إبراهيم محمود - الكاتب ذكراً والقارىء أنثى

من الصعب إيجاد نص من النصوص " أي نص حتى الأكثر قرباً إلى ما هو علمي " دون وجود تلمّس نفحة الذكورة، استناداً إلى طريقة الكتابة: كيفية التقديم للنص، كيفية عرض الفكرة، كيفية الخلوص إلى النتيجة. وربما أمكنني القول إن هذه المراحل الثلاث لا تعدو أن تكون مكوّنات مواقعة جنسية. بدءاً من السعي إلى التهيئة، ومن ثم الدخول فيما يُسمى بـ" صلب الفكرة " حيث يبدأ الكاتب بعرض ذكورته، ومن ثم النهاية، وهي تأكيد ما تم القيام به .
إن إطلاق صفة الجنسانية " الجندرية لدى البعض الآخر" على كتابة النص " النص كنسيج، والنسيج كتحبيك، وما في ذلك من حركة ذهاب وإياب، صعود ونزول، تمشهّد فعلاً جنسياً للذكر " يتعزز من خلال تبين طبيعة النص الذي يكون أبعد عن اعتباره ذا سطح مرئي، إنما يغطي عمقاً، يجسّد قيمومة جنسانية ذكورية الطابع . إن كل جملة مصاغة، أو فقرة هي حلقة في السلسلة النصية، ليست أكثر من حركة جسدية، متخيلة، أو يمكن مكاشفتها عميقاً، تخص الكاتب الذي يمارس تصريفاً لكائن ذكوري يملي عليه سلطته باعتباره " فارس ساحة " وليس مواجه سلطة نصية مقدَّرة: قرائية، يمكن لها أن تعرّيه، من خلال نصه، وتبيّن ثغوره، أو أعطابه بالذات جرّاء هذا الاشتهاء الجانبي للآخر الذي يعدَم فيه حضور الشخصية المعتبَرة، قوة قانونية لها حسابها، في مقدورها تنبيه الكاتب ، حتى قبل مباشرة كتابة موضوعه، أو نصه، بما عليه القيام به: حيث تكون الفكرة هلامية.
إن شعور الكاتب بتلك النفخة الذكورية، حيث الكلمات تكون مطواعة له، واللغة تتكلمه كذكر لا يُردَع، في أحادية سلطته، يتأتى من تاريخ طويل تداخل فيه الميثولوجي، الديني ، والعلمي اعتباراً بالذات، ليشكل هذا الثالوث التليد عُرفاً متيحاً له التصرف على سجيته، وهو ينظّر، أو يساجل، أو يمارس نقداً، وقد " استدبر " نصه الذي يخص آخر، أو حتى لو كان يعنيه في عمل ذي طابع إبداعي، لتؤمّن له " لذة نصّه " إن جارينا رولان بارت، هذه الاستدامة الرغبية، في ظل المعطى به تاريخياً، ومن هنا كان اعتبار/ توصيف النص جسداً Corps، مدرِجاً في نطاق المشتهى الذكوري، حيث يحال في بنائه على ما هو جنساني، وقد أكسِب كل ما من شأنه إخراجة جسد أنثى جار استمراؤه.
أن يكون الكاتب ذكراً، والقارىء أنثى، ليس ابتداعاً إنشائياً، وإنما مقاربة دلالية لبنية الكتابة التي عهدناها دون استثناء، اشترك، كما يشترك فيها من ينتمون إلى مواقع دينية وثقافية مختلفة، فلا تكون المرأة غياباً، وإنما حضور الغائب، وقد جرى تعديلها بالصورة التي تمكّن الكاتب: من الفقية إلى الدهري، من الانخراط في لعبة التفكير ومن ثم التسطير، بنوع من التلذذ، وما في هذا الانخراط من سادية مترجَمة من خلال طريقة صوغ الفكرة العامة، أو إدراجها في نسيج الكلمات العنكبوتي، وبالتالي، فإن معايشة الكتابة بالطريقة هذه، حيث يغيب الآخر كسلطة رمزية مقدَّرة: الآخر الفردي، الجماعي، تجرّد القارىء نفسه من كل سلطة أريق بشأنها الكثير من الحبر، أو اُبتدِعت نظريات " نظريات القراءة "، فيجري صهر القارىء هذا بالذات في بنية النص المعمول بمعايير الكاتب الذي يعيش وضعاً جنسانياً فحولياً كذلك.
بذلك، ينقلب قول أحدهم:
أنا وكل شاعر من البشر شيطانـــــه أنثى وشيطاني ذكر
إلى الصيغة التالي:
أنا وكل قارىء من البشر تصريفه أنثى وتصريفي ذكر
هذا النص المشبَع بالشبق المنشود والمعاشَر، يكاد يلخّص تاريخ ثقافتنا في عموم مكوناتها، إلى درجة أنه يمكن اعتبار جل الأزمات، الحروب، النزاعات، والتوترات التي تبقي المجتمع منخوراً، يعيش وحام دماء ساخنة، حصيلة هذا البعد الرهيب والخطير، إلى درجة إمكان القول أن مدارسنا، وبدءاً مما يُسمى بـ" رياض الأطفال "، حتى إلى ما يُسمى بـ" التعليم العالي " والذين يخططون لكل ذلك، يشرف عليها فقهاء متشددون، مع تغيير شكلي في اللباس، بينما السلطة هي عينها، أي ما يضفي اعتباراً قدسياً على هذا التصرف في الكتابة، وفي سياقها الفنون بأنواعها، ليكون مصدر الإلهام الأنثوي، وما في هذا المصدر من تسهيل المواطئة، ومن ثم هتك الملهَم في تحرير أي عمل كتابي، أو إنجاز أثر فني، اعتماداً على سلطة قضيبية، أو فاعل قضيبي يمكن تبينه في القلم: النظير، أو الريشة المفترضة، أو العصا السلطوية...الخ.
ذلك من شأنه البقاء في دائرة يصعب الخروج منها، لا بل إن الحديث عن فعل الخروج تناقض، كونها تناقضاً. إن لعبة الدوائر على مستوى مجتمعاتنا، تتراءى من خلال سلطة تجمع داخلها مواقع كثيرة: مراتبية:سلطة الحاكم، سلطة المشرّع، وسلطة المثقف الذي يتوهم أنه حاكم من نوع آخر، لكنه لا يرتدع حين يدخل في إطار كتابة نص، وملؤه شعور بما هو عليه، مسترسلاً مع أفكاره، وفي الوقت الذي يكون القارىء المفترض شخصية اعتبارية: ذكراً أو أنثى، متحوراً: أنثى مربربة، عاجزة عن التحرك، يؤتى بطرق مختلفة، وهو ما يقرّبنا من محرّر نصه بوصفه هاتكاً ومهتوكاً: لنفسه، وقد اختزلها، وللآخر، وقد حوَّره، وربما يزيد في شعوره بعقدة اضطهاد معينة، حين يتخيل داخلياً أنه هو الآخر قارىء لسواه، أي وقد تأنث، وهذا يزيد في تعزيز دافعه الكتابي، حيث الانتقامية تتفعل في بناء النص.
ثمة ضرورة قصوى إذاً: تاريخية، سياسية، اجتماعية ونفسية، لتحرّي عالم اللاشعور، وتعرية الجنسانية الفاعلة في العالم الداخلي: العقلي- النفسي للكاتب.


إبراهيم محمود

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى