هوارد فيليبس لافكرافت H. P. Lovecraft - الخيميائي.. الحلقة الأولى - ترجمة: أحمد صلاح المهدي

على القمة العشبية للتل المرتفع، المطوق سفحه بغابة بدائية من الأشجار المتشابكة، تقف القلعة القديمة لأسلافي. طوال قرون كانت أسوارها الشامخة تنظر لأسفل بوجه عابس نحو الجانب البري الوعر من الريف. كانت بمثابة منزل وحصن للعائلة العريقة القديمة، أقدم حتى من جدران القلعة المكسوة بالطحالب. هذه الأبراج القديمة ـ التي تلطخت بفعل العواصف وتداعت تحت ضغط الزمان الذي لا يرحم ـ شكلت في عصور الإقطاع واحدة من أكبر الحصون المفزعة والمنيعة في كل فرنسا. حاول العديد من البارونات والكونتات والملوك غزو القلعة ولكن أحلامهم تحطمت أمام أبراجها المحصنة وأسوارها المنيعة.
ولكن كل شيء تغير منذ انقضاء تلك السنوات المجيدة. ففخر الاسم الذي منع سليلي عائلتنا من العمل في التجارة، جعلهم لا يستطيعون الحفاظ على نفس مستوى الثراء الفاحش الذي اعتادوا عليه، فوصلوا إلى مرحلة من الفقر، أفضل بقليل من الفقر المدقع. فتحكي الصخور المتساقطة من الجدران، والنباتات التي نمت بشكل مبالغ في الحدائق، والخندق الجاف المغبر، والساحات المرصوفة بشكل سيئ، والأبراج التي تساقطت، وكذلك الطوابق الآيلة للسقوط، والكسوات الخشبية المتآكلة بفعل الدود، والمطرزات التي بدأت في التلاشي، حكاية كئيبة عن المجد الضائع. بمرور الزمان، سقط واحدٌ من الأبراج الأربعة العظيمة التي تركت للخراب، ثم تلاه آخر، حتى لم يتبق في النهاية إلا برج واحد احتضن الأحفاد المفلسون لمن كانوا يومًا لوردات المقاطعة.
وفي واحدة من الغرف الواسعة الكئيبة التي تبقت في هذا البرج رأيت أنا ـ أنطوان ـ الأخير من كونتات دي سي التعساء الملعونين، ضوء النهار أول مرة، منذ تسعة عشر عامًا، داخل هذه الجدران، وبين الغابات المظلمة والغامضة، والوديان البرية والكهوف الموجودة بسفح التل، قضيت سنوات حياتي الأولي المضطربة. لم أعرف أبويً قط، مات أبي في سن الثانية والثلاثين، قبل مولدي بشهر، قتله سقوط حجر تفكك بشكل ما من جدران القلعة المهجورة، أما أمي فقد توفت أثناء ولادتي، فتولى مسؤولية رعايتي وتعليمي الخادم الوحيد المتبقي، رجل عجوز جدير بالثقة ذو عقل كبير، واسمه حسبما أتذكر كان بطرس. لم يكن لديَّ أخوة، كما لم يكن لدي أصدقاء بسبب طريقة حارسي العجوز الغريبة في رعايتي، حيث أبعدني عن مجتمع أطفال الفلاحين المتناثرة بيوتهم هنا وهناك في السهول المحيطة بسفح التل. قال بطرس حينها أن هذا التقييد فُرضِ عليّ لأني مولود من عائلة نبيلة مما يضعني في مكانة أعلى من مصاحبة هؤلاء الرعاع. أُدرك الآن أن الهدف الحقيقي هو منعي من سماع الحكايات الفارغة عن اللعنة المخيفة التي تلاحق عائلتنا، تلك الحكايات التي يرويها الفلاحون البسطاء ويبالغون فيها وهم يتكلمون في نبرات هامسة على الضوء الخافت القادم من مداخن أكواخهم.
وبسبب عزلتي التامة، قضيت ساعات طويلة من طفولتي منكبًا على المجلدات القديمة التي تملأ مكتبة قلعتنا المسكونة بالظلال، أو التجول على غير هدى خلال الغسق الأبدي للغابة الضبابية على مقربة من سفح التل، ربما هذه العوامل المحيطة بي هي ما أكسبت عقلي في سن مبكر مسحة من السوداوية، فلم يشغل بالي إلا القراءة والتجول في الطبيعة المظلمة الغامضة.
لم أعرف عن تاريخ عائلتي إلا القليل، ولكن المعرفة القليلة التي استطعت الحصول عليها أصابتني بالإحباط. ربما عزوف مؤدبي العجوز الواضح عن الحديث معي في أصل عائلتي هو ما أدى إلى إحساسي بالخوف من ذكر منزلي العريق؛ إلا أنه بعدما تخطيت مرحلة الطفولة، أصبحت قادرًا على جمع شظايا من زلات لسان المربي العجوز الذي بدأ في التعثر بعد اقترابه من الشيخوخة، والتي كان لها علاقة بحدث معين كنت أراه في البداية غريبًا، ثم أصبحت أراه مرعبًا. الحدث الذي ألمحت إليه هو موت كل كونتات عائلتي في سن صغيرة. ففي البداية كنت أعتبرها سمة مميزة لعائلتنا كون رجالها قصيري العمر، ولكن بعدما تأملت طويلاً في تلك الوفيات المبكرة، وبدأت أربطها مع هذيان هذا الرجل العجوز، الذي تحدّث في كثير من الأحيان عن اللعنة التي حالت لقرون دون أن يتجاوز عمر حاملي لقب عائلتي سن الثانية والثلاثين.
في عيد ميلادي الحادي والعشرين، أعطاني بطرس العجوز وثيقة عائلية، قال إن عائلتنا تتوارثها لأجيال عديدة من أبٍ لابن، ويستكملها كل مالك. كانت محتوياتها ذات طبيعة مفزعة، وبقراءتها بشكل متمعن تأكدت أخطر شكوكي. في هذا الوقت، كان إيماني بالأمور الخارقة للطبيعة راسخ وعميق الجذور، لولا ذلك لكان علىّ أن أنبذ بازدراء هذا السرد الذي يتكشف أمام عيني.
عادت بي المخطوطة إلى أيام القرن الثالث عشر، عندما كانت القلعة التي أقطنها حصنًا منيعًا ومخيفًا؛ إنها تحكي عن رجل قديم سكن يومًا في مقاطعتنا، شخص غير ذي أهمية، إلا أنه أعلى شأنًا بقليل من الفلاحين؛ اسمه ميشيل، وغالبًا ما يتبع اسمه لقب الخبيث بسبب سمعته المخيفة. طلب هذا الرجل علمًا لم يسبقه إليه أحد من أمثاله، فسعى وراء أشياء مثل حجر الفيلسوف وإكسير الخلود، واشتهر بالخوض في أسرار السحر الأسود والخيمياء. كان لدى ميشيل الخبيث طفلٌ واحد يدعى تشارلز، شاب ماهر مثله في الفنون المظلمة، ولهذا أطلق عليه لقب المشعوذ، هذان الاثنين تجنبهما القوم الصالحون، واشتبه في تورطهم بممارسات شنيعة. قيل أن ميشيل العجوز قد أحرق زوجته حية كأضحية للشيطان، كما قادت آثار حالات الاختفاء العديدة لأطفال الفلاحين إلى باب بيت هذين الاثنين. ولكن خلال تلك الطبيعة المظلمة للأب والابن ظهر شعاع مشرق واحد من الإنسانية؛ فقد أحب العجوز الشرير ابنه حبًا شديدًا، وكان الابن يكن لأبيه أكثر من مجرد مودة البنوة.
في تلك الليلة ساد القلعة على التل اضطراب هائل، بسبب اختفاء غادفري الصغير، ابن الكونت هنري. انطلقت فرقة بحث بقيادة الأب الملتاع واقتحموا كوخ الساحرين، ليجدوا ميشيل الخبيث مشغول أمام مرجل يغلي بشدة، وبلا أدنى تفكير، وتحت تأثير الجنون والغضب واليأس، اعتصر الكونت بيداه عنق الساحر العجوز، ولم يترك ضحيته حتى فارق الحياة. في تلك الأثناء أعلن الخدم ببهجة العثور على الصغير غادفري في إحدى الحجرات المهجورة النائية في هذه القلعة الشاسعة، إلا أن إعلانهم هذا جاء متأخرًا؛ فقد قُتل المسكين ميشيل هباءً. وبينما الكونت ورجاله يبتعدون عن المسكن الوضيع للخيميائي، ظهر ظل تشارلز المشعوذ بين الأشجار. أنبأته ثرثرة الخدم الواقفين حوله عما حدث، وبدا في البداية غير متأثرٍ بمصير أبيه، ثم تقدم ببطء ناحية الكونت ونطق بكلمات هادئة ومخيفة تلك اللعنة التي ستطارد نبلاء عائلة سي:

" لن يعيش رجلًا من نسلك
عـمرًا أطول مـن عـمرك."

وما إن انتهى من نطق كلماته حتى قفز للوراء ناحية الغابة المظلمة، وهو يستل من رداءه قنينة بها سائل عديم اللون، ألقاها في وجه قاتل أبيه، قبل أن يختفي وراء ستار الليل القاتم.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

نهاية الحلقة الأولى

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى