كرة القدم إيلاف - الروائي أمبرتو إيكو: كرة القدم هي الحرب..

أثارت لعبة كرة القدم اهتمام الروائي الايطالي أمبرتو إيكو فحاول كشف سرّ هذه اللعبة في عدد من محاضراته وتبيان الدلالات الضمنية للحوادث التي تواكبها في الملعب
الروائي الايطالي أمبرتو إيكو

على المدّرج وفي اللغة المجازية للمشاهدين.

كرة القدم علامة من العلامات التي ترتكز على كذبة. انها تفكك الثقافة وتجعلها كرنفالاً يستخدم أنظمتها التمثيلية حسب قوانينه الاعتباطية كي يجعلها تخوض لعبة زائفة تؤخذ بجدية تامة ولها أحياناً عواقب خطيرة. يكفي القول ان الالعاب ليست الحياة الحقيقية ولا يجب ان تُعتبر كذلك، أو هكذا يُفترض. لكن يصبح ضرورياً ان نسأل: تؤدي لعبة كرة القدم الى إثارة حالات عاطفية قوية، إذا كانت مجرد لعبة؟ ولِمَ يعيش الناس ويموتون من أجلها.

... بالنسبة الى إيكو " الرياضة هي الانسان، الرياضة هي المجتمع"

أنا أدافع عن الشغف بلعبة كرة القدم، كما أساند رياضة الجري البطيء، وتنافس الدراجات البخارية على حافة منحدر، والقفز الجرئ بالمظلّة ورمزية تسلّق الجبال، وعبور المحيطات في زوارق مطاطية صغيرة، ولعبة الروليت الروسية وتعاطي المخدرات. المباريات تحسّن السلالة، وكل هذه الالعاب تؤدي لحسن الحظ الى موت الافضل وتسمح للبشرية بأن تستمر موجودة بهدوء بأبطال عاديين لحالة أدنى! إنني بمعنى ما أؤيد "المستقبليين" في ان الحرب هي الوسيلة الوحيدة لحفظ العالم، لكن مع تعديل بسيط: انها تكون كذلك لو كان المتطوعون وحدهم هم الذين يخوضونها. لسوء الحظ تشمل الحرب ايضاً الممانعين (الذين لا يريدونها!) وهي بالتالي أدنى أخلاقياً من الالعاب الرياضية التي يشاهدها الناس" (كأس العالم ومواكبه).

يساوي إيكو بين الشغف بالفوتبول والرغبة في مشاهدة اللعب او حتى المشاركة في انتشار الاحتفالات، والتهديد بالخطر الذي قد يكون تحقيقاً لرغبة الموت المعروفة لدى فرويد. التشابه قوي لانه يعبّر عن حاجة مجتمع وأفراده الى خوض جنون تجريب مساع انتحارية باسم الرياضة. نستطيع ان نطلق على الحوادث التي تواكب لعبة كرة القدم اسم " الحرب" في بعض الحالات حيث الرغبة في العنف تحلّ مكان أهداف الرياضة ومشاهدتها. إذا كنا نرى "الحرب" مسعى بشرياً يركّز اولاً على تعطيل كل سلوك أخلاقي (وأي مظهر للنظام الاخلاقي) من أجل إمّا تعطيل الآخر او قتله.

يشير إيكو بطريقة غير مباشرة الى كرة القدم على انها ألعاب سيرك ويقصد على نحو خاص عروض المجالدين الرومان في " طالسيركس ماكسيموس " مسترجعاً بذلك الجذور التاريخية للرياضة في إطار البهجة والفسق والاغتصاب في احتفالية ما بعد الحرب. اول لعبة كرة قدم تعود الى ثلاثاء المرافع سنة 217 بعد الميلاد في منطقة تعرف اليوم بـ " ديزني" في انكلترا. كانت اللعبة جزءاً من مهرجان للاحتفال بنصر عسكري حاسمٍ على كتيبة رومانية. ومع حلول 1175 صارت لعبة كرة القدم يوم ثلاثاء المرافع مناسبة تقام سنوياً.

ان سبل التنافس الاجتماعية، الثقافية السياسية والاقتصادية التي تتجلى في مشاهدة المباراة لها صلة مباشرة بالملعب المدّرج. القوة والهوية والإعجاب تتداخل في نسيج البنى المادية التي تدعم تجربة "كرة القدم" كحدث رياضي. ان شعبية المباراة نفسها تنمو من خلال نزعة التفوق في الملعب التي تتجاوز الحدود الإيديولوجية. في دردشة حول الرياضة يقدّم إيكو طرحاً يكشف التضمينات العلامائية وبالتالي "الشِّفرية" لهذه الرؤية في إطار تداعياتها الاجتماعية والثقافية بالنسبة الى سلوك الانسان.

"تستطيع أن تحتلّ كاتدرائية وستجد مطراناً يحتج على ذلك مع بعض الكاثوليكيين المنزعجين، فيما يثير ذلك بشكل سرّي فرح مجموعة صغيرة من المتطرفين، او جناح يساري متسامح او الاحزاب المدنية التقليدية. وقد تحتل مقراً حزبياً وترى بعض الاحزاب الاخرى، سواء عبّرت عن تضامنها أم لم تعبّر عنه، أن ذلك يخدم أغراضها. لكن لو احتلت مجموعة ملعباً مدّرجاً فان ذلك سيثير عدا ردود الفعل المباشرة استنكاراً جماعياً: من الكنسية واليسار واليمن والدولة والقضاء والصينيين وجمعية الطلاق واتحادات الفوضويين... وكل هؤلاء يريدون الاقتصاص من المجرمين".

ان السيناريو الذي يصفه إيكو تفصيلياً في هذا النص يكرّره في نهاية " كأس العالم ومواكب العظمة" يبدو سخيفاً. هو يعرف ذلك، ويعبّر عنه قائلاً: "هذه الفكرة ساخرة ومضحكة، اذا قلتها أمام الناس سوف يضحكون منك". لِمَ إذاً يصف ملعب كرة القدم بأنه مكان مقدّس يتجاوز الديني والايديولوجي؟ هذا الوصف يتضمن تحفيزاً أساسياً لاكتشاف تقلبات الانسان كحيوان اجتماعي". هل نستطيع استخدام الرياضة لذلك؟ باختصار، بلى. يقدم إيكو لنا المثال لنكشف التطرف السيكولوجي والانفعالي الذي يبديه المجتمع الغربي في تبجيله للرياضة باعتبارها طريقة للعيش ولنفهم التجربو. كرة القدم مجرد لعبة. انها بالتأكيد ليست مسعى جدياً كما يصوّرها!

تطرّف وتناقض

الرياضة تحث على ولاءات غريبة وإيديولوجيات متطرفة وانفعالات متناقضة. تتسبّب ايضاً بسلوك غير منطقي. الناس يرتدون ملابس لافتة في غرابتها تزيّنها ألوان فريقهم المفضّل وتكون علامات مميزة لهم كمجموعة من المتعبّدين، ويوقّرون رقم لاعبهم "النجم" ويراهنون بمبالغ تعبوا في تحصيلها (غالباً لا يمكنهم خسارتها) على نتيجة المباراة ويجمعون تذكارات كتواقيع اللاعبين او كنزة مبلّلة بالعرق تفوح رائحتها، وأحياناً قد يخسر البعض حياتهم في مواجهات عنيفة مع مشجعين لفريق خصم يكرهونه. هؤلاء هم المتطرفون من مشجعي كرة القدم. نشاهد " شغفهم" كما يقول إيكو كل يوم أحد في المدرجات المحلية حيث يخوض المباريات رجال ناضجون من أجل مبالغ طائلة لن يراها الانسان العادي ولو أمضى حياته في عمل مضنٍ وجهد متواصل.

لكن إيكو يعترف بأنه ينظر بإعجاب وحبّ الى هذا الانجراف السيكولوجي القدري لدى المعجبين: " لست ضد الشغف بكرة القدم بل أنا أؤيدها وأعتبرها انجازاً. تلك الحشود من المشجعين؟ هؤلاء الحكام الذين يدفعون ثمن شهرة من مباراة يوم أحد بتعرضهم لأذى جسدي بالغ، وأولئك الذين ينزلون من الباصات وعليهم بقع من الدم بسبب قطع الزجاج المكسور وتعرضهم للرشق بالحجارة، الذين يركضون سكارى في الشوارع ليلاً، والرياضيون الذين يتعرضون لأذى جسدي، والعائلات التي تعاني أزمات مادية من طمع المتاجرين بالبطاقات. هؤلاء المتحمسون الذين تنفجر حماستهم وتعميهم، يملأون قلبي فرحاً".

بالنسبة الى إيكو ينقسم النشاط الرياضي قسمين، رياضة لأجل الصحة والراحة ورياضة لأجل المنافسة والمال. كرة القدم لعبة أهداف وتكتيكات واستراتيجيات للهجوم وتشكيلات للدفاع.

ان شكل دردشة الرياضة ومحتواها يصبحان "محاكاة ساخرة لحديث السياسة". يقول إيكو انها تدور حول " ماذا على القادة ان يفعلوا وماذا فعلوا وماذا كنا نريدهم ان يفعلوا، ماذا حدث، وماذا سيحدث". ومن ناحية ثانية: " في هذه المحاكاة، القوّة التي يجدها المواطن لديه للمناقشة السياسية، يتم إبطالها وتطويعها". يعتبر إيكو الدردشة حول الرياضة " بديلاً من الحديث السياسي ولكن الى حد انها تصبح هي نفسها الحديث السياسي.

يلعب تاريخ لعبة كرة القدم دور العامل الموازن في الذاكرة الثقافية ذلك انه يدل على خيط مشترك من المنطق. الرياضة هي الانسان، الرياضة هي المجتمع. إن محاولة كبح التداعيات بين الرياضة والانسانية والمجتمع التي نفذت الى الثقافة الغربية وأثرت فيها يشبه محاولة إسقاط الأسس الاخلاقية والمفهومية للمجتمع المدني الغربي وللديمقراطية. لذا يؤكد أمبرتو إيكو انه ما من جماعة ثورية، مهما تكن متطرفة، تفكر في احتلال ملعب فوتبول يوم الأحد!

طبّق إيكو في قراءته لهذه الظاهرة نظريته في " العلامائية" القائمة على دراسة الاشارات (من صور ومدركات حسية وعقلية) وتمثيلاتها المباشرة وعلاقاتها المترابطة. وحول هذه القراءة أصدر بيتر بيريكليس تريفانوس دراسة عنوانها "أمبرتو وكرة القدم" تناول فيها الأبعاد الثقافية لموقف ايكو. هنا ترجمة لأجزاء من هذه الدراسة تلقي الضوء على أبرز القضايا التي تناولها إيكو.

"ربما من الافضل الخوص أقلّ في مناقشات سياسية والتوجه اكثر نحو العاب السيرك الاجتماعية. هل يمكن ان تحدث ثورة في يوم أحدٍ فيه لعبة كرة قدم؟".

(أمبرتو إيكو - كرة القدم ومواكبها)

يبدو ان أمبرتو إيكو يجد متعة بالغة في كرنفالية الثقافة الشعبية ونتائجها الجانبية العلامائية ومجالاتها التواصلية. لم تكن التفاصيل العادية للحياة اليومية غالباً موضوعاً للتحليل لدى من يُعرفون بـ "المثقفين الجديين". أيّدنا تكريس خط فاصل خيالي بين الحياة الاكاديمية والحياة العامة بعناد لافت.

نستطيع القول إذاً ان العالم بالنسبة الى إيكو هو نص كل الإشارات فيه في حالة "لعب" دائمة.



الروائي أمبرتو إيكو: كرة القدم هي الحرب

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى