محمد مباركي - الضابط

عمل هذا الضابط ، لمدة طويلة ، في مراقبة الناس و أفكارهم و أنفاسهم ، و اقتحم عليهم أسرارهم
و غرف نومهم و نغص عليهم حتى أعراسهم و أعيادهم أيام الجمر و الرصاص .
كلفوه يوما بتتبع أحد المشتبه فيهم ، فلبس الأسمال و أطلق لحيته و شاربه و جلس على قارعة الطريق، بيد يسأل الناس إلحافا و بعين يتلصص على "صاحبه" شهرا كاملا من شتاء بارد جدا ، فأصيب بآلام حادة في مفاصله، تلازمه مع البرودة ، لم تنفع معها أدوية ، ولم ينل من مهمته هاته إلا سراب الوعود
و التسويف .
أشارت عليه زوجته، قبل أن تفارقه إلى الأبد، بعد أن نالت نصيبها من الأذى، أن يزور طبيبا نفسانيا حتى لا تستفحل أزمته أكثر،فرفض رفضا قاطعا لإحساسه بالتبخيس الذاتي أمام أي طبيب، خاصة إذا كان نفسانيا ، فكيف يسمح له أن يستل لسانه و يبوح له بمكنونات نفسه المريضة .
كانت صرخات معتقلي الرأي ، من فرط التعذيب،تلاحقه في نومه و يقظته ، و خاصة صرخات الطالب الجامعي الذي قضى تحت التعذيب ، أناته الأخيرة سكاكين تقطع أوصاله ، كان يعلم أن الشاب مريض بالقلب، و هو من كان يشرف على جلسات الاستنطاق و حصص الضرب و التنكيل و لعبة "الطيارة" التي كان يعشقها، و كانت الركلة القوية تحت السرة مميتة ،ركز فيها كل قواه،ظن أن الشاب يتماوت ، فأمر زبانيته أن يصبوا عليه الماء البارد ليستفيق من غيبوبته الأبدية ، لكنه لم يفعل و تمناه أن يفعل ، إذ لم يهتم بالاعترافات لحظتها بقدر ما أهمته هذه النفس البشرية لهذا الشاب الغض كيف انتزع منه روحه . انحنى عليه و تحسس جهة القلب إذ توقف الخفقان إلى الأبد ، فشم رائحة الموت ، ضم الجثة إلى صدره و بكى بحرقة أدهشت معاونيه ، و لعن الأوامر و المسئولين و كل الحكام ، و قصاصات أخبار صحف الرصيف كيف ستطلع ،غدا ، بخبر كاذب مخزي مفاده " أن الطالب مات قبل الاستنطاق".
و يأتيه الشاب في منامه بلباس عسكري ، يطرحه أرضا و يدق رقبته بحذائه ، فينهض مذعورا يتحسس رقبته ، ثم يجلس في فراشه يشعل سيجارة ملفوفة ب "أجود" أنواع السموم ، يخرج مسدسه و يكتب رسالة يشرح فيها رغبته الملحة و الدائمة في الانتحار.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى