علي حزين - التابوت.. قصة قصيرة

يرمي بنفسه ــ كالعادة ــ في الشارع كل صباح .. بعدما يكون قد فرغ من ممارسة طقوسه المعتادة .. ولا يمكن بحال أن ينفك عنها .. ليبدأ رحلة العذاب .. نفس الطقس اليومي السيء .. زحام في كل مكان .. مجاري طافحة.. ضجيج العربات , يختلط بأصوات الناس .. وعادم العربات يتطاير في الجو.. أكوام من الزبالة ملقاة بعشوائية هنا وهناك .. حفر, ومطبات في نفس الشوارع تقريبا .. بعضها صغير , وبعضها صنع لتركيب إحدى التوصيلات , مضايقات الباعة الجائلين الذين يحتلون الرصيف وفي إشارات المرور .. نفس الوجوه الكالحة الكئيبة , تقريباً يراها كل يوم .. مساحيق النساء الرخيصة التي تجعل النفس تشمئز منها وتتقزز.. والمصطلحات النابية التي تؤذي مسامعه كل صباح , يسمعها من المراهقين , وهم يعاكسون الفتيات .. وتحيات الصباح المنبعثة من الأفواه تملأ الأرجاء .. وبائع الفول المدمس ينادي .. وصاحب المقهى المنتفخ علي كرسيه علي ناصية الشارع , واضعاً ساقا علي ساق .. ومبسم الشيشة في فمه .. " والجارسون " َيُقم أمام المقهى , وهو يعدل في الكراسي .. ها هو الحاج " محمد " يفتح دكانه .. يكنس , ويرش الماء , تسمعه يقول :
ــ " توكلنا عليك يا رب "..
ــ .....................
يلقي عليه تحية الصباح.. وهو يتفادى احدي الدرجات النارية .." يحوقل " الرجل يدعو له بالسلامة .. ثم يستأنف السير مشيا على الأقدام .. يتمتم بصوت منخفض .. لا يسمعه غيره :
ــ "ربنا يسترها علينا "..
صوت من بعيد يردد :
ــ توب علينا يا رب ..
يُؤمن خلفه , وهو يرفع رأسه للسماء .. ويبتسم في نفسه .. ويواصل في طريقه .. ويردد خلف الصوت , بصوت مسموع : ....
ــ " توب علينا يا رب " .....
يصل إلي عمله الكائن في إحدى البنايات المتهالكة , المتصدعة .. يستقبله المدير بوجهه العبوس المقطب .. والذي اعتاد كل صباح أن يغسله بفم ساخن ـ وصلة ردح ـ على الريق .. يصحبه بموشح في الالتزام .. والانضباط بالمواعيد الرسمية للعمل .. وفي النهاية لا ينسي أن يطلب منه , الفراغ من كومة الدوسيهات التي أمامه علي المكتب بأقصى سرعة ممكنة .. حتى تقوم الشركة بإرسالها إلي الجهات المختصة..
(( خمسة عشر عاما مضت.. وهو على هذا الحال , والمنوال .. منذ أن جيء به إلي هذا المكان .. حيث المكتب الذي يئن , من كثرة ما حمل عليه.. ولا يكاد يخلو من جبال الدوسيهات إلا نادراً.. خمسة عشرة عاما مضت في نفس التابوت.. وفي نفس الدائرة المفرغة.. يدور فيها كالرحى .. دوامة لا تنتهي.. إلا بانتهاء العالم , أو خروجه على المعاش )) .....
يقلع الجاكت الرمادي القديم .. ذاك الذي اشتراه من أول راتب قبضه في يده.. لزوم الوجاهة , والمنظرة.. يضعه علي شماعة , اشتراها له خصيصا.. يجلس علي الكرسي العتيق .. بعدما يكون قد أخرج نظارته المقعرة القارئة .. وقلمه ذو السن الرفيع .. ولم ينس أن يشعل سيجارة , بعد أن يضع له العم " سيد " العامل بالمصلحة , شاي .. " الإصطباحة " أمامه علي المكتب ــ والحساب علي النوتة طبعاً ــ بعض الزملاء يتناولونه من حين لأخر , بالتعليقات الساخرة .. والضحكات ذات المغزى الخبيث .. فيشترك معهم أحياناً في الحديث , والضحك .. وأحياناً أخرى يكتفي بالصمت .. وعيناه ما انفكت مغروسة , ومنغمسة في الأوراق التي أمامه .. يسأله أحدهم عن العلاوة .. والأخر عن الترقية .. فيجيبهم بصوت هادئ , ونبرات فاترة , وهو يقلب في أوراق الدوسيه الرمادي القديم الذي أمامه .
ــ " الله أعلم .. ما عندي علم في هذا الأمر .. ولا استطيع أن أفتيكم فيه . !!
يعود إلي البيت .. بعدما يكون قد مر علي السوق .. واشتري مستلزمات البيت , وطلباته الضرورية .. وربما اشتري أيضاً بعض الكتب , والمجلات التي يجدها في طريقه صدفه .. عند بائع الصحف والمجلات والجرائد .. ذاك القابع بجوار ميدان المحطة .. وهو يمر عليه كل يوم , في الذهاب والإياب .. وما أن يصل إلي البيت .. حتى يلقي ما في يديه في الثلاجة.. يصعد مهرولا إلي الطابق العلوي.. يغسل يديه بالماء والصابون جيدا.. فذاك ديدنه .. وتلك عادته التي لا تنفك عنه .. كلما عاد من الخارج .. تنفيذا لتعليمات وزارة الصحة.. وخوفا على نفسه من الأمراض المعدية .. خاصةً المنتشرة في الآونة الأخيرة .. وخصوصاً مرض أنفلونزا الطيور, المنتشر في العالم مؤخراً .. يصنع كوباً من الشاي الثقيل , ليعدل به أم دماغه التي خربت .. وتصدعت من كثرة الضجيج و" الدوشه ".. يسترخي قليلاً علي أريكته القديمة .. يشعل السيجارة الأخيرة , التي تقبع في جيبه.. ُيمسك بأحد الكتب , التي اشترها من المعرض الدولي للكتاب , في العام المنصرم .. يفر أوراقه .. يقرأ......
" هي أم لأربعة أطفال ..أنهكها المرض , والتعب.. فلم تعد تفي بمتطلباتها الزوجية.. تهرب منه , وتفر, كلما طلبها للفراش.. لذا تركت له الطابق العلوي الذي يعيش فيه.. وسكنت مع الأولاد في الطابق الأرضي .. واكتفت بشغل البيت .. وإعداد الطعام .. الغسيل , الكنس .. مذاكرة للأولاد .. وبعدما تفرغ من ذلك كله .. ربما جلست معهم أمام التلفاز لتشاهد أحد الأفلام , أو المسلسلات المضحكة , وربما على صوتها قليلا, فيوقظه من نومه.. فزعاً , متوترا, فيصب َجامَ غضبهِ عليهم جميعاً.. ويزعق فيهم , ــ " أن أطفئوا هذا , أو اخفضوا من صوته المزعج قليلا .." ...
سبعة عشر عاما مضت .. ذلك عمر زواجهما التقليدي .. وكلا منهما لا يشعر تجاه الأخر بأي عاطفة أو إحساس يذكر.. ولا يجمع بينهما غير الأولاد, والنفعية , وفقط , القدر هو الذي جمع بينهما تحت سقف واحد .. ليعيشوا كالغرباء .. صارحته ذات يوم وبعد مرور زمن علي زواجهما .. وبعدما أنجبت له الأولاد .. بأنها كانت مرتبطة عاطفيا .. مع شاب يسكن في الدرب الذي تسكنه.. ودارت بينهما قصة حب طويلة.. لكن أسرته الغنية لم تبارك هذه العلاقة .. ورفضت أن تتوج حبهما بالزواج , ذلك الرباط المقدس , لأنها من أسرة فقيرة , علي حد زعمها , وزوجوه بآخرى غيرها .. مما اضطرها بان تتزوجه .. حتى لا يفوتها القطار.. وحتى تثبت لهم بأنها يمكنها أخذ من هو أفضل منه .. وكانت تنعته دائماً , بقولها :
ــ هو إنسان طيب, ووسيم , مثقف , منظم في مواعيده , جميل , وعلى خلق وموظف حكومي , محترم , له دخل ثابت .. يمتلك شقة إيجار جديد .. وبيت ورثة عن أبيه.....
" تلك الميزات جعلتها ترى فيه انه الشخص المناسب .. الذي يستطيع أن يعوضها .. عن هذا الحب الفاشل .. والحرمان العاطفي .. أما هو فقد اقنع نفسه بأن الحب ما هو إلا شيئا ثانويا .. وأمرا عاديا .. وبأن الحب الحقيقي.. سوف يأتي بعد الزواج , ومع العشرة .. وبأن المعاملة الحسنة هي الأساس .. والزمن وحده كفيل , بأن ينسيها هذا الماضي اللعين .. من وجهة نظره المتواضعة .. والذي كان سبب في نفورها منه .. وابتعادها عنه لفترة محدودة .. وبأنه لم يبق في العمر , بقدر ما مضي منه .. وبأنها سوف تحبه مع الأيام.. وتعطيه كل اهتمامها..مع رعايتها له , ولأولاده , والبيت "...
يتسلل النوم إلي عينيه الكليلة , المتعبة , فينام , ناسيا الشاي الذي صنعة علي " وبور الجاز ".. والسيجارة التي وضعها أمامه في المطفأة , قد انطفأت .....
قبل المساء بقليل .. استيقظ من نومه .. تناول طعام العشاء , مع أسرته الصغيرة .. في جو مفعم بالود , والحب .. والاحتواء .. داعبهم قليلا .. وأغدق عليهم من فيض حبه , وأعطاهم ُجلَّ عطفه , وحنانه .. ثم تركهم , وانصرف , لبعض شؤونه في الخارج .. ولم يعد إلي البيت إلا بعدما غلب علي ظنه بأنهم كلهم قد خلدوا جميعاً إلي النوم .. أدار المفتاح في القفل ببطء .. دخل يتسحب علي أصابع قدميه.. مشي ببطء وحذر, وحتى لا تصطدم قدمه في شيء , فيستيقظوا.. صعد إلي غرفة نومه.. توضأ صلي ما فاته من أوقات .. أمسك الرواية التي لم ينتهي من قراءتها بعد .. وأخذ يقرأ فيها من جديد ..........
" وتمر الأيام , تلو الأيام .. وكل واحد منهما في حال سبيله .. متقوقع علي نفسه .. منزوي عن الأخر.. ومنطوي في ركن ما بعيد , ومنغلق علي نفسه .. وكلٌ منهم صارت له حياته الخاصة .. وخصوصياته التي لا يقتحمها غيره .. نادرا , أراهما .. يلتقيان .. يجلسان .. يتحدثان يثرثران في أشياء تافهة .. وأمور عادية جداً .. غير ذي قيمة تذكر.. وربما يطول بينهما الحديث أحياناً .. ويتطرق إلي الكلام عن العمل .. وقد ينحني قليلا , ويتطرف نحو حياتهما الخاصة.. ولكن سرعان ما ينزوي , ويتلاشى الحوار بينهما وتخفت جذوته كل هذا.. لأتفه الأسباب , يتشاجران .. يتخاصمان.. وينعزل كل منهما عن الآخر.. وينفصلان كما كانا من جديد.. كالغرباء" ...............
يشعر بالتعب .. وعدم القدرة علي مواصلة القراءة .. يلقي بالكتاب بعيدا عنه .. يحس بالملل , يتسلل لداخله .. وصقيع الحرمان يغزوه .. ويملأ أركان غرفته المتواضعة .. وكل شيء حوله قد أنقلب إلي شتاء قارص .. وهو يشعر بخريف العمر , يدب دبيبه في جسده .. ويسري في أوصاله المتهالكة , المنهكة , المتعبة .. بحث عن سجائره فلم يجد .. تذكر انه لم يشتر سجائر هذا اليوم .. تمتم في نفسه , بصوت منخفض .
ــ " تبت لكِ أيتها السجائر اللعينة .. يا ليتني أقوي علي أن اتركها .. تلك العادة السيئة التي أخذت من صحتي , ومالي الكثير .. اللعنة .." .......
فكر أن يخرج ثانية ليشتري سجائر له.. نظر في ساعته .. كان الوقت متأخراً جداً .. ولا يسمح له بالخروج .. في ظل الطوارق التي تعيش فها البلاد ..الثورة جعلت الحكومة تعلن عن حالة الطوارق , فجأة ينقطع التيار الكهربائي .. بحث عن شمعة .. يضعها علي التلفاز في طبق صغير.. نظر في المصباح الموفر الذي اشتراه من أيام.. ظناً منه بأنه سيوفر له الطاقة الكهربائية .. ولا يقطع النور مرة ثانية .. ابتسم في نفسه .. علي غبائه السياسي .. استرخي علي السرير .. اخذ نفسا عميقاً .. حمد الله على كل أحواله .. واستسلم لنومٍٍ عميق .....
في الصباح قام من نومه .. مارس طقوسه الروتينية , المعتادة .. الرتيبة .. والتي لا يمكن بحال أن ينفك عنها , ولا يستطيع الانفكاك منها .. فهي صارت جزءً لا يتجزأ من حياته اليومية , المعتادة , الرتيبة .. يدخل الحمام بالماء الساخن , توضأ .. صلي شرب الشاي .. بحث عن سجائره تذكر بأنها نفذت منه البارحة .. ولم يشتري غيرها يرتدي لباس الخروج .. بعدما لمع حذاءه القديم .. بحث عن أشياء المتناثرة , عبئها في جيبه .. بعدما لملمها من فوق المكتب .." حافظة نقوده , مسبحته , كتلة مفاتيح , جواله , السجائرــ ليست موجودة في هذا الصباح ــ يكتفي بالولاعة .. وقد أضمر في نفسه .. عند أول " سوبر ماركة " سيشتري علبة كاملة " بعشر جنيهات ".. لقط قلمه المفضل ,غرسه في جيبه هو الأخر , مع الرواية التي لم ينتهي من قرأتها بعد .. وهو يمني نفسه بتخليصها في هذا اليوم , بإيجاد وقت لقراءتها في المواصلات , أو بعد ما يفرغ من عمله , كاد ينسي نظارته , في أخر لحظة , قبل الخروج من البيت تذكرها فذاكرته لم تقوي علي التذكر في هذه الأيام , ربما لضغوط الحياة , أو ربما لحكم السن .. هكذا كان يوعز لنفسه ....
صبّح علي أولاده , وزوجته التي قد أعدت له الفطور, أعطى زوجته ما تحتاج من نقود , ولأولاده أيضا مصاريفهم المدرسية , وقبل أن يرمي بنفسه في نهر الشارع .. كالعادة .. لم ينسى أن يضع قبلة علي جبين زوجته .. ليبدأ رحلة العذاب من جديد ................
نفس الطقس السيئ .. زحام في كل مكان .. مجاري طافحة.. ضجيج العربات يختلط مع أصوات الناس .. وعادم السيارات يملأ الجو.. أكوام من الزبالة ملقاة بعشوائية ـ هنا وهناك ــ حفر , ومطبات .. مضايقات الباعة الجائلين علي الرصيف.. وفي إشارات المرور.. نفس الوجوه الكالحة الكئيبة.. والمساحيق الرخيصة التي تجعل النفس تشمئز منها وتتقزز..والمصطلحات النابية التي تؤذي مسامعه.. من المراهقين تحيات الصباح المنبعثة من كل مكان .. بائع الفول المدمس .. وصاحب المقهى المنتفخ علي كرسيه .. واضعاً ساق علي ساق.. ومبسم الشيشة في فمه..وهو يبتسم للهواء .. وهو في طريقه يمضي ................. ..................................................................................................................................................................................................................................................
****************************
علي السيد محمد حزين ـ طهطا ــ سوهاج ــ من مصر
تمت بتاريخ 24 / 5 / 2015

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى