كرة القدم تركي التركي - كرة القدم.. ومراوغة الوعي الثقافي

كأس العالم على الأبواب، وهذه المرة يأتي محملا بميزة ثقافية تضاف لمزاياه الرياضية والاقتصادية. حيث سيقام في البرازيل، البلد الذي لا تُذكر ثقافته إلا وتُذكر معها فنون كرة القدم ومتعتها. ولكن الأحداث لهذه اللحظة مخيبة لآمال من تطلعوا لتظاهرة ثقافية - رياضية مميزة. فبعض الملاعب لم تجهز بعد، والمناهضون البرازيليون لاستضافة هذا الحدث، صيحاتهم وتهديداتهم بمواصلة الاحتجاج تملأ المكان، ولم يسلم منها أحد، حتى "بيليه" أسطورة الكرة البرازيلية والعالمية، الذي أوقف المتظاهرون موكبه احتجاجًا. فكيف للحب والحرب أن يجتمعان هكذا، في بلد واحد وفي متعة واحدة؟ على مرّ الأزمان والثقافات، والوصف الذي يُرافق كرة القدم غالبا، سواء من منتقديها أو من محبيها، هو تشبيهها بالحرب. فمحمود درويش، مثلا، يراها، "أشرف الحروب" وكان يقول إنه من الممكن له أن يعطل أي شيء مقابل أن يشاهد مباراة كبيرة لكرة القدم. بينما يعتبرها المفكر الإيطالي أمبرتو إيكو أنها "حرب الزيف" فهي، بحسب إيكو، طريقة فقط لعمل الحرب بوسائل أقل دموية مما تعودناه. أما ما يجمع بين الحرب وكرة القدم، في فرنسا تحديدًا، بحسب ما يذكره ميشيا أوديار كاتب السيناريو الفرنسي، فهو "الميل المازوشي" حيث يتبين الفرنسيون في الحرب وكرة القدم سوء حظهم، الذي يحتاجونه مازوشيا، تماما كحاجتهم "السادية" لحسن الحظ. وهنا يتبرع الكاتب الفرنسي "جان غودار" مقدمًا نصيحته للشعوب الأخرى التي تريد محاكاة تجربة الثورة الفرنسية ساخرا: "الثورة الفرنسية ليس هناك أبسط منها: احذف برنامج كرة القدم من التلفزيون والناس ستنزل فورًا إلى الشارع". ولكن بالعودة للمفارقة التي تحصل اليوم، وفي البرازيل تحديدا، يبدو أن هذه الطريقة أصبحت من الماضي وقد تكون نتائجها عكسية. هناك في الشارع من يتظاهرون لإيقاف استضافة البرازيل للمونديال العالمي، بحجة أنهم لا يريدون لهذه البطولة أن تقام "على حساب الفقراء". حيث لقي أربعة عمال حتى الآن مصرعهم، في تحضيرات البرازيل لكأس العالم. وأُشيع أن العمال يعاملون معاملة سيئة لإنجاز الملاعب بأسرع وقت. ما أشعل الاحتجاجات، مرة أخرى، ضد تنظيم، كأس العالم، فهي في رأي مناهضي الاستضافة، تضر بالاقتصاد الوطني، وترفع من أسعار المواد، والمواطن البسيط بالمحصلة هو المتضرر الأول والأخير. #2# وحين يُستعرض من كتبوا في كرة القدم لاستجلاء هذا الالتباس، بين الحب والحرب، يُحسب من أبرزهم، الكاتب إدواردو جاليانو من الأوروجواي فهو أحد أشهر الكتاب الذين اقترن اسمهم بكرة القدم وقد صدر له كتاب بعنوان: «في الكرة وفي الشمس وفي الظل» ترجمه لدار الطليعة الجديدة صالح علماني. وهو كتاب أدبي يعنى بحب كرة القدم وجمالياتها دون تقديم رؤية نقدية ثقافية شاملة. وقد لاقى رواجًا عربيا كبيرًا من حيث التوزيع والقراءة والمناقشة مقارنة بقدر التجاهل الذي لقيته، في المقابل، أطروحات المفكر الإيطالي "أمبرتو إيكو" حول كرة القدم، مع أننا، في ظل تنامي التعصب، أحوج ما نكون،أيضًا، لقراءات إيكو الناقدة. وفي حوار سابق لمجلة "جلوب" في يونيو (1991) مع إيكو المعروف بحدة انتقاده لـ "طقوس كرة القادم" ، يوضح لماذا يشبِّه كرة القدم بالحرب، وكأنه يستشرف ضحايا هذه الأحداث "المأساوية"، اليوم، في سبيل التحضير، أو المتابعة لفعاليات كأس العالم، والتي أودت، بحياة الكثير من العمال سواء في قطر أو في البرازيل، قائلاً: أنا متفق، فعلا، مع المستقبليين الإيطاليين (في بداية القرن) حين قالوا: "الحرب هي وحدها الكفيلة بتنظيف العالم"، لكن شرط أن يشارك فيها المتطوعون وحدهم.غير أنها: للأسف، تجر إليها الضحايا، فتصبح أخلاقيا، دون مستوى العروض الرياضية، لذلك يعجبني سباق الدراجات النارية فوق الهضاب والجرف، والنزول الجنوني بالمظلات، وتسلق الجبال الشاهقة، هكذا لا يموت إلا من أوتي هذه الكبرياء في جسده". ويضيف: "أنا إذن أوافق على كل نشاط جسمي يؤدي إلى وفاة "الأبطال" شرط أن يكون ذلك باختيارهم. إن الأرض ضيقة جدا، فيجب أن تُترك لنا نحن الذين نملك رؤية بسيطة للحياة". وبحسب منتقدي إيكو، فإنه يخلط بين النزعة الاستهلاكية الرأسمالية المتوحشة التي لا تخلو منها الكثير من الأنشطة، وكرة القدم، التي يمكن قراءتها جماليًا كلعبة وكمتعة بمعزل عن الأحداث المصاحبة لها. وهنا يتفق إيكو ويختلف، فالرياضة في حد ذاتها، لا تقل احتراما عن الحب. ولكن الأمر، في رأيه، يتعلق هنا بنوع من "الاستبداد المعنوي، الذي يفرض على الأغلبية نسيان جسدها، لتُعجَب بجسد الأقلية". ونسيان جسد، بل وإهماله صحيًا، من أجل الاعجاب بأجساد أخرى، تنطلق في مستطيلها الأخضر، بكامل صحتها وجاذبيتها، هو ما يسميه إيكو بـ "أسطرة الصحة" و"التلصص المشين". يقول في إحدى مقالاته، مفرقا بين الرياضة الصحية والرياضة المرئية: "إذا كانت الرياضة (الممارسة) هي الصحة، مثلها في ذلك مثل الأكل، فإن الرياضة المرئية هي أسطرة الصحة، إذ حين أتفرج على الآخرين وهم يمارسون الرياضة، فأنا لا أقوم بعمل صحي، تغمرني فقط متعة تنبعث من معاينتي لصحة الآخرين الجيدة، وهو نوع من التلصص المشين، مثل ذلك الذي نقوم به حين نتفرج على الآخرين وهم يمارسون الجنس". وفي حين يرى إيكو هذه الأسطرة الصحية فعل تلصص غير مجدٍ، لا جسديا ولا نفسيا، يُذكّره البعض بالنتائج النفسية الصحية الإيجابية، المترتبة على هذا "التنفيس"، حيث التقليل من العدوانية، التي لا يمكن تجاهل آثارها. ولكن هذا الأمر لا يقنع إيكو فيستطرد قائلآ: "أجل، إن الذي يتفرج على الآخرين وهم يمارسون المنافسة الرياضية يشعر بنوع من الإثارة: إنه يصيح ويهيج، ومن ثمة فإنه يمارس تمرينا جسميا ونفسيا، كما أنه يقلص من عدوانيته ويشذب تنافسيته. غير أن هذا التقليص وهذا التشذيب لايتم تعويضهما، كما يحدث ذلك بالنسبة لممارسي الرياضة، فهؤلاء يفوزون بقسط من الطاقة ويتملكون قدرة على ضبط الذات ومراقبتها. ففي الوقت الذي يتصارع فيه الرياضيون من أجل اللعب، فإن المتلصصين يتصارعون بلا هدف، ليتشاجروا عند نهاية المنافسة أو يقضون نحبهم بسبب سكتة قلبية في مدرجات الملاعب". هذه النهاية التراجيدية التي تجمع بين العاملين على هذه المتعة من عمال الملاعب. والمتصارعين "المتلصصين" الحاضرين في الملاعب. هي ما يكرهه "إيكو" في الكرة وليست الكرة بحد ذاتها. إذ يستطرد مؤكدًا في أحد مقالات كتابه "السفر مع السلمون" الصادر في سنة 1998، بأنه ليس لديه أي ضغينة تجاه كرة القدم، وبأنه يجد فيها من الجماليات والسحر ما يستحق. ويضيف "يحدث أحيانا، أن أتابع باهتمام ولذة مجريات مباراة رائعة على شاشة التلفزيون، لأنني أقدر وأحترم سحر هذه اللعبة النبيلة". إلا أنه لا يخفي، في المقابل، كراهيته لـ "المدمنين عليها". "إنني لا أكره كرة القدم، بل أكره المدمنين عليها". هذا ما يؤكده مرارا وتكرار إمبرتو إيكو لكل منتقديه، الذين لا يرون في أطروحاته إلا "نخبوية المثقفين" الذين لا يدركون جماليات كرة القدم. فيحاول أن يُعبر عن شعوره بوضوح أكثر حين يصفه قائلا: "إن الشعور الذي ينتابني تجاه المهووسين بكرة القدم، هو الشعور ذاته الذي يعبر عنه أعضاء العصبة "اللومباردية" تجاه المهاجرين غير الأوروبيين: "لست عنصريا، لكن بشرط أن يظلوا في مكانهم الطبيعي". يبقى لهذه المستديرة فنها وسحرها، في الحرب وفي السلم، والذي يختصره الكاتب أدولف رودنكي قائلا: "أستطيع أن أقول إن سحر كرة القدم كفن يكمن في المفاجأة التي تحتفظ بها". نعم، لعل انتظار "المفاجأة" الدائم و"الدهشة" القادمة لا محالة، والتي تتفنن الكرة في تقديمها لمتابعيها، من حين لآخر، هو ما يجمع بين الحب والحرب، بين العداء والولاء. وهو أيضًا، الكفيل بقلب الموازين، في لحظة، من جيدة لسيئة والعكس صحيح. وهنا، فقط، يصبح سر الكرة جزءًا من سِر الوجود، من سر الحياة. في عشق كرة القدم يتراكضون وراءها في ساحة للسوق معتركٌ بها وصدامُ لا تستقـرّ بحـالـة فكأنـهـا أمـلٌ بـه تتقـاذف الأوهـامُ لا بد من هزل النفوس فجدّها تعبٌ وبعض مزاحها استجمـامُ إن الجسوم إذا تكـون نشيطـة تقوى بفضل نشاطها الأحـلامُ الشاعر العراقي، معروف الرصافي


تركي التركي

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى