بانياسيس - أنفاس القشطة - قصة قصيرة

أخذ جسده ينتفض ، وقفز الزبد من فمه ؛ صرخت:
- يا إلهي... تماسك ..حاول أن تتماسك حتى نصل لقرية قريبة..
إلا أنه رفع بطنه عاليا وزاغت عيناه ثم ابيضتا قبل أن تهمد جثته على المقعد... لقد مات .. أول مرة أرى فيها شخصا ينطفئ امام عيني.. نسيت ضياعنا في الصحراء وانشغلت بما علي أن أفعله بالجثة...(اللعنة على الذهب).. كانت الصحراء تحيط بسيارتنا رباعية الدفع وفي الخلف تقبع أجهزة الكشف عن المعادن... شعرت بأنني أدور في حلقة مفرغة ، .. لحظة واحدة انطفأ فيها كل شيء... الهواتف المحمولة ، الجي بي اس ، حتى ساعة يدي تجمدت ، كنت قد سمعت بأن الأرض ستستقبل موجات مغناطيسية قوية من الشمس .. لا أعرف المسمى العلمي لذلك لكن كانت هناك تحذيرات لم يأخذها الناس على محمل الجد. الآن تذكرت أنني تجاهلت النبأ دون وعي لأقع ضحية التجاهل اليوم. وشريكي في رحلتنا للبحث عن الذهب أصيب بنوبة تشبه الصرع ثلاث مرات ثم نفق في الرابعة. نفق بشكل مفزع جدا..، رأسي مندفع للأمام مقتربا من زجاج السيارة الأمامي ويداي متشبثتان بعجلة القيادة. احاول رؤية شيء من خلف نظارتي الطبية...لكن الأفق مشبع ببخار الهواء الحار وقربي جثة بعينين مبيضتين وفم مزبد وبطن منتفخة. لماذا انتفخت بطنه هكذا فجأة؟ ..
كنا قد تشاركنا أنا وهو تجهيزات السفر إلى مناطق التعدين ، كانت الأمور تسير على مايرام ، غير أن كل شيء انقلب على رأسا على عقب.... (علي أن أتماسك..الخوف سيعيق تفكيري السليم).. أوقفت السيارة...وأخذت اتنفس بعمق وعيناي مغمضتان.. هل أدفن الجثة .. ماذا لو نجوت ..ألا يمكن أن أخضع لملاحقة القانون حينها. كيف سأثبت براءتي..من الأفضل أن تكون معي الجثة ليتم تشريحها.. قفز وجه شرطي شرير أمام عيني وهو يسألني بأسلوب استفزازي:
- ولكنك كنت آخر من شوهد مع المفقود؟
- نعم لكنه مات..
-قتلته؟
- لا لا اقسم لك...
- ومن قتله إذن؟
- لا أحد ..لم يقتل لقد مات ميتة طبيعية؟
- لكنك قلت أنه أصيب بنوبة كالصرع ثم انتفخت بطنه فجأة؟
- نعم..
- هل يبدو لك ذلك منطقيا؟
- لا ..لا أعرف...
- يا سيد..الإنكار لن يفيدك..اعترف هذا أفضل لك..
- وهل سيفيدني الاعتراف بجريمة لم تحدث ولم ارتكبها...ماذا سأستفيد هل ستطلق سراحي وأغادر...
ورأيت كرش المتحري يهتز من الضحك الساخر ثم رأيت عينيه تتسعان وهو ينظر لي كشيطان:
- سيفيدك أن تتطهر من ذنبك بالتدلي من حبل المشنقة...
اختفى وجه المتحري الشرير وتدلت انشوطة حبل المشنقة فتصاعدت انفاسي... القيت نظرة سريعة جزعة على الجثة والتصق ظهري بمقعدي والخوف يصك أسناني... (لم أقتله.. الجثة يجب أن تظل معي...إنها دليل براءتي الوحيد).. نظرت الى عداد الديزل كان التانك في منتصفه فخرجت وملأته من الاحتياطي.. ثم شغلت التكييف الى آخره... (فلتحفظ البرودة الجثة ..حتى لو انتهى الوقود .. ومت أنا أيضا فلن أترك جثته خلفي)... أدرت السيارة ونظرت للأفق...الشمس في منتصف السماء... علي أن أنتظر حتى بداية انحرافها لأعرف اتجاهي الجغرافي...ثلاث ساعات وسأعرف..ثلاث ساعات فقط...
كانت الصحراء غريبة التضاريس ، هناك رمال تتوسطها أرض متحجرة وأخرى من تراب أقرب لتراب الانهار. هناك أيضا أشجار شوكية أفزعني شحوبها وهي تنحنا بأغصانها الصفراء الجافة كعجوز شمطاء.. ماذا سأفعل...إن الأسئلة التي لا إجابة لها في هذه اللحظات تعطل الدماغ عن طرح اسئلة منتجة ، مسحت العرق من جبيني المتوتر وسحبت شهيقا طويلا ثم زفرته ببطء علني اهدأ قليلا... صار جو السيارة باردا جدا .. علي أن أغادر السيارة..
ترجلت منها ولفحني سموم يحرق الجلد وبقدمين مرتجفتين أخذت اقطع كثبان الرمل تارة والأرض الصلدة تارة أخرى .. إذا كان قد دنا وقت هلاكي فلأهلك إذن ببسالة الفرسان ، فلتهنأ جثة صديقي ببرودة السيارة ولأفنى أنا بالعطش والحر. ظلت الشمس في منتصف السماء ترفض أن تغادر مقعدها على مسرحية ضياعي التراجيدية...فليكن .. فلتظلي هكذا لن اكترث.. سأقاوم الموت حتى آخر نفس في صدري. استندت الى جزع شجرة شوكية علني استظل بظلها لكن ظلها كان متباعدا ..

***

مالت الشمس قليلا فأدركت أن علي الاتجاه غربا أو شرقا.. فليكن غربا أو شرقا فالمهم أن أظل في خط مستقيم .. أخذت أغذي خطاي ولكن بحذر خوفا من الوقوع في مصيدة عاصفة ترابية ، أو رمال متحركة فالصحراء كالبحر تماما ، وكلاهما كالأسد الذي نعتقد أنه مروض ثم نفاجأ بطبيعته القاتلة فجأة. نعم ما أجمل الأسد حينما يكون مسترخيا في نومه وما أقبحه حين تلمع عيناه الصفراوان عندما ينقلب إلى مفترس..كذلك هو البحر والصحراء ، هما الجمال والخطر في ذات الوقت. أحسست بثقل في ركبتي حينما بدأت الأرض في الارتفاع ، كان تلا رمليا عاليا يمتد من أقصى الجنوب إلى أقصى الشمال متهاديا في تعرجه كسور الصين العظيم ، أخذت أغرس أصابع يدي نابشا الرمال الناعمة دافعا بجسدي إلى أعلى ، شحبت الصورة أمامي فجأة حينما سقطت نظارتي الطبية ورأيتها تنجرف مع الجاذبية لأسفل ، تجاهلتها وشققت عارجا إلى قمة التل الرملي حتى بلغته ثم القيت بجسدي المتعب على الرمل. كانت السماء صحراء أخرى ، ولكنها زرقاء باهتة ، لا طيور ولا حتى عقبان تدور فوق رأسي معتقدة أنني جثة نافقة. ولوهلة شعرت ببرودة تتسرب إلى جسدي رغم الحر والعرق ونشوة لم أبلغ مثلها من قبل. كان شعورا بالحرية ، الآن عرفت معنى أن يفضل الثوار الموت وهم أحرار...ولكل امرئ معناه الخاص للحرية. أن تنفق من العطش وضربة الشمس والجوع في قلب الصحراء مماثل لموت الثائر بمشنقة المحتل..فكلاهما يكون حرا عندما يتقبل الموت برضى. ربما يأتي الغروب بذئاب الصحراء أو بعقاربها وأفاعيها لكنني لن اقاوم هذه الطريقة الرائعة في الموت...ستظل عيناي تنظران الى السماء تحملقان في صحراء من النجوم المتلألة ، .... احسست بأنني أهذي وأن سبب ذلك ضربة الشمس وفقدان السوائل في جسدي. الحقيقة أنني يجب أن أقاوم الموت .. يجب أن أنحدر الى الجهة الأخر من التل..وبضعف شديد دفعت بجسدي الى حافة التدل وأخذت انجرف منقلبا قي الرمال بسرعة كبيرة.

***

لا أدر كم ليلة قضيتها غائبا عن الوعي ؛ لكن أصوات غناء منتظم الإيقاع تسربت إلى أذني ، كان ذلك كالحلم ، شعرت بزبد حول شفتي ففتحت عيني ببطء ورأيت السماء بلا نجوم ...، لكنني تبينت صوت الغناء ، كانو رجالا ونساء يغنون بمرح ، ففتحت عيني عن آخرهما لاكتشف أن السماء لم تكن سوى سقيفة من القش.
ادرت رأسي ورأيت باب الكوخ الصغير وضوءا غامرا يشع من خلفه ، كان جسدي متعبا فأغمضت عيني ونمت بسلام.

***

الفجر في الصحراء له نكهة خاصة ، له رائحة ، له ملمس ، وليس تغيرا فلكيا. الفجر له جسد وروح لكنه جسد كالروح وروح كالجسد...عندما تمطيت وأنا أقف على باب الكوخ رأيت مجموعة من الأكواخ في شكل نصف دائرة ، ومن خلف الأكواخ شجيرات قصيرة خضراء خالية من أي ثمر . سمعت صوت رجل يسألني بتهذيب شديد:
- صباح الخير ... كيف تشعر اليوم؟
رأيت رجلا ستينيا أسودا ، طويل القامة ممشوق الجسد ، كان يرتدي بنطالا وقميصا قد شمر عن أكمامه فرأيت ساعدين قويين. كأن رأسه مستطيلا بصلعة في المنتصف وعينين ضيقتين ولاحظت ابتسامته الجذابة حين افتغر ثغره عن أسنان كاملة بيضاء. قلت:
- أشعر بنشاط وحيوية...
- هذا جيد..
كان صوته رخيما يخرج من حلقه وأنفه ومع ذلك رويا وهادئا كالفجر. سمعت صوت صياح ديك الفجر فقلت:
- تعرف أنني كنت غائبا عن الوعي .. ولذلك فلا يقلل من احترامي لك إن سألتك عما حدث؟
تقدم نحوي وقال:
- بكل تأكيد .. لقد سقطت من هناك...
وأشار بأصبعه إلى التل... لقد رآك احدنا وأنت تسقط..ويمكنك تخيل ما حدث..
- نعم ..
كنت أود أن اسأله عن هويتهم ، لكنني فضلت العودة الى داخل الكوخ واكمال نومي. لقد نجوت وهذا يكفي تماما.

***

عند الظهر ، رأيت جمعا من الرجال والنساء والأطفال يتحلقون في دائرة وهم يرتدون ملابس متماثلة. النساء بتنورات طويلة واقمصة بلا أكمام ، والرجال بنفس زي الرجل الذي التقيته في الفجر ، كانت امرأة منهم تقف في منتصف الدائرة وتغني فيرددون خلفها:
- البطة البرية ... البطة البرية..
ترسل التحية..ترسل التحية..
لأمنا الشفوقة..لأمنا الشفوقة..
وقبلة عميقة..وقبلة عميقة...
واغ واغ واغ ...
واغ واغ واغ ...

واغ واغ واغ...
واغ واغ واغ...

كانوا يغنون بجدية فاصبت بصدمة خفيفة ، ماهذا الغناء التافه ، هل هم حمقى.. رأيت الرجل الذي التقيته في الفجر يغني معهم كما لو كان قد فقد رصانته وأصبح أبلها.
المرأة كانت تحرك يديها كمايسترو الاوركسيترا ، وبعد أن انتهت الغناء بهزة ساعديها بقوة .. تقدم صبي الى مركز الدائرة فتراجعت المرأة ؛ صاح الصبي:
- نسبة لمرض المايسترو 45 فقد نابت عنها الكونسيترماستر 7 . الآن حان موعد تلقيح الثمار. وسأتشرف بقيادتكم هذا اليوم في الغناء. تفرقوا وتجهزو خلال عشرة دقائق. تفضلوا سيداتي وسادتي الآن.
انفرط نظم دائرتهم ورأيت الرجل يتجه نحوي مبتسما ، ثم قال وشفتاه لازالتا عالقتان في ابتسامة الفجر الجذابة:
- سنذهب لتلقيح زهر القشطة .. يمكنك أن تشاهدنا إن رغبت في ذلك...
قلت بدهشة:
-قسطة؟
قال:
- نعم ...يمكنك أن ترى أطراف أغصانها بارزة خلف الأكواخ.
هززت رأسي فابتسم وغادر.
مرت تسع دقائق وعاد الجميع الى الاصطفاف في خمسة صفوف متوازية ، وأخذوا يرددون خلف الصبي:
- القشطة السعيدة .. القشطة السعيدة..
في طعمها فريدة...في طعمها فريدة...
لكنها عنيدة...لكنها عنيدة..

جاه..جاه ..جاه
جاه ..جاه .. جاه ..

جاه.. جاه ..جاه..

سرت خلفهم بصمت حتى بلغوا غابة من الأشجار ذات اوراق رقيقة كذؤابة الحراب تغطي أفرعا شائكة .. توزع كل واحد منهم امام شجرة وأخذوا يلقحونها بادات كفرشاة الأسنان..وكانوا يغنون بصوت واحد أغان ساذجة أخرى.. ولكنهم يحفظونها جميعا ويحفظون متى ينتقلوا من أغنية لأخرى بسلاسة...
وعندما حل العصر جمعهم الصبي بصفارة في فمه فتراصوا في صفوفهم المتوازية واخذوا يرددون الأغاني وراءهم وهم يعودون إلى حيث الأكواخ. فعدت معهم حتى انقسمت الصفوف وتوزع كل صفين امام أحد الأكواخ... رأيت الرجل يشير الى بالحضور فتقدمت من صفه وسمعت الصبي يقول:
- الضيف سيتناول طعامه أولا...
نظر الجميع نحوي فدخلت الى الكوخ ورأيت قرعا مجوفا كأطباق فاخذت واحدا وملأته من بعض لحوم حيوانات الصحراء الصغيرة.
حملت صحني وخرجت فدخل كل واحد منهم وفعل كما فعلت ثم خرج ووقف قربي ، وتتابعوا حتى انتظموا في صفوفهم فصاح الصبي:
- الأكل الصحي يجب أن يتم وأنتم جلوس..تفضلوا يا سادة.. جلسوا جميعا وأخذوا يأكلون بصمت...

***

جاء الغروب ورأيتهم يشعلون نارا في منتصف الدائرة ... وهم يغنون:
- النار نار القلب...النار نار القلب..
تضيء ذاك الدرب ..تضيء ذاك الدرب..
والدرب درب الحب ..والدرب درب الحب...
شا..شا .. شا..
شا..شا .. شا...
انتهوا من اشعال النار فتحلقوا بانتظام حولها ونهض الصبي وقال:
- اليوم سنعيد درس تلقيح القشطة....
نهضت امرأة وأخذت تتحدث بشكل علمي عن ثمار القشطة وتاريخها وأنواعها ومناطق زراعتها وكيف استطاعوا التغلب على صعوبات زراعتها في واحتهم ... وفوائدها التي من أهمها أنها تقي من امراض العصر كسرطان البروستاتا ...الخ...
كانت محاضرة طويلة ولكنها شيقة وثرة بالمعلومات. وحين انتهت نهض الصبي وحل محل المرأة وقال:
- يؤسفني أن يوم قيادتي قد انتهى الآن .. وبامكانكم شرب عصيدة الدخن بلبن الماعز اللذيذ...
وهكذا قامت فتاة بتوزيع اقداح الطعام لنا وتناولها الجميع ولكنهم كانوا هذه المرة يتسامرون بحرية وابتهاج ، ورأيت الرجل يجلس قربي ويقول:
- قد يبدو لك ذلك مملا يا سيدي..
- على العكس كان ذلك مشوقا...
قال دون أن يفقد ابتسامته:
- لقد اخترنا هذه الحياة البسيطة...لذلك ربما لن تهنأ برفاهية المدن...
قلت:
- فعلا حياتكم تبدو بسيطة جدا .. فمن أنتم ..
اجابني بصوته الرخيم:
- نحن مجموعة الطبيعيين.. نفضل الاعتماد على الطبيعة في حياتنا .. مجتمعنا هذا اختياري وليس فيه أي إجبار فيمكن لأي واحد منا أن يغادره متى ما رغب في ذلك... مع ذلك فمنذ سبعة عشر عاما لم يغادر أي واحد منا...
قلت:
- مدهش حقا... تبدون سعداء..
قال:
خلف أشجار القشطة حفرنا مقابر نظيفة لكن لم ندفن فيخا سوى جثة واحدة ... فحتى كبار السن زادت أعمارهم جراء هذه الحياة النظيفة...
تذكرت سيارتي وجثة رفيقي عندما قال ذلك. سألته:
- أود أن اسألك عن طبيعة غنائكم..
قال:
- يبدو ساذجا أليس كذلك؟
اومأت برأسي فقال:
- هذه فلسفتنا كطبيعيين...أن نعيش بلا تعقيدات ... سأذهب الآن لأنام..
تركني فعدت إلى كوخي واستلقيت على سريره المصنوع من فتل الأغصان .. ونمت بلا أحلام تقريبا....

***

كان لديهم يوم عطلة يتحرر فيه الجميع من الانضباط ويغرقون في فوضى شاملة ، كان بعضهم يمارس ألعابا طفولية والبعض يذهب الى البحيرة الصغيرة ليجلس بتأمل على أطرافها. أو ينعطف الى مشتل زهور صحراوية فيعتني بشتولها ، ويختفي آخرون تماما ويغني البعض أفرادا وجماعات ، لقد حذفوا الأسماء واستبدلوها بالأرقام بحسب ترتيب انضمام العضو لهم. ليس لديهم أي علاقة بالتكنولوجيا الحديثة ، ولا يطرحون أي اسئلة وجودية ، لقد قال الرجل مجيبا أنهم وجدوا الإجابة في حياتهم هذه واقتنعوا بها. فكل انسان يملك حقيقته الخاصة به. ثم أخبرني أن ثمار القشطة ستنموا وتنضج خلال شهرين من التلقيح ويمكنني حينها أن أتذوق طعمها الطيب. تساءلت حينها في سري عن موعد مغادرتي لهذه الواحة ، قلت:
- لعلك تعرف كيف أعود إلى المدينة؟
قال: نعم أعرف...
ثم صاح:
- 380 أرجو أن تراقب حضور أحد أبالة البادية ليحمل الضيف إلى أقرب قرية ومنها إلى المدينة...
هز رجل سمين رأسه وغادر ، ثم تبعه صديق الفجر وبقيت أرقب الفوضى الصاخبة بالضحك و الصرخات المزيفة للنسوة. كان الصبي الذي قادهم قبل أيام واقفا يحدجني بنظرة متفحصة ، ثم توجه نحوي بثبات وبطء ، كنت أنظر له وهو يقول:
- مرحبا بالضيف.
قلت:
- مرحبا أيها القائد..
- هل قدمت من المدينة؟
- نعم ...
- لم أذهب إلى المدينة قط.. في الحقيقة..لم أغادر واحة القشطة هذه منذ أن ولدت...
- هل تريد رؤية المدينة؟
اومأ برأسه المدور كالبرتقالة ، فقلت:
- لا أعرف النظام هنا.. هل سيسمحوا لك بمرافقتي أم لا..
قال بثقة:
- أنا انسان حر يا سيدي...ألا تعتقد ذلك؟
تأملت وجهه الطفولي وقلت:
- حسنا.. أنت كذلك فعلا... ولكن لديك والدين من حقهما أن يمتلكا مشاركتك في القرار ..أليس كذلك؟
قال:
- لا ليس لدي والدان....
- كيف ذلك؟
- هنا نحن لا ننتمي لأفراد بل للجماعة بأسرها. وهو انتماء رضائي .. بمجرد أن يمتلك الصغير وعيا بوضعه يكون قد ملك حق اتخاذ موقف منه.. ويستمر هذا الحق إلى الأبد...
صمت برهة ثم قلت:
- حسنا..يمكنك أن تصاحبني في طريق العودة...
سألني:
- هل المدينة جميلة؟
كان سؤاله محيرا فقلت مجتهدا الإجابة:
- لا أعرف حقا .. فالذائقة الجمالية تختلف من شخص لآخر..
- هذا حق... حسنا سأغادر معك...

***

"لا أحد يستحوذ على أحد هنا"
قالت ذلك وهي تمد ذراعها معترضة فوهة باب الكوخ.. ، السيدة التي ألقت المحاضرة وقفت تنظر لي. سألتها:
- هل هذه رغبة منك أم أنها أحد طقوسكم..
قالت: هذا وذاك..
كان الوضع مربكا ، فلوهلة لم أكن أر فيها شيئا مثيرا بل ولا حتى تستحق الوصف ولوهلة أخرى ظننت أن بإمكاني المغامرة....لقد كانت مغامرة مدهشة بالفعل...رأيتها تعيد تنظيف الكوخ من جديد ، ثم رصت شموعا يديوية الصنع وحرقت بخورا غريب الرائحة على مجمرة حجرية ، قبل أن تأتي بأطباق من زيوت الزهور البرية لتبدأ في دلك جسدي العاري المسجى على البطن بيدين ناعمتين....كانت بارعة في عملها ... وانتهت من الدلك خلال ساعات قليلة ثم غادرت دون أن أفهم شيئا...لقد كان ذلك كل ماحدث فقط.

***

لم يأت الأبال البدوي ؛ ويبدو أن حياة الحرية قد استهوتني وفوق هذا فقد حفظت أغانيهم وصرت أشاركهم الغناء بجزل وابتهاج:

يا وردة الصحراء .. يا وردة الصحراء..
جاء الشتاء ..جاء الشتاء..
ففوحي غناء..ففوحي غناء..
باه ..باه ..باه..
باه..باه..باه..
ولدهشتي فذلك العبط منحني تحررا كاملا من الانطواء داخل كبريائي الزائف ... وصرت فوق هذا منفتح الذهن ونشطا ... قال لي رجل الابتسامة حين أخبرته باحساسي هذا:
- امتنع عن فلسفة الأشياء...
لم يضف لي شيئا ولكني استطعت فهم ما يقصده...أن لا تحاول منح كل شيء منطقا أعمق مما يحتمل...فقررت أن ألتزم بنصيحته... وحين مساء ؛ قالت الرقم109 وهي شابة سمراء ذات جسد ممشوق:
- يوم الرقص يا سادة..بعد ساعات...
بالفعل تجمعت فرق الرقص وفرق لدق الطبول وبدأ الضرب على الطبول بشكل احترافي أثار حماسة الجميع فأخذوا يرقصون .. أدركت أن أغلبهم لا يجيدون ... كان رقص الكثير ليس سوى انتفاضات غير متوازنة ذكرتني صديقي الذي تشنج ومات في السيارة...ولكي انفض تلك الذكرى المفاجئة المخيفة تحركت إلى حلبة الرقص الترابية وبدأت في الرقص...
كانت ساقاي تتبعان ايقاعات الطبول الأفريقية بسلاسة... اعترفت حينها أنني لم انس الرقص رغم أنني لم أرقص من سنين بعيدة . توقف الجميع وتحلقوا حولي وهم يشاهدون رقصاتي العجيبة ... ، أقفز بساقين مكسورتي الزاوية واسير بهما في الهواء ... احرك ذراعي بشكل نصف دائري...أسقط على بطني وأتراجع كدودة هاربة فزعة....اقفز رافعا جسدي بغير ذراعين...وكانت الطبول تشعل حماستي للرقص...وأزدادت اشتعالا عندما سمعت صفارات المعجبات والمعجبين وتصفيقهم بسبب الاندهاش....حينها تقدمت فتاة مكتنزة الجسد وأخذت تتابعني في حركات الرقص ؛ فازدادت نشوتي ورأيتها تصاب بالجنون وحركاتنا تزداد اتساقا وسرعة ... كنا نهز رأسنا من أعلى لأسفل في وقت واحد....نقفز يمينا ويسارا في وقت واحد....لم أشعر بالتعب أبدا...ألصقت صدرها بصدري واخذت ادفعها بصدري إلى الخلف وهي تتراجع بخطوات مموسقة متزنة وعنيفة .... اداد جنون الطبالين وتسارعت ضرباتهم حينما انتقلت اليهم نشوتنا ؛ ثم انتقلت الينا نشوتهم فاشتعلنا رقصا أكثر من ذي قبل...
وفي أخر قرعة طبل سقطت من التعب وسقطت الفتاة قربي وصياح المعجبين وتصفيقهن وصفاراتهم تحيط بي ... جاء شاب وهرق ماء منعشا في رأسي وجسدي...وكذلك فعل بالفتاة...فأغلقت عيني ولم أشعر بشيء بعدها...

***

منتصف الليل غارق في صمت أصابني بالريبة ؛ بقيت راقدا وسط الساحة استرق السمع ؛ لكن..حتى صراصير الليل كانت ساكنة... سمعت همهمة صوت الصبي وهو يتحدث همسا إلى سيدة ما ؛ كانت لغتهما غريبة جدا ؛ أغلقت عيني وأحسست بهما يقتربان مني وشعرت بأنفاسهما تضرب وجهي ، كانا يتأكدان من نومي عبر تحاورهما بتلك اللغة المدهشة. ثم ابتعدا ...فتحت عينا واحدة ورأيتهما يعبران بستان القشطة بهدوء ، نهضت وتبعتهما بخفة وحذر.
كان ظلام منتصف الليل قد أرسل حلاكته على أشجار القشطة فبدت سوداء ساكنة. وكنت حذرا ألا تضغط أقدامي على ورقة جافة فيلحظا تتبعي لهما. إستمرا في سيرهما وهما يتبادلان حوارات متقطعة بين الفينة والأخرى. حتى مرقا من الجانب الآخر للبستان حيث انداحت كثبان رمال الصحراء كالشياطين ، ظللت اتابع سيرهما بحذر أكبر وأدهشني أنهما قطعا كل تلك المسافة في الصحراء دون أي خوف من الضياع فيها ؛ أدركت أنهما يعرفان طريقهما جيدا. ولدهشتي رأيتهما يغوصان في الرمال المتحركة ويختفيان.
صحت: لا تتحركا سوف آتي لانقاذكما... هرولت في اتجاههما الأخير لكنني لم أجد شيئا حين وصلت.. هل وصلت بالفعل؟ أين الرمال المتحركة ، جثوت على ركبتي حتى لا أتورط مع الرمال المتحركة إن اقتربت منها ، وبدأت الزحف.
كانت هناك رياح ذات برودة خفيفة كبرودة الحمى في الجسد ؛ والسواد يحيط بهول العالم. رفعت رأسي ورأيت أشجار النجوم تتلألأ بعجائبية مذهلة ، فاستلقيت على ظهري وأخذت أنظر نحوها بعاطفة عميقة ؛ إنني جزء من هذا الكون المذهل الواسع. جزء حي ، ورغم قصور حواسي الخمس لكنها كانت كافية لأن تدمجني في الكون ، هناك على تلك النجوم كائنات نجمية ، أنا متأكد من ذلك ،؛كائنات من الضوء الصافي الرائق ، هشة ومرنة ، وتحيا بسلام مطلق. صديقي مات.. انطفأ عن رؤية هذا الكون من جديد ، وهكذا ترك الكون وراءه غير عابئ به. ربما صار لا شيء وربما انتقل إلى عالم آخر. قلت هامسا:
هل وجودنا نعمة أم لعنة يا صديقي. أوتراه نعمة لأن وعينا يومض إحساسا بالكون؟ ام تراه لعنة لأنه وعي حتمي التأقيت؟...مرحلي جدا وقاس جدا لأنه يعلم بحتمية انطفائه.
أيه يا صديق .. انتفخت بطنك وجحظت عيناك وابيضتا وانسرب الزبد من فمك...ما سبب ذلك يا ترى...
نهضت ونفضت الرمال عن جسدي وقررت العودة وروحي تختلج باضطراب حزين وسعيد..إنني أكاد أبكي كما تبكي الفتاة يوم عرسها...حيث لا يفهم من حولها ذلك الاضطراب الشعوري.
رمقت الرمال السوداء وسبح خيال ما امام ناظري بأن هناك خيط مربع من الضوء الخافت على الأرض.. تقدمت تجاهه وكانت كل خطوة تؤكد أنه ليس خيالا... كان هناك ضوء يبرز من الأرض لحافة غطاء مربع يخفي تحته شيئا ما ، أخذت ازيح الرمال عن الغطاء ولكن قبضة يدي ضربت بالصدفة على زر صغير فأخذ الغطاء ينزاح عن خندق مشع بضوء أبيض قوي ؛ جهرني فغطيت عيني بذراعي.. وسمعت حينها تصفيقا ، أدخلت رأسي من الفوهة ورأيت جميع قاطني واحة القشطة ينظرون نحوي مبتسمين وهم يصفقون. في حين بقيت أنا محدقا فيهم بدهشة.
قال رجل الابتسامة:
- أتود الهبوط...
قلت:
- بكل تأكيد..
- امسك بهذا الحبل الضوئي..
انبثق حبل من الضوء فامسكت به ووجدت نفسي اهبط وكأن الأرض بلا جاذبية.
كان المكان تحت الأرض عبارة عن مكتب ضخم بدا ممتداً وكأنه بلا نهاية ، مجهز بمناضد رقمية حديثة وكان الجميع يجلسون باسترخاء على الهواء. قال رجل الابتسامة:
- إن كل شيء شفاف هنا يا رفيق.
قلت بدهشة:
- هذه مدينة كاملة تحت الأرض.
- صحيح..
اجابني ودفعني دفعاً خفيفاً من كتفي لأتبعه ومن حولنا تراصَّ الجميع منكبين على شاشات ضوئية.
- مساحة ضخمة مقسمة الى عدة مكاتب .. هناك ثلاثة هياكل تجمع دور كل منا ، هناك المختصون بالادخال وهناك المحللون وهناك من يتخذون القرار. العمل هنا لا مركزي...
سألته:
- من أنتم وماذا تفعلون...؟
توقف رجل الابتسامة أمام كهل نحيف وقال:
- أخبره يا 55 .
قال خمسة وخمسون:
- ليس هناك الكثير .. لكن بعد أسبوع من الآن عليك أن تحتسب ثلاثاً وعشرين عاماً وستة اشهر وسبعَ ساعات وأربعة عشرَ دقيقة وتسعاً وعشرين ثانية وثلاثة أعشار الثانية حينئذٍ سوف تموت يا سيدي بحادث سيارة.
شعرت بصدمة بالغة وجحظت عينيَّ ، فقهقه الكهل وقال:
- أمزح معك يا ضيفنا..
ثم دعاني للجلوس على مقعده الذي بدا لي وكأنه مبطن بنهد أنثى بشرية. كان مريحاً جداً ، انكفأ الكهل ومسَّ الشاشة الضوئية بسبابته بسرعة وقال:
- هل ترى هذه الجداول يا سيدي؟
أومأت برأسي فأضاف:
- تردنا هنا ملايين من الإحصائيات حول العالم. احصائيات حول كل شيء ، كرة القدم ، عدد شاربي الخمور ، عدد السكان ، عدد الموتى والمواليد ، أعداد النفايات وأعداد الأحذية التي تتم صناعتها ، والجوارب ، وسائر الملابس ، والملابس المستعملة ، أعداد الأسلحة والجنود ، وأنواع كافة أدوات التدمير والأدوية المصنعة حديثاً والتي في طور التصنيع ، وبراءات الاختراع والكتب العلمية وكتب التسلية وعدد العاهرات والمساجين والمرضى وأماكنهم ، القبائل حول العالم ، من لديهم جنسيات قانونية ومزدوجي الجنسية وعديميها ، عدد الحسناوات والقبيحات الطويلات والقصيرات السمراوات والشقراوات ، باختصار إن العالم كله هنا ، عندنا هنا...وكلُّ من هنا هم علماءُ يا سيدي.
ألقى نظرة خاطفة إلى وجهيَ المخطوف بالدهشة وأضاف:
- العالم ليس فوضى كما يظنه الناس ، إننا ننظم هذا العالم ، الحروب بكافة أنواعها ، فترات السلام ، التجارة بين الدول ، الاقتصاد العالمي ككل ، الجريمة والعقاب ، من سيصبح رئيساً ومن سيتم اقتلاعه ، العالم ليس فوضى ، إننا هنا نمثل القدر يا سيدي.
صحت بغضب:
- إنه قدرٌ زائف..
صمتَ قليلاً وقال:
- ولذلك نحن نعيش هنا بكامل حقيقتنا يا سيدي.. إن عملاً كهذا لن يتحمله إنسان يدخل لمركز تسوق وهو يعلم أن هناك من قرر له مسبقاً ماذا سيشتري وبأي ثمن...
قلت وتيارٌ كهربائي يزحف في دماغي:
- هذا مستحيل .. مستحيل.. هناك أي أشياء لا يمكن أن تخضع لحسابات رياضية .. هناك مفاجآت ...
قال: لقد تجمدت ساعة يدك أليس كذلك؟
نظرت إليه وقلت:
- نعم .. كيف عرفت ..
قال: وانتفخت بطن صديقك ..
لا أدري لماذا اشتعل داخلي غضب مفاجئ ، كنت صامتاً ، فقال:
- العالم ليس فوضى يا سيدي...
قال رجل الابتسامة:
- ستشرب معنا عصير القشطة هذه الليلة ..
قلت:
- ماهذه اللغة التي كنتم تتحدثون بها؟
قال:
- حسناً .. هذه لغة إحداثية...
كنت انتظر مزيداً من التفسير فأشار هو إلى الكهل الذي قال:
- إن اللغات كلها ناقصة يا سيدي ، هناك لغة واحدة تستطيع أن تصف فيها أين هو موقع قدمك من ظلك وأن تحدد بها النقطة البعيدة في ظهرك ليتمكن آخر من حكها لك.. إن لغتنا هنا ثلاثية الأبعاد.. يمكنني أن أصفها لك على هذا النحو المبسط...
انتابني خوفٌ من أن أتعرض للقتل ، امتزجت كل الصور الكابوسية في دماغي ، وانتابتني حالة من الذهول والحيرة ، كان هناك سؤال واحد فقط يرن داخل كل هذه الفوضى الدماغية: (كيف أهرب).
قال رجل الابتسامة:
- سنشرب عصير القشطة الآن ...
أضاف وابتسامته تتسع:
- لا تخف .. الأمر أكبر من أن تهدده معرفة العالم كله به ناهيك عن شخصٍ واحد..

***

- هذا قليلٌ جداً يا سيد.
- لكننا اتفقنا على هذا المقابل.
قلت معترضاً على الأبالي الذي أوصلني مشارف المدينة ، لكنه قال بعينين خبيثتين:
- كيس واحدٌ من القشطة؟
قلت:
- هذا ما اتفقنا عليه وهذا ما أملك..
قال وهو يرقص رأسه باتضاع:
- آآآآآ .. يا سيد لديك كيسان آخران ..
شعرت بالغيظ فمددت له بالكيسين ودرت على أعقابي دون حتى أن التفت لرؤية ملامحه المنتشية بالانتهازية.
كانت المدينة مضيئة من على البعد وهادئة ، فسرت ببطء متأملاً فضاءا شاسعاً سأودعه بعد قليل ، وعلى المدخل رأيت كميناً للشرطة ، فتذكرت حديث رجل الابتسامة الأخير الذي طمأنني فيه بأنني لن اتعرض للمساءلة القانونية.
"ستكون تحت حمايتنا دائما يا صديقي"
إنها جملة برئية تخفي وراءها تهديداً ما ، فحين قالها لاحظت أن ابتسامته اختفت لبرهة ، أما الصبي فقد اختفى هو أيضاً ولم أكن مستعداً للبحث عنه.
توقفت سيارة بقربي وأطلَّ منها رأس أنثوي صغير ، قالت:
- عمو.. هل تريد توصيلة..
ركبت وقلت مازحاً:
- لا تقولي عمو .. فلعلي أرغب في الزواج بك..
ضحكت ضحكة رنانة وقالت:
- حسناً إن كنت جاداً فقط ..
مددت كفي قائلاً:
- تشرفت بمعرفتك وأشكرك على التوصيلة..
احتويت راحتها النحيلة البضة .. ورأيت عينها تلمع قليلاً حتى أنني خفت لوهلة.
ظللنا صامتين لربع الساعة ، ثم قالت لكسر الصمت:
- متزوج؟
- لا..
- حقاً؟
- حقاً..
- لماذا؟
هذا السؤال ظل دائما يثير حيرتني ، كنت دائماً أبحث عن مبررٍ منطقي ولكن كل المبررات لم تكن منطقية ، حينها أجبتها:
- لا أعرف..
قالت ضاحكة:
- أنا قدرك إذن..
نظرت لها بخوف ، لقد بتُّ أشك في كل شخص ، هل تراها معهم؟ لماذا قالت ذلك؟
قطعت مخاوفي وهي تقول:
- لا تكن جباناً ..
ازداد خوفي حين شعرت بأنها باتت تعرف دواخلي لكنها أضافت:
- الزواج ليس بعبعاً لهذه الدرجة..
هل هي طبيعية؟ هل تتحدث بشكل تلقائي..؟ ماذا تريد؟
قالت:
- أنا درست هندسة الطيران ، لكن تعرف أن هذا عمل لا يصلح للمرأة لذلك أصبحت مديرة لشركة الطيران ، طبعاً لا شيء بدون مقابل..
قلت بصوت خفيض وبطيء:
- أنتِ جريئة جداً لتعترفي أمام رجل مجهول مثلي بهذا الاعتراف.
قالت:
- عليك أن تعرف كل شيء عني قبل الزواج.
ألقيت عليها نظرة فاحصة ، وشعرت بشبق لتقبيلها ، فقالت:
- أشعر بك..
بدا وجهي جاداً وأبلهاً فقالت:
- تتمنى الآن قضاء ليلة معي .. أليس كذلك.
لم أجبها.

***

لم أكن أتخيل يوماً ما أن أعمل تحت إمرة زوجتي ، كانت شخصية مختلفة جداً في العمل ، شتان ما بينها وهي تدير الشركة وبينها أمَّاً وزوجة ، قاسية هناك وحنونة هنا ، كانت ملتزمة بكل مواثيقها كقديسة.
كانت تقود السيارة وأنا جالس أفكر في حياتي التي استقرت على نحو مفاجئ هكذا ، منزل وزوجة وأبناء وبنت على وشك الزواج هي الأخرى ، شعرت بامتنان واسع للحياة ، حينها قالت:
- اقترب عيد زواجنا يا حبيبي.
هززت رأسي فتساءلتْ:
كم مضى عليه من السنين.
حاولت أن أتذكر قليلاً فأجابت سؤالها بنفسها:
- ثلاثٌ وعشرون عاماً مضت.
قلت:
- صحيح.
أضافت:
- ثلاثٌ وعشرون عاماً وستة أشهر وسبع ساعات وأربعةَ عشرَ دقيقة وتسعٌ وعشرون ثانية وثلاث أعشار الثانية.
شعرت بالرعب ونظرت إليها لأرى ابتسامتها وعينيها اللامعتين ، ثم قالت:
- حان الوقت .. الآن...
ورأيتها تنحرف فجأة بالسيارة عن طريقها متجهة نحو شاحنة ضخمة قادمة من الاتجاه المقابل.






(تمت)

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى