عبدالله البقالي - لعياشي الروخو أو فارس من الزمن الغابر..

في قلب الإعصار تجمعوا. من كل صوب و في برشلونة تمركزوا ليقاوموا الموت القادم من مدريد. إعصار دوامته ثقل عصور الاستبداد، تؤججه ثقافات الأسياد المهددة، و طغيان الجبابرة. لينصهر كل ذلك و يندفع عبر هبات هدفت لفصل الكائن عن كنهه، و تشطيب خلاصات البشرية في مسعاها للتوحد مع مثلها العليا، ليخلف الإعصار في عبوره مجرد حفر يندس فيها الرعاع و خدام الاعتاب و مداحي مصادري النعم، و قاطعي الرقاب و المتاجرين في الذمم.

في برشلونه توقفت رحلة العياشي الروخو. شباب يسار العالم كان كله هناك. من كل حدب أتوا. عشاق الحرية و الرسامين و الشعراء و الموسيقيين و الكتاب. بكل اللغات كتبوا. بكل الأشكال عبروا. تغنوا بغد أفضل، و نصبوا بسواعدهم سكة تمر عبر كل محطات النبالة. مشطبين ضيق الأبجديات و خرافات توايخ الاوطان المأسورة. ساعين لرقي لا تسعه تصنيفات الالوان و الجذور البشرية. زحف كان لا بد ان يمر عبر تحطيم بوابة الفاصلة بين الاستعباد و التحرر، المستغل و المستغل. القاهر و المقهور.

في متاريس برشلونة كتب و عاش العياشي الروخو إلياذته. أندلس أخرى كان هو طارقها. لم يلق خطبة وهو على عتبات الجنوب. لأنه كان يعي ان الزمن ليس زمن خطب. ولم يحرق سفنا كيف يصبح التفاني في الاقتتال هو البوابة الوحيدة المشرعة على الحياة. و لأنه قبل هذا و ذاك، لم يعد الامام و الوراء عنده يقاس بمساحات أرضية. لقد كان يرى كل شئ مساحات أفكار و مبادئ ونوعية حياة. مساحات ضاربة في الماضي، و ممتدة في الزمن الذي لم يعش بعد. مساحات كانت هي هي في كل الحروب التي جرت من قبل، وتلك التي لم تخض بعد. غاياتها هي نفسها، تبدأ باسم الصالح العام، و تنتهي في الحسابات الخاصة. وفي كل الوقائع و في شتى الأحقاب و العصور، كان المنتصرون هم السادة، و كان الضحايا هم بسطاء الناس مثله.

لم يكن العياشي الروخو وحده من قطع البحر ليجارب. جل أبناء جيله فعلوا الشئ نفسه. لكنه بخلافهم لم يحارب من اجل تطويع الأمم الثائرة على أسياده. بل هو يحارب من أجل فجر إنساني جديد. وهو لذلك لم يفكر في الحصول على اجر.و لا وضع المستقبل محل سؤال. و إحساس كائن ما و وهو يساهم في صنع مدرج تاريخي هو أرقى و اغنى شعور يمكن ان ينتاب المرء في حياته. لكونه يعي أنه يركب مصعدا سيمضي به إلى حيث منزلة فوق سلطة النسيان.

لكن التاريخ تعثر مرة اخرى، و بدت الحياة منقاذة إلى من يمارس اكبر قدر من البشاعة. تماما مثل الزمن الذي بدا أن له أنفا قد ادمن استنشاق الروائح الكريهة. و حين بدأت فيالق فرانكو تدك خنادق الجبهة الشعبية بمن فيها. لم يعد في وسع العياشي الروخو ان يفرق بين الازمنة. رأى بام عينيه الكهنة يكتبون العصور القادمة باسم الاستبداد. رأى وهو لم يزل بعد في برشلونة إلى أين ستمضي به طريق العودة. عيناه كانتا تستطيعان رؤية ألوان المحطة الأخيرة الكامنة في جوف مستودع دهري، تحيطها الأهرامات المشيدة بالأساطير و سلطة الموتى. ثقل الدهور و امجاد اللاجدوى.

حين وصل القرية بعد الحرب، لم يعرف لماذا فعل ذلك. كانت مفاعلاته الخلاقة قد توقفت عن مده بالطاقة. و فيما تبقى من العمر، كان يعيش بذلك الفائض الذي تبقى له من آخر دفعة.

الحياة كانت هي هي. أركان القبيلة. مجالس الاعيان. نفوذ العشيرة. بركات الاولياء و الصاحلين. رضى المخزن و طاعته التي هي من طاعة الله.

بين حركية ثوار شباب العالم في برشلونه و صمت الدهور في غفساي كان يترك للمفارقة ان تكتب نكسته. الغرابة و الصعقات، و لتصبح محاولات الفهم تعذيبا هو من يتولى ممارسته على نفسه جراء نكوص غير مسموح به في قانون الحياة.

في المتبقى من العمر، لم يفعل أي شئ يليق بكائن حي. لم يعمد الى امتلاك شئ. لم يتزوج لانه لم يشا أن يهدي الأسياد عبيدا. و لم يحاول أن يفهم أو يعمل على ان يتفهمه احد. كان له عصره. و كانت لهم عصورهم. و حين اكتشفوا جثته بعد أيام عدة من وفاته في كوخ مهجور ببوشيبا، تبين أنه مارس اللعبة نفسها حتى مع الموت.

من برشلونة إلى بوشيبا، كم كانت المفارقات قاسية…


عبدالله البقالي


Log in or sign up to view

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى