مصطفى محمود - أنا.. قصة قصيرة

كان كل واحد في الصالون الأنيق يقول .. أنا .. أنا .. أنا ..
الجراح الكبير ينفث الدخان من سيجار مدلى من فمه كأنه مدخنه وابور طحين .. و يلتفت حوله في زهو .. و يلقي الحديث على أصحابه في كلمات مرصوصة منمقة ..
- أنا .. أنا .. أنا لما كنت في مستشفى هيدلبرج في ألمانيا .. عملت العملية دي لوحدي و من غير بنج .. في خمس دقائق .. لما الجراحين الصغيريين اللي كانوا معايا قعدوا يستعجبوا و يبصوا لبعض .. مش عارفين طبعاً إني عملتها ألف مرة في القصر العيني قبل كده .. و إني كنت بعملها و أنا مغمض .. و أفتح بطن العيان كأني بعزف على البيانو .

و لم يكن واحد من المستمعين يتتبعه ، فقد كان كل منهم يتعجل دوره ليحكي شيئاً عن انتصاراته هو الآخر و لذلك لم يكد يفرغ من حديثه حتى انطلق رجل عجوز يجل إلى جواره يلوح بيديه قائلاً :

- أنا ما اعرفش في الجراحة .. أنا راجل مهندس .. لكن حكاية التمرين دي صحيح .. أنا فاكر لما وضعت تصميم عمارة الأسيوطي .. رسمت الكروكي في نص ساعة و أنا بشرب الشاي الصبح .. و بعدين على العصر كان مكتب التصميم شغال زي خلية النحل . و المهندسيين مكفيين على الورق ينفذوا الخطوط اللي رسمتها .. و بعد سنة كانت العمارة طالعة زي الزرع الشيطاني .. عشرين دور فوق الأرض .. و كل واحد يبحلق .. و يقول ازاي .. ازاي عملها .. ازاي عملها الجن ده ..

و لم يرق للمحامي أن يكون الصامت الوحيد في الزفة .. فهرش رأسه هو الآخر و ما لبث أن قال :

- في كل حاجة التمرين مهم .. مش بس الجراحة و المباني .. في القضايا كمان .. أنا في القضية الأخيرة اللي هزت البلد .. استلمت المتهم فطسان من ايد النيابة .. معترف و ماضي و باصم كمان !
و مع كده كسبت له القضية .. ليه .. لأني عشت فيها و عشت في أمثالها ألف مرة قبل كده .

و كانت زوجة المحامي طوال الوقت تنقر على كرسيها في ضيق .

- انتوا الحقيقة مسبتوش لنا حاجة يا رجالة .. لكن ايه رأيكم أنا هطلع أشطر منكم كلكم .. و إني حاعمل تلاتة زيكم كمان عشر سنين .. حايبقى عندي كمان عشر سنين ابن جراح و ابن محامي و ابن مهندس .. أنا و لا أنتم بقى ؟

و كان طفلها يتشبث بها أثناء الحديث و يهمس في أذنها بين لحظة و أخرى :
- أنا حلو يا ماما .. أنا حلو ؟

و القسيس هو الوحيد بين الضيوف يميل على الخادم .. و يقول :
- أنا عاوز القهوة سادة ..

و الشاب الأسمر الذي يقف إلى جوارالنافذة يهمس إلى شاب آخر بجابه :
- أنا عاوز هوا .. هوا .. ما بيدوروش المروحة دي ليه ؟
و في وقت واحد كان من الممكن أن تسمع أحاديث غريبة لا يمت الواحد منها إلى الآخر بصلة .

- أنا بقوللك الحصان ده مش ممكن يكسب .. اوعى تفكر تراهن عليه .. أنا كلامي عمره ما ينزل الرض انت عارف .

- أنا دماغي بتدق الظاهر الضغط رجع تاني

- أنا عاوزهم كلهم يطلعوا و يسيبوني أنا و الست الحلوة اللي هناك دي ..

- أنا مش ممكن أسيب الراجل الندل ده .. إلا أما اوديه في داهية .. أنا لازم أرفع عليه قضية و أدخله السجن .

- أنا اشتريت الأرض من الوقف .. كانت خرابة .. شوف دلوقت بقت ايه !

- أنا مروح ..

- أنا حانام هنا ..

- أنا...

كل واحد يقول أنا .. أنا .. أنا ..

و شعرت بالغيظ و أحسست أن كل واحد من الحاضرين كذاب .. و أنه كذب على نفسه حينما حضر هذه السهرة بحجة الصداقة .. فلا أحد كان يفكر إلا في نفسه ..
و استأذنت و انصرفت .

و عند باب العمارة .. كان البواب يلوح بذراعه في وجه زميله صائحاً :
- أنا مش عارف عملك ايه .. أجيبك من هنا توديني هنا .. أنا من النهاردة مليش كلام معاك .. أنا بقالي عشرين سنة على الدكة دي ريس البوابين .. و كلامي يسمعه الكبير و الصغير .. أنا لازم ....

و في الطريق توقفت عند محل .. أشتري منه بعض لوازمي .. و كنت ما أزال أفكر في شلة الصالون . التي تشبه عقداً منفرطاً .. كل حبة في خيط وحدها ..

و حينما بلغت منزلي .. كان يجري خلفي صبي صبي صغير يحمل لي اللوازم في صناديق على كتفه ..
و حينما دخلت من الباب .. مددت يدي فتناولت لوازمي و ذهبت لتوي إلى غرفة النوم .. و ألقيت نفسي على فراشي مرهقاً ..

و بعد مضي ساعة تذكرت فجأة إني نسيت أن أنقد الصبي أجره ..
نسيت لأني أفكر أنا الآخر في نفسي .. في الأشياء التي أريدها و الأشياء التي لا أريدها ..

انفرطت أنا الآخر كحبة وحيد تجري في خيط وحدها ..
و شعرت بالخجل و الألم .. و جززت على أسناني .. و لم أدر لمن أوجه اللعنة .. لنفسي أم للناس ..

من المسئول عن هذا ..؟

..


د. مصطفى محمود
من : عنبر 7

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى