فأي شيء يمكن أن يحدث وأي شئ ممكن ومحتمل.

ولا وجود للمكان أو الزمان… وهنالك خليط من التجارب والتخيلات والعبثيات[98]"

هنالك إشارة للزمان والمكان وهذا أمر مهم للغاية وهو أن المسرحية التعبيرية بتخليها عن الزمان والمكان أضحت تعبر بصورة مباشرة عن عدمية الحياة والمعني التجريدي للحياة الأوربية، ولقد أصبحت المسرحية التعبيرية تعبر عن الثورة ضد المسرحية نفسها" ففي هذه المسرحيات التي يطلق عليها أحياناً أصحابها أسم ( ضد المسرحية) أو اللامسرحية لا وجود للزمن أو المكان والشخصيات نجدها تغيير فجأة ودون سبب واضح [99]" ، ويعتبر البعث (Absurd) محور المسرحية التعبيرية . وتعبر الوجودية من أهم الفلسفات التي مهدت الحدث.

وأهم كتاب الوجودية هما جان بول سارتر والبيركامي يقول سارتر "أنه لا وجود لقيم أخلاقية عالمية ولذلك فالإنسان يسير على غير هدى في عالم خال من الهدف وبناء عليه فكل منا حر ومسؤل فقط أمام نفسه. وعلى كل إنسان أن يبحث عن القيم التي تتلاءم معه ويلتزم بها ويتصرف وفقا لها [100]" ولقد عبر جان بول سارتر في مسرحياته الشهيرة ( الذباب) و ( لا مفر) عن هذه الفكرة التي لا تعطي أدني اهتمام للقيم الدينية والأخلاقية وتتحرك في فضاء مسرحي حر معبراً عن عدمية الحياة.

أما البير كأمي فكان ينظر إلى الموقف الإنسان على أسا أنه ( عبث) وهو يرى أن العبث ينشأ من الصراع بين آمال الإنسان ورغباته والعالم الذي لا معنى له والذي يحتم على الإنسان أن يجد طريقة وسط عالم من الفوضى.

وعبر عن ذلك في مسرحيته الشهيرة (سوء التفاهم ) ، ولكن الباحث في مسرح كل من ساتر والبيركامي يجده لا زال محتفظاً بالشكل التقليدي من حيث النباء الدرامي والتكنيك الكتابي ، في حين أن كتاب العبث الذين خلفوهما عملوا على تحطيم الشكل التقليدي لكتابة المسرحية.

1/ الوجودية والمسرح:

والوجودية من أكثر الفلسفات الغربية التي نقدت الواقعية المادية ، "يرى الوجوديون أن الواقعيين الاشتراكيين ناقضوا أنفسهم إذ قرروا أن الفكر انعكاس للمادة ، وذلك في قولهم إن البنية العليا في المجتمع وليده البنية التحتية[101] " أي أن الاقتصاد وعلاقات الإنتاج هما الأصل في البناء الاجتماعي ، وبالتالي إن أي تحول في هذه البنية من شأنه أن يؤدي إلى تحول آخر في البنية الفوقية ، ويقصد بها الأخلاق والعادات والدين… الخ.

وترى الوجودية في ذلك تناقضا كبيراً، بل هو التناقض الذي أقره الغالبية العظمي من الفنانين في نقدمهم للتفسير الاشتراكي للأدب والفن عامة والفلسفة الماركسية على وجه الخصوص إ أن التجربة توضح أن ليس للوضع الطبقي أثر جوهري في الظاهرة الإبداعية ويري الوجوديون أن فلسفة الأدب تستلزم من المرء أن يحرص على قيم دائماً يمكن أن يحققها في المستقبل، وأن يعمل على تجاوزها باستمرار وكذلك يرى الوجوديون أن يصدر الأدب عن حرية إيجابية وهي أيضاً حرية قابلة للتحول عن طريق الوعي، فالوعي الفردي من شأنه إكساب الموقف الإنساني قيمة. وبالتالي فهم ينظرون الوجوديون إلي الأثر الفني أو المنتوج الأدبي بصفته عمل حر يتوجه به الكاتب أو الفنان إلى القارئ الحر ليشاركه في خلق ما يريده المؤلف خلقاً صادراً عن الحرية في معناها الإنساني، ويرى الوجوديون أن تفكير الفرد ليس انعكاسا للماجة فالأشياء دائماً محكومة وليست حاكمة، أي أن الفرد هو الذي يخلق القيمة ويعطيها معناها الحقيقي، فهو بالتالي، الفرد وحدة يمتلك رؤيته الخاصة لموقف الأدبي أو الجماعي، ولكل ذلك نظر الوجوديون إلي الكتابة والإنتاج الأدبي بصفتها ( وعي خاص)، ( وحرية خاصة ) يحمل دعوة للآخرين للمشاركة والأدب هكذا في رؤية الوجوديين ( موقف إنساني) وذاتي واجتماعي ليس شيئاً من الأشياء ولكنه وعي حي يتوجه به الكاتب إلى جمهور خاص ، غير أن الكاتب قد يتوجه به إلى جمهور بعيد من موطنه ليصف له ، من وراء الموقف الخاص ، مثله الإنسانية . ولهذا يقسم سارتر " الجمهور الذي يتوه إليه الكاتب إلى قسمين جمهور واقعي وجمهور مثالي ، وتوجه الكاتب إلي أي منهما يتحكم في صياغة معانية وتصوير جمله[102] ". ويقول جان بول سارتر: أحد الدواعي الأساسية للخلق الفني يمكن حقاً في حاجتنا إلي الشعور بأننا ضروريون بالإضافة إلى العالم [103]". فإذا سجلت في لوحة مرسومة أو مقالة ، ملامح وجه في منظر من مناظر البحر أو الحقول ، فأحكمت الصلة بين أجزائه ، وأدخلت فيه قيمة من القيم ، وفرضت وحدة الفكر على مختلف أجزائه ، فعندي ، في هذه الحالة ، وعي بأنني أنتجت هذا المنظر بأجزائه أي الأدب تستلزم من المرء أن يحرص على قيم دائماًت يمكن أن يحققها في المستقبل وأن يعمل على تجاوزها باستمرار وكذلك يرى الوجوديون أن يصدر الأدب عن حرية إيجابية وهي أيضاً حرية قابلة للتحول عن طريق الوعي، فالوعي الفردي من شأنه إكساب الموقف الإنساني قيمة . وبالتالي فهم ينظرون، الوجوديون، إلي الأثر الفني أو المنتوج الأدبي بصفته عمل حر يتوجه به الكاتب أو الفنان إلى القارئ الحر ليشاركه في خلق ما يريده المؤلف خلقاً صادراً عن الحرية في معناها الإنساني، ويرى الوجوديون تفكير الفرد ليس انعكاساً للمادة فالأشياء دائماً محكومة وليست حاكمة، أي أن الفرد هو الذي يخلق القيمة ويعطيها معناها الحقيقي، فهو بالتالي، الفرد وحده يمتلك رؤيته الخاصة للموقف ا لأدبي أو الجماعي. ولكل ذلك ينظر الوجوديون إلى الكتابة والانتهاج الأدبي بصفتها ( وعي خاص)، ( وحرية خاصة) يحمل دعوة للآخرين للمشاركة والأدب هكذا في رؤية الوجوديين ( موقف إنساني) وذاتي واجتماعي ليس شيئاً من الأشياء ولكنه وعي حي يتوجه به الكاتب إلى جمهور خاص ، غير أن الكاتب قد يتوجه به إلى جمهور بعيد من موطنه ليصف له ، من وراء الموقف الخاص مثله الإنسانية . ولهذا يقسم سارتر "الجمهور الذي يتوجه إليه الكاتب إلي قسمين جمهور واقعي ، وجمهور مثالي ، وتوجه الكاتب إلى أي منهما يتحكم في صياغة معانية وتصوير جملة[104] " ويقول جان بول سارتير: أحد الدواعي الأساسية للخلق الفني يمكن حقاً في حاجتنا إلى الشعور بأننا ضروريون بالإضافة إلى العالم [105]". فإذا سجلت، في لوحة مرسومة أو مقالة، ملامح وجه في منظر البحر أو الحقول، فأحكمت الصلة بين أجزائه، وأدخلت فيه قيمة من القيم ، وفرضت وحدة الفكر على مختلف أجزائه ، فعندي ، في هذه الحالة ، وعي بأنني أنتجت هذا المنظر بأجزاء أي أحس بأني أنتجت هذا المنظر بأجزائه أي أني أحس بأنني ضروري بالنسبة إلي ما خلقت . ولكن الشيء الذي خلقته فنياً هو الذي يستعصي على هذه المرة: إ لا يمكن أ، اكتشف وأخلق في آن واحد ويرى سارتر أن وجود الآخرين أمراً ضرورياً ليحقق الأدب وجوده الكامل فتعاون المؤلف والقارئ في مجهودهما هو الذي يخرج إلى الوجود هذا الأثر الفكري، وهو الإنتاج الأدبي المحسوس الخيالي في وقت واحد فلا وجود لفن إلا بوساطة الآخرين ومن أجلهم.

ولما كانت الوجودية جعلت من الإنسان محور النشاط في هذا الكون نجدها أيضاً جعلت من الإنتاج الأدبي والفني ، محور لأنا الكاتب. أي أن الكتابة شكل من أشكال ( تعالى الأنا) وهذه الأنا المتعالية سوف تظل في حالة ركود سالب إذا لم يكتشفها الآخر بالقراءة وجعلها كياناً موجوداً وهو أمر فيه جانب مهم لفهم جان بول لمسالة الكتابة والإبداع، وما لاحظناه يؤكد على عزله الإنسان حتى في حالة الإنتاج الإبداعي، وأن الآخرين هم الذي يكتشفون المبدع ودونهم لما اكتشف المبدع ( أناه) التي تبدت في إنتاجه الأدبي أو الإبداعي ويقوى للإدراك والخلق، وهي تكممن في حتمية المؤلف وإنتاجه معا. فإنتاجه حتمي لأنه بالضرورة متعال، ولأنه يفرض مقوماته الخاصة التي يجب أن يكون القارئ لها في حال انتظار وملاحظة، والمؤلف كذلك حتمي لا لأن القارئ يكتشف موضوعه فحسب ( أي يبرزه للوجود) بل لأنه يجعل هذا الموضوع ذا وجود مطلق ( أي أنه ينتجه ) وموجز القول إن القارئ على وعى بأنه يكتشف الموضوع ويخلقه، يكتشفه في الخلق ويخلقه بهذه الاكتشاف.

ولقد عبر جان بول سارتر عن أفكاره هذه في مسرحيته الشهيرة ( لا مفر أو الجحيم هو الآخرون) وفيها يكتشف سارتر عن رؤيته العدمية لمسألة الحرية، إذا يقوم فيها بتصوير يوم واحد من أيام الجحيم، أي أن شخصيات المسرحيات جميعها ميته، فمنذ انفراج الستار نرى ثلاثة شخصيات داخل غرفة قصد بها الجحيم ثم رويدا رويداً تكتشف الشخصيات الثلاثة أنه لا مخرج لها من هذا المكان ويزداد الجحيم وتبرز حاجة كل واحد منهم إلى الآخر ، فليس هناك واحد من هؤلاء الثلاثة بمقدوره أن يعيش في وحدته بل هناك حاجة حتمية للآخرين ، لدرجة أن صار كل واحد منهم عذاباً وجحيماً للآخر.

2- العبث واللامعقول في المسرح:

العبث واللامعقول تياران مسرحيان يصبان في مفهوم ( العلم Nothingness ) الذي يرتكز على الفلسفة الوجودية الملحدة لجان بول سارتر. وبهما تقف الظاهرة المسرحية الأوروبية اليوم كشاهد على أزمة الحضارة الأوروبية ويكشف تيار العبث عن جوانب فكرية ودرامية توضح إلى أي مدى تحول المسرح إلى نظام احتجاج ورفض للحياة الاجتماعية والسياسية عامة ذلك بعد أن وقف الفنان الأوروبي على حقيقة (لا معني ) الحياة الأوروبية، واللامعني هو جوهر كل مسرح العبث واللامعقول. كما يقوم هذا التيار على نقص الفكرة المسرحية تماماً ، ويسعى كتاب مسرح اللامعقول مثل صمويل بيكت إلى تهشيم البناء الدرامتي والتقليدي للمسرحية ويقول يونسكو في ذلك "إن الدراما منذ الإغريق تسير في طريق واحد لم يتغير وهو عرض مشكلة وإيجاد حل لها . فهي كالقصة البوليسية تتطور من نقطة إلى النقطة التي تليها. والكاتب هو المخبر الذي يكشف عن المشكلة إلى أن يجدلها حلاً. وإخضاعه الحياة للمنطق يزيفها[106]" في رأي يونسكو أن الحياة ليست بهذه البساطة ولأنها مليئة بالمتناقضات سواء في الوجود الاجتماعي ، أو الوجود الكوني لذلك هدف كتاب مسرح اللامعقول إلى إلغاء منطق الدراما من (بداية ووسط ونهاية ) فضلاً عن تمردهم على مفهوم ( الوحدة العضوية) من وحدة فعل وزمان ومكان ، إنهم يعتقدون أن أي دراما تقوم على البناء المنطقي هي دراما مفروضة على الحياة ولما كانت الحياة في رؤيتهم هي حزمة مناقضات ينبغي أن يعبر عنها الكاتب بمسرح غير منطقي في فعله وشخصياته . ويرى يونسكو " أن الحقيقة التي يصورها الخيال لها معني أكثر من ا لواقعية[107] " لأن الحقيقة ليست فيما يبدو أننا نفعل بل فيما نحلم ونتخيل وفيما نخفي … وفي كل هذه الأشياء مجتمعه وما يصنعه الخيال تتحكم فيه قوانينه الخاصة به النابعة من رؤياه … وهذه القوانين هي قوانين الحقيقة الكلية المطلقة … ولذلك فالمبرر الوحيد للعمل الفني ليس المعني الوحيد الذي نستخلصه منه بل العمل الفني نفسه … وهو العمل الذي يستمد كيانه من ذاته فقيمته مطلقة تماماً مثل الشجرة كما يقول يونسكو التي لا يمكن أن ( تفصح عن نفسها إلا بكوها شجرة) … "والعمل الفني ليست له قيمة نسبية لأنه ليس قيمة تعبيرية أو تمثيلية. فالعمل الفني لا يمثل إلا نفسه ولا يعبر إلا عن نفسه ولا يقوم وإنما يكون [108]" هذه الثورة ضد الواقع ما هي ا لا تعبير آخر عن فقدان يونسكو لمعنى الحياة ، فأصبحت الحقيقة لا تتطابق مع الواقع ، بل هناك حقائق يعبر عنها الفن هي حقائق غير واقعية حقائق لا تنتمي إلى عالم الظواهر والوقائع المحسوسة التي تشكل المعارف اليومية للكائن البشري، لذلك فإن ( مسرح اللامعقول) يرفض أن تكون له خصائص معقولة بغية التخلص من المعني الواقعي المحدد والمعني العلمي للأشياء. يمكن النظر إلى مسرح (جورج برناردشو) ومسرح ( هنريك ابسن) الذي يعرض المشكلة بمنطق علمي ثم يجد لها حلاً عند نهاية الأمر . ومن أشهر مسرحيات اوجين يونسكو مسرحية ( الكراسي ) وقال عنها "أن موضوع الرواية هو (العدم) أو ( اللاشيئية) التي تنعكس في الكراسي الخالية والمسرح الخالي والحياة الفارغة التي تصورها المسرحية … ,المسرحية أيضاً توحي باستحالة الاتصال أو التعبير عن تجربة مر بها الإنسان آخر- وهو ما يتضح في نهاية المسرحية أي في الخطبة التي يلقيها الخطيب الأصم الأبكم والمسرحية بهذا تعبر تعبيراً صادقاً عن النظرة العبثية للوجود[109]كما كتب يوجين يونسكو مسرحيات أخرى عديدة منها (المغنية الصلعاء)، و(الدرس) و(ضحايا الواجب) و(المستأجر الجديد) و(الخرتيت القاتل).

ويعتبر (صمويل بيكت) هو الآخر من أشهر كتاب العبث وأشهر مسرحياته (في انتظار جودو) التي ترجمت إلى أكثر من لغة وهي مسرحية الانتظار والأمل والتوقع الذي لا ينتهي إلى شيء. بل أن كل الأشياء مشكوك فيها بما في ذلك معنى الحياة نفسها وكذلك معنى كل تجربة غامض وغير مجد ويحمل أكثر من معنى وأكثر من تفسير ويري (بكيت) ضرورة إشباع هذا (اللامعنى) في شكل المسرحية وتكنيكها.

لم يقف تيار مسرح (اللامعقول) في حدود فرنسا فقط بل انتشر في كافة أنحاء أوروبا وأمريكا كما تأثر به عدد من الكتاب العرب والأفارقة المعاصرين. ونجد في إنجلترا هارولدبنتر (Harrold Pinter) 1930 ومن اشهر مسرحياته (الحارس) التي يكشف فيها عن الوجدان الإنجليزي داخل شخصياته المضطربة نفسياً والتي لا تقوى على شيء سوى الهذيان، وفي أمريكا نجد الكاتب (ادوارد ألبي) 1930م ومن أشهر مسرحياته (الحارس) التي يكشف فيها عن الوجدان الإنجليزي داخل شخصياته المضطربة نفسياً والتي لا تقوى على شيء الهذيان، وفي أمريكا نجد الكاتب (أدوارد ألبي) 1928 ومن أعماله المسرحية (قصة حديقة حيوان). وفي سويسرا فريدريك دورنيمات 1921م ومن أعماله المسرحية (الزيارة) ولقد أصدر دورنيمان بياناً شهيراً عبر فيه عن رؤيته العدمية قال فيه (السائد الذي أراه في كل مكان هو الفوضى ولذلك فأقضي ما يستطيعه الإنسان هو أن يجد الشجاعة الكافية لمواجهة الحياة واحتماله). ويعتبر تيار اللامعقول من أحدث التيارات المسرحية وتحته يندرج عديد من الكتاب المسرحيين المعاصرين وبحديثنا عنه نكون قد ختمنا هذا الفصل عن (التعبيرية) كمدرسة فكرية درامية تعكس لنا تأثر الدراما بالفلسفة الوجودية الغربية في هذا الربع الأخير من القرن العشرين والتي قامت على نقيض المسرحية الكلاسيكية التي بدأن تتبعها بدءا بنظرية أرسطو طاليس في المسرحية الكلاسيكية ثم الرومانسية والواقعية.

ولكأن المسرح الغربي في شكله العبثي والعدمي، يقف على لا معقولية التجربة الأوربية عند مشارف القرن الحادي والعشرين، ويسدل الستار على واقعيته في مشهد مسرحي رافض للحياة الأوربية وهو مشهد جدير بالتأمل فى اطار ما يمكن أن نطلق عليه المسرح والعنف. وهذا ما ناقشته فى كتابى بعنوان ( تيارات مسرحية جديدة)



من أنتونين آرتو الى يوجين بربا :

ومن هذا الإرث المتراكم والإحساس بالعدم وأزمة الإنسان الأوروبى ظهرت فى النصف الأول من القرن العشرين بوادر مسرح القسوة (Theater of Cruelty) وهو إمتداد للتطهير بصورة أعنف ومنطق أقوى، التطهير من الحياة عامة. لكل ذلك سأقوم فيما يلى بتحليل هذا التيار الذى يهدف إلى (العنف للتخلف من العنف)، وهو ذات الأسلوب الذى يؤكد لنا وقوف المسرح الأوروبى على حقيقة البحث عن وسيلة للسلم عن طريق التحول والتغيير وان قاد كل ذلك إلى مزيد من العنف.

القسوة لانتونين آرتو (1896 – 1948 )(*)

لم يمر على تاريخ القارة الاوروبية ناقد مسرحى ومنظر بمرارة انتوين آرتو. بل لم يكن أنتونين أرتو منظرا مسرحيا أو ناقداً أو شاعراً فحسب بل كان حالة من حالات تعرى الحضارة الغربية. ولقد ثار انتونين آرتو على الثقافة والحضارة الأوروبية وتمرد على أسبابها بصورة واضحة يقول " لم يكثر الحديث عن الحضارة والثقافة أبداً كما يكثر الآن، حتى عندما تذهب الحياة ذاتها، وهناك توازى غريب بين هذا الانهيار العام للحياة، الذى هو أساس فقدان الروح المعنوية حاليا وهو الاهتمام بثقافة لم تطابق الحياة أبدا، بل جعلت لكى تحكمها. قبل ان اعود الى الحديث عن الثقافة، أرى ان العالم جائع، وانه لا يهتم بالثقافة، وان الرغبة فى إرجاع الافكار التى لا تلتفت الا إلى الجوع إلى الثقافة، لايمكن ان تتحقق إلا بطريقة مفتعلة. لا أظن أعجل الامور هو الدفاع عن ثقافة لم ينقذ وجودها أبدا إنسانا من الاهتمام بالجوع وحياة أفضل. الأمر العاجل هو أن نستخلص بما يسمى ثقافة أفكارا قوتها الحية قوة الجوع. نحن فى حاجة إلى أن نحيا، وإلى الإيمان مما يجعلنا نحيا. ولا ينبغى أن يعود إلينا مايخرج من داخلنا الغامض باستمرار فى صورة اهتمام فقط بالهضم(1).

بمثل هذا الحديث ينتقد آرتو الحياة الثقافية فى أوربا، رادا أزمة الإنسان الغربى إلى طبيعة العصر وعدم توفر الإنسان الأوروبى على ثقافة وإنتاج إبداعى كفعل يخلق التواؤم بين الإنسان وبيئته. يرى آرتو إن الثقافة الاوروبية ثقافة زائفة، والانسان الاوربى هو الآخر مزيف وهو إنسان بلا إيمان وبلا إحساس حقيقى بالحياة ويرى آرتو قد اصبحت الثقافة الغربية ثقافة للأشياء ، أى بمعنى ان نظم الحياة ودلالات الاشياء والتكنولوجيا لقد صارت هى الاساس مما جعلها تفرض نظما على الحياة والتفكير وهو ماقاده الى دعوة فحواها التفريق بين الاشياء والافكار فيقول فى هذا الصدد " إذا كان الخلط سمة العصر، فإنا أرى فى أساسه انقطاع بين الاشياء والكلمات، والافكار والعلامات الدالة عليها. لا تنقصنا نظم التفكير طبعا، فعددها ، وتفاقمها ، يميزان ثقافتنا العتيقة فى أوروبا وفرنسا، لكن ، فيما نرى أن الحياة – حياتنا – تأثرت بهذه النظم. أقول إن النظم الفلسفية شئ يمكن أن يطبق حالا ومباشرة. فأما ان هذه النظم فينا وتشبعنا بها لدرجة العيش منها، وعندئذ نقول: ما أهمية الكتب ؟ وإما إننا لم نشبع بها، ومن ثم لم تكن لتستحق حملنا على الحياة، ما أهمية زوالها على كل حال"(1)

هذا هو ما يعنيه آرتو بالثقافة الزائفة أو مايمكن أن نطلق عليه التعبير (تشيؤ) من شئ وأشياء. فثقافة الأشياء هى التى خلقت (متحضرا ومثقف زائفا) فى رأى آرتو وهو كائن غير أصيل لأن كل ما تعلمه هو ثقافة الأشياء التى تخلق انفصالا بين الإنسان وطبيعة حياته، لأن آرتو يرى الإنسان المتحضر هو الذى ينطبق سلوكه بما فى داخله من وعى حضارى، غير أن نظم الحياة والتطور فى الآلة خلق نوعا آخر من المثقف والمتحضر فيقول فى هذا الصدد " نحكم على الإنسان المتحضر فى سلوكه، وتفكيره. لكن الآراء لا تتفق على كلمة متحضر نفسها. الإنسان المتحضر المثقف فى نظر الجميع هو ذلك الإنسان الذى يعرف النظم، ويفكر من خلال النظم، والاشكال ، والعلامات ، والصور إنه وحش نمت عند إلى درجة لا معقولة، قدرتنا على استخلاص بعض الأفكار من أفعالنا ، بدلا من مطابقة أفعالنا لأفكارنا(1).

وينظر آرتوا إلى العنف اليومى والدمار والحروب. كنتاج لانتقام الأشياء، ثم يدعو دعوة صريحة إلى ضرورة مراجعة الأفكار "يجب أن نعيد النظر فى افكارنا عن الحياة، فى زمان لم يعد شئ فيه يلتحم بالحياة، وهذا الانفصال الأليم هو سبب انتقام الأشياء. ويظهر الشعر الذى لم يعد فينا، والذى لم نعد نعثر عليه فى الأشياء ثانية، يظهر فجأة من الجانب الردئ للأشياء. أن نرى هذا القدر من الجرائم أبدا، ولايفسر غرابتها المجانية إلا عجزنا عن امتلاك الحياة"(2) هنا يدعو آرتوا إلى شكل آخر يجعل الإنسان أكثر موائمة مع الطبيعة، شئ يعيده إلى حضارته وروحها، ويخلصه من هذه الثقافة الزائفة، فيصبح متوائما مع الطبيعة، ولكان آرتو يدعو إلى تطهير آخر، تطهير أشد قوة من التطهير الذى دعى إليه أرسطوطاليس، فبعد مرور ثلاثة وعشرين قرن على الإنسان الأوروبى، لم يعد التطهير الأرسطى قادرا على إحداث سحره السيكولوجى والفلسفى، فلا بد من عنف فى التطهير وهو ما أطلق عليه مسرح القسوة (Theatre of Cruelty) . فالقسوة (Cruelty) هى دعوة أخرى للتطهير، إمتداد آخر أكثر عنفا، وليس ذلك بغريب إن قلنا ما أنتونين آرتو إلا امتداد آخر لأرسطوطاليس فىدعوته إلى تجنب (إنتقام الأشياء) ، والبحث عن منطق للطبيعة يوفر ضربا من الموائمة مع الطبيعة، فالقسوة فى المسرح كما يدعو لها آرتو هى الوسيلة التى تعيد الإنسان إلى الطبيعة، وسيلة إلى التحول الإيجابى بما يشمل التخلى عن الجرائم الفظيعة، والحروب والاقتتال.

لكن كما نرى لاحقا لقد اتخذت الدعوة للقسوة عرض القسوة على الجمهور مما كثف وعمق الحب للقسوة ذاتها. شئ أشبه بعرض البطل المأساوى من اجل التطهير، فأصبحت أفعال البطل هذه أساس للذة، كذلك أصبحت القسوة تأخذ لذة نفسية.

مسرح القسوة:

يشكل مسرح القسوة الأسس الفلسفية والمرتكزات الفكرية للمسرح الأوروبى فى نهاية القرن العشرين وتياراته المعاصرة بالتحديد مثل تيار (مسرح العبث)(*)، (مسلاح اللا معقول)(*) (ومسرح العدم)(*). لكن أول من دعى إلى القسوة فى المسرح برؤية فلسفية هو الشاعر والناقد الفرنسى (أنتونين آرتو)، ذلك بعد اصداره أول منفستو يقول فيه " لايمكن الاستمرار فى تحقير فكره المسرح، ولا قيمة له إلا بالارتباط السحرى الوثيق بالواقع والخطر على قضية المسرح، اذا طرحت بهذه الطريقة أن تثير الانتباه العام، مادام معروفا ضمنا أن المسرح ، بجانبه المادى، ولأنه يتطلب التعبير فى الفضاء – وهو التعبير الوحيد الحقيقى ، فى الواقع – يمكن الوسائل السحرية للكلمة والفن من أن تمارس ممارسة عضوية تامة"(1). وتمثل الجملة الأخيرة فى هذا الطرح (ممارسة عضوية تامة) الأصل فى فلسفة آرتو وعرض العنف على خشبة المسرح بغرض التخلص من العنف. عرض القسوة للتخلص من القسوة. وهو أسلوب غير ذى جدوى فى طلب التحول إلى الأفضل، فالدعوة إلى القيم الفاضلة يمكن أن تتم بعرض الفعل الخير وحث الناس على المشاركة فيه ويمكن أن تنبئ على شكل التصميمات الثقافية الدرامية التى تعتمد على منهج التحول الثقافى والاجتماعى ذى الأصول الفلسفية وهو ما نلاحظه لاحقا فى المسرح التنموى ويدعو آرتو إلى ما أطلق عليه التعبير (ميتافيزيقا الكلمة) ويوضح ذلك بقوله " ليست المشكلة هنا أن نخلق نوعا من الإغراء، والجاذبية، حول هذه الافكار لتعطينا كل من السخرية الفوضوية، والشعر الرمزى المصور، فكرة أولى عن الطريقة التى يجب أن يوجه به إغراء تلك الأفكار"(1) وعلى الرغم من غموض حديث آرتو لكن يمكن استبانة مفهوم الإغراء والجاذبية اللتين يدعو لهما صراحة أما قوله الشعر الرمزى المصور فهو قمة الغموض والتناقض فتصوير الرمز مسألة تصب فى فك الرمز، لكن من الواضح إن آرتو يسعى إلى حيلة مادية تمكنه من عرض الأفكار العنيفة والأخيلة الفظيعة على خشبة المسرح على الجمهور، وهى اللغة التى يريد لها أن تحل محل لغة النص المسرحى المقروء. فآرتو يذهب إلى خلق مسرح محسوس، يقوم على الحركة، والرقص، والملامسة الفيزيولوجية للجمهور ليطرح بعض الأفكار والسياقات والأخيلة ويقول فى ذلك " ولنتحدث الآن عن الجانب المادى لهذه اللغة، أى عن الوسائل وكل الطرق التى تؤثر بها فى الإحساس. عبثا نقول إنها تلجأ إلى الموسيقى، والرقص، والبانتوميم (التمثيل الصامت)، والإيماءات. من الواضح أنها تستخدم الحركات، والموسيقى، والإيقاع، لكن الدرجة التى تستطيع بها الإسهام فى نوع من التعبير المركزى فقط، دون أن يفيد منها فن بعينه، ولا يعنى هذا أيضا إنها لا تستخدم الأهواء والوقائع العادية، لكنها تستخدمها كويلة كما إن السخرية الهدامة قادرة على استمالة عادات العقل بالضحك. تستخدم هذه اللغة المسرحية الموضوعية المحسوسة فى الإحاطة بالأعضاء وتثبيتها، إحساس شرقى بحت بالتعبير. فهى تجرى فى الإحساس وإذ تتخلى عن الاستخدام الغربى للكلمة، تجعل من الكلمات تعزيما، وتدفع الصوت"(1).

ويكون ذلك المعنى واضح، عندما يدعو آرتو إلى لغة مسرحية موضوعية تحيط بالأعضاء الإنسانية وتثبيتها، وقول آرتو فى التخلى عن الاستعمال الغربى للكلمة فى المسرح والبحث عن إحساس شرقى بحت التعبير، يوضح لنا مدى تأثر آنتونين آرتو بالطقوس والاحتفالات الدينية الشرقية، فهو مثل غيره من الدراميين الغربيين لقد أعجب آرتو بالفلسفة البوذية، بل قدم بعض التعويذات والابتهالات للإله بوذا وكان لهذه الفلسفات والثقافة الشرقية أثر كبير على صناع المسرح الغربى أمثال جيرزى جروتوفسكى (*)Jerzi Grotowski ، ونلاحظ ذلك فى خطابات جروتوفسكى إلى صديقه أوجنو باربا Euqion Barba والذى يقول فيها "لقد كانت رجعة رائعة وغير عادية. كلكتا هى مقرى الآن. لقد ذهبت إلى راما شكريشانا Ramakrishna ولقد التقيت بالسيد بأول (اليوقا عبر الغناء والرقص) الذى سخر لنا زمنه فى عمل الترشيح المناسب للمثل الذى كنت أرغب فيه. كما هو مدهش أن نرى بعض الأفكار عن الحرفة موضوعية وموجودة حقيقة"(2). وثورة جروتفسكى مثل ثورة آرتو على الثقافة الغربية. فكل منهما بحث عن تكنيك خاص للعرض المسرحى للخروج من نظرية أرسطوطاليس.

لم يكتنف نتونين آرتو بصياغة نظرية (القسوة) بل ذهب إلى درجة البحث عن الشكل والإخراج المناسب منطلقا من الرؤية التالية فى قوله "نريد أن نجعل من المسرح واقعاً يمكن ان نؤمن به، ويشتمل على تلك العضة المحسوسة التى يشتمل عليها كل إحساس حقيقى، من أجل القلب والحواس. كما تؤثر أحلامنا فينا، ويؤثر الواقع فى أحلامنا، نعتقد أنه يمكن تشبيه صور الفكر بحلم يصبح فعالا بالقدر الذى يلقى به بالعنف اللازم. ولسوف يؤمن الجمهور باحلام المسرح. بشرط أن يأخذها على انها احلام حقا، لا نقل للواقع، بشرط أن تمكنه من أن يحرر نفسه، حرية الحلم السحرية التى لايستطيع أن يتعرف إليها إلا إذا انطبع فيها الارهاب والقسوة، من ثم، كان استدعاء القسوة والرعب لكن على نطاق واسع"(1)

من ذلك نكتشف إلى أى مدى بلغ آرتو مداه الشاسع فى الدعوة إلى ضرورة عرض الرعب والقسوة والأحلام على المتفرج حتى يمكنه من الإحساس بالحياة فهو يقول (العضة المحسوسة). وينتقد آرتو كل أساليب الإخراج المسرحى السابقة فيدعو إلى إخراج آخر فيقول " لا مجرد درجة انعكاس النص على المسرح، بل نقطة انطلاق لخلق مسرحى، اللغة المسرحية النموذجية، ويذيب استخدام هذه اللغة وتداولها الازدواج القديم بين المؤلف والمخرج، الذين يستبدلان بخالق واحد، تقع على عاتقه مسئولية مزدوجة " العرض والاحداث"(2).

ولكى يطبق هذه الرؤية عمل انتونين آرتو على استبدال صالة العرض بمكان للتمثيل (Acting Area) يساعده فى إقحام المشاهدين فى العرض والمشاركة فيه قسرا فيقول " سلغى خشبة المسرح والصالة، ونستبدلهما بمكان واحد، بلا حواجز من أى نوع، يصبح مسرح الأحداث ذاته، ونعيد الاتصال المباشر بين المتفرج والعرض، والممثل والمتفرج، نظرا لأن المتفرج الذى وضع وسط الأحداث محاط ومتأثر أيضاً بها. ووضع المتفرج هذا ناتج عن شكل البهو (والصالة) ذاته"(1). كان انتونين آرتو يسعى إلى مزيد من الدهشة ومزيد من التأثير على المشاهدين حتى وإن قاد كل ذلك إلى إجبار المشاهد على المشاركة فىالعرض قسراً.

لعل آرتو كان يرغب فى خلق أجواء السحر، وخلق أماكن لعروضه تفوح منها رائحة الاساطير والرعب والخوف، المشوبة بالتقديس، أى أنه بحث عن نوع آخر من أنواع التطهير " سنهجر صالات العرض الموجودة حالياً، وننتقل إلى مخزن أو حظيرة (جراج) نعيد بنائهما وفقا للأساليب التى ادت إلى إنشاء بعض الكنائس، والاماكن المقدس، ومعابد التبت العليا"(2).

بحث آرتو كثيرا عن شئ يخلصه من الخواء الروحى، بحث عن دين يعيده للتماسك ويعطيه الأمان فى عالم ملئ بالعنف، فتأثر بالطقوس والاحتفالات الدينية الشرقية. ويمكننا القول أزمة آرتو هى أزمة إنسان القارة الأوروبية منذ مطلع القرن العشرين، لقد كان آرتو صريحا على الرغم من حالته النفسية المريضة، فكان كل مرة يقضى أوقات طوال فى المصحات النفسية.

لقد بدى أنتونين آرتو تبرما بالمسرح الكلاسيكى ويرى أن القسوة التى تتم فى مسرحية (أوديب ملكا) لم تعد تتناسب مع جمهور اليوم، فيقول "روائع الماضى تصلح للماضى، لكنها لا تصلح لنا. وحقنا أن نقول ما قيل وحتى مالم يقال بطريقة خاصة بنا، طريقة مباشرة، تتفق مع طرق الإحساس الحالية، تلك التى يمكن أن يفهمها الجميع ومن الحماقة أن نعيب على الجماهير عدم إحساسها بالسمو، عندما نخلط بين السمو وأحد مظاهر الشكلية، وهى ميتة دائما. وعلى سبيل المثال، اذا كانت الجماهير الحالية لاتفهم (أوديب ملكا) فأنا أقول إن الذنب ذنب تلك المسرحية لا ذنب الجمهور"(1).

قول آرتو (السمو) يعنى به (التطهير) وهذه هى نقطة الالتقاء بين انتونين آرتو وأرسطوطاليس، فهو يرى إن مث لهذه الروائع لم تعد تتناسب مع هذا العصر، لم تعد تعبر عن إنسان القرن العشرين، وفى هذا القول تطابق مع قول جون ألين John Allen فى كتابة تاريخ المسرح فى أوروبا A History of Theatre in Europe ، حينما تحدث عن فشل مسرحية الأورستياء ومشهد قتل اجاممنون بواسطة زوجته فى الموسم المسرحى عام 1981 بلندن (2) لن يستحوذ على إعجاب المشاهدين لدرجة أنهم رددوا عن عادية المشهد.

وأخيراً يواجه آرتو المشكلة بوضوح حينما يتحدث عن البنية النفسية للجمهور الذى يستهدفه بمسرح القسوة، فهو جمهور القرن العشرين الذى تعود على الكوارث والمذابح فلا يمكن أن يتجاوب إلا مع ما يناسب هذه الاحداث " يستطيع الجمهور الذى ترتعد فرائضه عندما يسمع عن كوارث السكك الحديدة، ويعرف الهزات الأرضية، والطاعون، والثورة، والحرب ويحس بآلم العشق المطربة"(3).

إلى هنا يمكن أن نختتم حديثنا حول مسرح كل من أرسطوطاليس وآرتو، اللذين بحثا على مدى ثلاثة وعشرين قرن عن مسرح يؤثر على الجمهور ويحيله إلى جمهور (متسامى) أو (متطهر) من ارتكاب الفظائع فبينما بحث الاول فى (التطهير)، اقترح الثانى (القسوة) والعنف.

ويكشف لنا بحثنا فى هاتين الرؤيتين (التطهير) و (القسوة) نقطة جوهرية وأساسية تشكل محور بحثنا وهى ضرورة البحث عن دراما أخرى، مسرح بديل للتغيير والتحول، دون اللجوء إلى العنف فى شكل القسوة أو التطهير، وهذه النقطة الفارقة هى أن كل تيارات المسرح الغربى كانت تفصل بين الإنسان وثقافته، لقد نشأت الدراما الغربية بهذا الخطأ المنشئ حين " قام فى القرن الخامس ق.م. تيسبس This bis بالخروج عن كورس الكهنة الذين يقومون بآداء الشعائر الدينية لإله الإغريق دينيسوس، ليكون أول ممثل Actor ويصبح هناك مشاهد Spect/Actor ، هذا الفصل بين الإنسان وموضوعه، بين الذات والمضمون هو ما لم يكتشفه المسرح الغربى. وهذا الانفصال بين الانسان كموضوع وبين أحاسيسه كمضمون ، والذى يظهر فى نظرية التطهير التى ترمى إلى (محاكاة) الأحاسيس بواسطة ممثلين، لقد خلق دينامية أخرى، وسلطة أخرى للمحاكاة وهى أن الناس بدؤوا يحسون بلذة أقوى وأشد حينما يرون هذه الأحاسيس الفظيعة تؤدى على الخشبة، ثم تطور هذا الإحساس بتطور وسائل المحاكاة نفسها مثل (السينما) و(التفاز) فأصبحت الدراما تقود إلى العنف، بل أصبح عنصر العنف والحروب عناصر أساسية فى الدراما الحديثة، مما يجعلنا ننظر إليها كحالة من حالات ثقافة الحرب. وهنا يمكن القول إن نظرية المحاكاة والمسرح التمثيلى التى بدأت بأرسطوطاليس وبلغت ذروتها على يد انتونين آرتو هى نظرية قادت إلى عكس فحواها، وهدفها ، فبدلا من أن تصبح أداة ردع وتخويف من العنف أصبحت أداة لنشر العنف، وهو ما يمكن مشاهدته فى الدراما التلفازية، وما تحتويه من عنف.

د. أبوالقاسم قور حامد

ا

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى