السيد إبراهيم أحمد - مصطلحات الزحاف والعلة في "الميزان"..

عمد الشاعر والعروضي الراحل محجوب موسى لتيسير العروض العربي إلى الزحافات والعلل وقد هاله أن مصطلحاتها القديمة تشكل ثمانية وعشرين مصطلحًا منها (16) علة و(12) زحافا، وقد ضمنها كتابه: "الميزان"، فأتى بمصطلحات أقل وتسميات جديدة منبتة الصلة تماما عن المصطلحات المعهودة في علم العروض؛ فقد لغى ثلثي الزحافات ونصف العلل عندما لغى العصب، والعقل، والإضمار، والوقص من الزحاف المفرد، وأبقى على الخبن، والطي، والقبض، والكف، وتلى ذلك بإلغاء الزحاف المزدوج كله.

كما أبقى على علل الزيادة، وهي: الترفيل، والتذييل، والتسبيغ، غير أنه لغى من علل النقص: الحذذ، الصلم، والقطف، والبتر، والقطع، والعلتين الشاذتين: الخرم والخزم، وأبقى على الحذف لفعولن فقط، والتشعيث عوضا عن القطع، والقصر، والوقف، والكسْف؛ فهو يرى أن الزحاف المزدوج كله لا خير فيه لأنه مفسد لموسيقى الشعر.

خيرًا فعل الرجل بما رآه يخفف العبء عن كاهل من يريد الولوج إلى كتابة الشعر العمودي وتعجزه كثرة مصطلحات الزحاف والعلل التي رصدتُها من مراجعة كتب ودراسات أكاديمية كثيرة وعبر أزمنة متباينة تبين بحق أنها أكبر وأكثر مشكلات تعلم عروض الشعر العربي.

إذن فقد انتهينا من الشق الأول في عنوان مقالتنا وعنينا به كتاب "الميزان" وما أحدثه صاحبه من تخفيض العدد في مصطلحات الزحاف والعلة، ويبقى المقصود الثاني، وهو مصطلحات الزحاف والعلل التي أحدثها العروضي محجوب موسى ومكانتها في "ميزان" النقد، ذلك أن الرجل لو توقف عند هذا لكان أمرا طيبا غير أنه لم يسكت حتى استحدث مصطلحات جديدة من عنده بالكلية، ويرى محجوب أنه من حقه ذلك باعتباره الحفيد لجده العظيم الخليل بن أحمد الفراهيدي لأنه يملك أيضا ما يسوغ له الإلغاء والإحلال بالجديد من المصطلحات إذا كانت الغاية هي تطوير العروض أو تحسينه بحيث يجعله سائغا عذبا بعد نفي مرارات تراكمت عليه عبر الأجيال والقرون.

وقد يقول قائل أنه كان لحازم القرطاجني ألفاظا ومصطلحات نقدية خاصة به لم يستعملها أحد من قبله، غير أن "المصطلح" هو عقد اتفاق بين الكاتب والقارئ وشفرة مشتركة يتمكنان من إقامة اتصال بينهما لا يكتنفه غموض أو لبس، ولعل فوضى المصطلح هو الداء العضال الذي يتهدد دراسة الأدب، كما يقول محمد بنلحسن في "الوعي المصطلحي في النقد العربي"، غير أن حازمًا نفسه لم يأتِ بمصطلحات مغايرة لمصطلحات الخليل، فقد تقبل مبدأ الزحاف والعلة في الوزن واتخذ له مصطلحا دالا عليه هو "التغيير" الذي يقال أنه استعاره من علم الموسيقى تأثرا منه بالشيخ الرئيس ابن سينا في تناوله للتغييرات التي تلحق بالإيقاع.

فما الذي استحدثه العروضي محجوب موسى من مصطلحات أو رموز ومؤثرات كما أسماها؟ لقد بدأ بالخبْن وأسماه "حَثْن" حيث جعل حرف "الحاء" رمزًا للـ "الحذف" أينما وقع، وحرف "الثاء" رمزًا للحرف "الثاني"، وحرف "النون" رمزًا للحرف "الساكن"، وهو يرى أن هذا الترتيب ذو فاعلية؛ فالحرف الأول يوضح وظيفة المصطلح، والحرف الثاني يُعيْن موضع هذه الوظيفة، والحرف الثالث يبيْن نوع هذا الموضع، كما أنه جعل المصطلح مكونا من ثلاثة أحرف ليسهل التعامل معه، وكذلك الالتزام بتوحيد نطقه على وزن واحد وهو "فَعْل"، وهكذا جاء "حَرْن" ليحل محل "طي" ووظيفته حذف الرابع الساكن، و"حَمْن" ليحل محل "قبض" ووظيفته حذف الخامس الساكن،

و"حَبْن" ليحل محل "كف" ووظيفته حذف السابع الساكن، حيث أشار إلى بعض الرموز ومنها: "ز" وتعني زيادة، و "ت" تسكين، و "ف" سبب خفيف، و "و" وتد مجموع.

ومن رموزه "حَكْف" بديلا عن "قصر" ووظيفتها حذف متحرك السبب الخفيف، و"حَكْو" بديلا عن "تشعيث" ووظيفتها حذف متحرك من وتد مجموع، و"حَفُّ" بديلا عن "حذف" ووظيفتها حذف سبب خفيف، و"زَفْو" بديلا عن "ترفيل" ووظيفتها زيادة سبب خفيف على وتد مجموع، و"زَنْف" بديلا عن "تسبيغ" ووظيفتها زيادة ساكن على سبب خفيف، و"زَنْو" بديلا عن "تذييل" ووظيفتها زيادة ساكن على وتد مجموع.

على الرغم من تطبيق هذه المصطلحات على أرض الواقع ونجاحها من خلال الذين تلقوها على يد الراحل محجوب موسى أو من التزموا بها من خلال كتابه، إلا أنني لم أستطع التجاوب معها فقد أحسست بقطيعة ابستمولوجية تراثية ستحدث فجوة كبيرة، ولا شك، بين من التزم بها وبين كتب العروض أو الدراسات النقدية الشعرية، ذلك أنها خالفت شرطا أساسيا وهو التوحيد المعياري أو القياسي للمصطلحات وتموضعها في كينونة التراث الشعري العربي.

فالعلم لا يدرك إلا من خلال مفاتيحه، ومفاتيحه هي المصطلحات، فينبغي أن تكون دقيقة، ومحددة، ومستقلة في دلالتها، لأن المصطلح لفظ موضوعي تواضع عليه المختصون، بقصد أدائه معينا معينا بدقة ووضوح شديدين، بحيث لا يقع أي لبس في ذهن القارئ أو السامع لسياق النص العلمي، كما لا حظت أن أغلب العروضيين اجتهدوا لإيجاد بعض المصطلحات وبخاصة وأن بعضها كان موجودا ومتداولا، فكثرت المترادفات بشك لافت للانتباه الشيء الذي أفقد المصطلح قدرته الدلالية وميزته الاصطلاحية في الغالب، كما يقول الدكتور مسلك ميمون.

ولذا فقد كان الحل فيما دعا إليه الدكتور مسلك في كتابه "مصطلحات العروض والقافية في لسان العرب" ودعا معه أصحاب التوحيد المعياري، عندما تبين لهم أن المصطلح العروضي لا يعتمد التوحيد المعياري، إلى تخصيص مصطلح واحد للمفهوم العلمي الواحد، وهو الأمر الذي جعل جملة من المصطلحات لها أكثر من مرادف واحد، مما يؤدي إلى الغموض والالتباس، وكان من الأوفق تثبيت معاني المصطلحات عن طريق تعريفها، وتخصيص كل مفهوم بمصطلح واضح يتم اختياره بدقة من بين المترادفات الموجودة، وعند تعذر العثور على مصطلح مناسب يلزم هنا وضع مصطلح جديد للمفهوم من بين المترادفات الموجودة.

وأعتقد أنه لو كان العروضي محجوب موسى اكتفى بالزحافات والعلل التي استصفاها لطالب علم العروض ليكون سهلا لكان في هذا الغناء، والأفضل لو كان أبقاها بنفس أسمائها لتفادى أن يسبح كتاب "الميزان" في هذه الناحية وحيدا عن بقية أسراب الكتب والدراسات الشعرية والعروضية والنقدية، والتي جعلتني أعيد مصطلحات الزحاف والعلة إلى أصلها كي أستطيع التعامل معها من خلال الكتاب، وربما عانى غيري مثلي، ومن الصعب أن نقدم الدواء وفيه بعض الداء.
عن الكاتب
د
رئيس قسم الأدب العربي باتحاد الكتاب والمثقفين العرب ـ باريس، ورئيس تحرير مجلة كنوز الأقلام الثقافية، عضو في شعبة المبدعين العرب التابعة لجامعة الدول العربية ومجلس الوزراء العرب، له العديد من المؤلفات الدينية والأدبية المنشورة بالعربية والمترجمة والصادرة في مصر والدول العربية وجمهوريتي النمسا وألمانيا.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى