أحمد رجب شلتوت - اغتراب الشخصية في رواية "جواز سفر" لممدوح عبد الستار

نوعان من الكُتاب: نوع يكتب من أجل الموضوع الذي يتناوله، ونوع يسوّد الورق من أجل الكتابة ذاتها. ويقول شوبنهاور عن النوع الأول: "قد عنت لهم ضروب من الفكر، أو مروا بأشكال من التجربة، يجدونها جديرة بأن يلم بها الآخرون. أما الذين يتخذون من الكتابة حرفة، فالفكر لديهم جزء من صنعة الكتابة ذاتها"، و هو يرى كتابتهم زائفة لا همّ لها، إلا تسويد الورق، وإراقة المداد".

ورواية "جواز سفر" للروائي "ممدوح عبد الستار" تنتمي للنوع الأول، فهي مكتوبة بتكثيف، وبلغة سردية موجزة، لتعبر عن تجربة اغتراب الراوي نفسياً، وعدم تحققه اجتماعياً، وقد صاحب الفن الروائي الإنسان في كل تجلياته، عاكساً أحلامه وأساطيره، هزائمه، وانكساراته، و مجسداً اغترابه، وقد عنيتْ الرواية كثيراً بالشخصية المغتربة، ولعل أبرز نماذجها نجدها عند ألبير كامو في "الغريب"، و سارتر في "الغثيان"، ورواية "السمان والخريف" لنجيب محفوظ.. الإحساس بالنفي، والاغتراب يلازم شخصيات روائية في كافة الأقطار، وخصوصاً أولئك الذين بدأوا الكتابة مع العقد الأخير من القرن العشرين، ومنهم "ممدوح عبد الستار" الذي قارب في روايته اغتراب الشخصية العادية ، فقد اختار راوياً من العوام، ليس مثقفاً، ولا صاحب قضية، لكن لعنة الاغتراب أدركته.

" خبطني صاحبي على رأسي فرحاً، وباسماً، ورافعاً جواز سفر، فلملمتُ جرائدي في حقيبتي، وسالتْ دمعة، وفرّتْ من حنكي كلمة: ( من عرف لغة قوم، آمن شرّهم ) فسحبني صاحبي من يدي، ومضينا في طريقنا معلنين، وشاهرين جواز السفر". هكذا تنتهي الرواية القصيرة "جواز سفر" وأعتقد أنها بدأت في ذهن كاتبها بهذا المشهد الختامي، فعمد من خلال النص إلى استعادة ماضي الشخصية، مبرزاً تشظى هوية الراوي، وعدم تحققه، مما أشعره بالاغتراب اجتماعياً، ونفسياً قبل أن يغترب مكانياً، وتتأثر تقنية الرواية بذلك التشظي، فيقسمها كاتبها إلى خمسة عشر لوحة، أو مشهد، يمثل كل منها استعادة واستذكاراً لماض شاخص بصورة حادة في وعي الراوي. والنصوص كلها ربما باستثناء المشهد الختامي يمكن إعادة ترتيبها دون أن يتأثر شكل الرواية أو مضمونها، فأي فصل تبدأ به لن يصل بك إلى نتيجة مختلفة، ولعل الكاتب باعتماده على هذه التقنية يقيم موازاة على مستوى الشكل لمضمون الرواية المعبر عن تيه الشخصية واغترابها.

يتجلى الاغتراب عبر كل العتبات ابتداء من لوحة الغلاف، وهي العتبة الأولى التي تواجه القارىء، حيث تحدد أفق توقعاته، ومسار تأويله للنص، و غالباً ما لا يكون للكاتب دور في اختيارها، إلا أنها تعبر عن قراءة راسمها للنص، وغلاف الرواية قدم لنا شخصاً يجرّ حقيبتي سفر، يرسمه من الخلف حتى يخفي عن القارىء ملامحه، ويعطينا بذلك مدخلاً رئيسيا لقراءة العمل فالنص لا يرسم ملامح جسدية مميزة للراوي بقدر ما يجسد ملامحه النفسية كمغترب. أما عتبة العنوان التي يراها أمبرتو إيكو مفتاحا للتأويل، وتمثيلاً لهاجس ما، فتتشكل من كلمتين "جواز سفر" أي الوثيقة التي تتيح لحاملها مغادرة وطنه، وهي هنا تتضمن رمزاً يحيل إلى مضمون النص الذي يستهله المؤلف بقول الراوي " نزحتُ إلى المدينة التي تحتضن الأغراب الأبرياء"، تعبيراً عن رحلته الداخلية من القرية إلى المدينة، وينتهي بالإعلان عن مغادرة الوطن نفسه، بقوله " فسحبني صاحبي من يدي، ومضينا في طريقنا معلنين، وشاهرين جواز السفر". والعتبة الثالثة التي تؤكد على اغتراب الشخصية الروائية هي عتبة العنوان، تلك العتبة التي لا يلتفت إليها النقد كثيراً على الرغم من أهميتها في بعض الحالات، خصوصاً حينما يأتي الإهداء كنص مواز، يقيم علاقة مع النص الأصلي كاشفاً عن الدلالات المضمرة و المسكوت عنها في ثنايا النص، الإهداء هنا يصوغه الكاتب مباشرة دون أن يتوارى خلف الراوي، فيأتي بمثابة رسالة قصيرة مقصودة من الكاتب إلى القراء، أو إلى الآخرين بصورة عامة، وإلى المُهدى إليهم بصورة خاصة. فيُهدي الكاتب روايته: "إلي كل من غابوا عنا، ومازلنا نحبهم"، ويوقع الإهداء بوصفه "المثقل بأحلام ناقصة"، هكذا يؤكد على الاغتراب، و يفسر سببه أيضاً حينما يغترب الكاتب بعدم إثبات اسمه، ويحضر بصفته الدالة على اغترابه. أما العتبة الرابعة التي تصلنا بالنص فهي عتبة "الاستهلال"، وهي المدخل الذي تبدأ به الرواية، وبحسب النقاد فهي " نقطة ساكنة تقع بين طرفين, الواقع والنص ينطلق منها الكاتب إلى تفصيل رؤيته"، ولا يمكن عزلها عن السرد إذ هي إحدى مكوناته، وقد منح الكاتب الاستهلال للراوي ليقوم بتعريف نفسه للكاتب عبر فقرة وحيدة، يبدأها بذكر اسمه: "اسمي أبو قوطة. لا أدري سبباً لهذه التسمية. سامحه الله والدي. أحب اسمي جداً، رغم ما ألاقيه من سخرية. أسكن في الدور الثاني. الدور الثاني شقتان بعمارة آيلة للسقوط الحُرّ في أي لحظة حسب نزعة الرياح القادمة، وهي بحي شعبي عتيق. أعشق شقتي كثيراً- ولي معها ذكريات"، هكذا يرسم الاستهلال صورة كلية للراوي، وهو الشخصية الرئيسية في الرواية، إذ يحمل اسماً مثيراً للسخرية، وهذا الاسم يعد جناية ضمن جنايات ارتكبها الأب تجاهه، لكنه متسامح مع الأب، وسكناه في منزل آيل للسقوط يوحي بما يعاني من عدم استقرار في حياته عامة، وعشقه للشقة وذكرياته معها رغم ذلك، دليل ثان على تسامحه ورضاه أو تعايشه مع أحواله الصعبة، التي تدفعه للارتحال بين هاويتين، فحينما غادر القرية إلى المدينة بحثاً عن عمل وفرصة حياة أفضل لم يجدها فاستخرج جواز السفر مرتحلاً إلى هاوية ثانية لكن خارج الحدود.

تنتهي الرواية بإشهار الراوي وصديقه لجوازي السفر معلنين ارتحالهما مكانياً عن الوطن بعدما أذاقهما مرارات الاغتراب النفسي والاجتماعي، وهي المرارات التي جمعت بين الراوي وصديقه ودفعتهما لاختيار نفس المسار أو المصير، وقد ادخر الكاتب هذا المشهد ليختتم به روايته بعد أن أدخلنا عبر فصول الرواية إلى دواخل الشخصيات ( الراوي ومن يماثلونه) حتى لا نظل سجناء وعي واحد هو وعينا، ويكشف لنا أن المعاناة الداخلية للشخصية ترتبط بما يدور خارجها، فالعالمين الداخلي والخارجي للشخصية يتفاعلان معاً ويؤثر كل منهما في الآخر، وقد انعكس اغتراب الشخصية على لغتها، تجلى في استخدامه المسرف لألفاظ مثل: نزوح، ينزح، الخروج، الرحيل، حائراً" وكلها تدل مباشرة على الاغتراب، أو كلمات تدل على آثاره ونتائجه مثل: الألم، المغص، القرف، الانتفاخ.

كما بدأتْ بالتعبير عن اغترابه وجودياً باختيار الأب اسماً غريباً له تسبب في سخرية الجميع منه، كما تتسبب مطالبات الأب له بالبحث عن عمل لأنه أصبح عبئاً ثقيلاً، في نزوحه إلى المدينة، "و في تيهه بالمدينة يصبح واحداً من الغرباء "عمامات كثيرة حول الرأس، وصغار يلتصقون بتلابيب آبائهم، وكثيرات يغطيهن السواد، ويحملن القُفف، والمقاطف، والحصير، والصغار يحمل كل منهم صُرّة هدومه". هكذا لا تفاصيل لأحد، ولا سمات مميزة، يراهم وكأنهم واحد فقط، و بلا ملامح، فيتبدد أمله، وكان قد بدأ الحلم قائلا "نزحتُ إلى المدينة التي تحتضن الأغراب الأبرياء، وتُملّس عليهم بتحنان". لكن المدينة ليست كذلك، فيعاقبها بالتجاهل، ويختزلها فقط في مكانين المحطة، والمقهى، وليس ثمة معلم ثالث للمدينة التي لم تحنو عليه. وتصبح المحطة معادلاً للتيه، وليس الوصول، يقول: "الرعشة تملكتني، عندما أحسستُ بأني مبتور، ولا أحد يدلني على بوابة الخروج". ويضيف "جلستُ- متعباً- وسط المحطة حائراً، سرت داخل المحطة، لا أنوي على شيء. القطارات تروح، والعيال يجيئون. ورائحة الموت في الوجوه". أما المقهى وقد كان في القرية رمزا للبطالة، فالبعد الوظيفي له يتمثل في قضاء أوقات الفراغ، لذا، أوصاه الأب " بأن أترك حياة المقهى، وأبحث عن عمل"، أما في المدينة فيكتسب المقهى دلالة مغايرة مرتبطة بالغواية، والسقوط، فها هي ست الدار " ترتدي بنطلوناً من الجينز، وبلوزة شفافة، وقصيرة أيضاً- تضحك، ورنة ضحكتها خبز. ومازال النادل قائماً بخدماتها على الوجه الأكمل، وتعطيه بسخاء". في القرية كانت فتاة أحلامه، وفي المقهى عاين صورتها الجديدة، فتوهم أنه ينالها عبر حلم يقظة أفاق منه وقد تبدلت صورتها " ولم أجد لها أي بروز، أو تقاسيم تدل على أنوثتها. دمعت، ورأيتها قد تكسرت في عيني، ولم تعد رنة ضحكتها خبزاً، فالعودة مرة، والرحيل علقم، وأنا ما بين الرحيل والعودة".

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى