محمد علام - ما زالت الأقدام على الأرض.. قصة

الوقوف جواره فى وجه الشتاء هو معنى العالم بالنسبة لها، تداعب خصلات شعره المتحلقة حول رقبته، مد ذراعيه إلى سور الشرفة، تلتف أصابعه ببطء وهو يقلب عينيه فى المدى المهدور بين الشمس والسحب المتناثرة على خط الأفق الممتد:
ذات يوم وفى مكان ما.. كان ولدًا، وكانت بنتًا.. والمبانى تميل عليه، والشوارع تقصد أن تتموج من تحته ليَتيه، الهواء يهرب منه، يحمله، يخنقه، يبعثره فى الهواء.. لمحها هناك تتوسط حصانًا ومهرةً يتغازلان، تربت الزهور على ظهريهما، ولا تقول شيئًا.. ركض إليها، وقبل أن يرتمى فى حضنها انكمشت، اخترقت صدره، وتقرفصت، ومن يومها وهو يجفف قلبه المبلول بدموع لا تجف.
خصلة من شعره بين إصبعيها، تتركها، وتضع يدها فى منتصف صدره، تهبط رأسها على كتفه ببطء، احتكاك خدها مع كتفه الصلب يدغدغ زغبًا فى وجهها، فتغمض عينيها وتبتسم، بينما يتابع هو:
من حينها لم يتساءل: أين ذهبت البنت، واكتفى فقط بأن ينتظرها..
كأنها اكتشفت شيئًا صادمًا، تنهد هو، فتساءلت:
وأين ذهبت؟
لست أدرى، شىء ما أخبرها بأن عليها الرحيل، وهى تثق به..
أخذ نفسًا عميقًا، ثم تراجع خطوة للخلف، فرفعت رأسها عن كتفه، وبقيت مكانها، اقترب، ضمها إليه، أغمضت عينيها.. وشم من شعرها رائحة راح فيها كلامه كأنه قادم من سفر بعيد:
- بالرغم من أنه صعب على الاعتراف، لكن فرقت بيننا الحياة أكثر مما يفرق الموت.. نعم النساء أكثر شجاعة من الرجال، نحن بارعون فقط فى الوقوع فى الحب، فى تأمل السماء، نحن نكتب الروايات، نبدأها.. وهن يغتلن الحكايات..
ثم ضحك ضحكة قصيرة، وقال: هكذا هن النساء، يأتين ويرحلن، حتى وإن لم نستطع أن نعرف إلى أين يذهبن.. وضمهما شتاء..
منذ سنوات بعيدة وقفت طفولته الواهنة أمام البحيرة التى تعلّم عندها كيف يكون ما هو عليه الآن، وقال لحمامة أخذت تدور فى مسارات لا يراها، كلما قلّبها الهواء يمينًا انضمت إلى دورانها حمامة أخرى يسارًا:
عندما تتمددين على سريرى تلك الليلة، سيتدلى القمر كعينى التى تختلس النظر إلى الفتيات أينما كن، ستتوجه أشعته الجنونية إليك، وتتراقص فوقك، ستفترشك.. وتكشفك، فى مشهد احتفالى من الطبيعة، وقتها نكون قد انتصرنا أنا.. والقمر المسكين.
صارت الحمامة سربًا، سربًا من الحمام يغزو السماء بحلقات تحاصر السحب والنجوم، سربًا من الحمام أخذ مقولته واختفى..
كان يكره الشتاء، ويجيد التربص لـقِطَّةٍ تقبض عليها أصابعه. يضمها إلى صدره، ويركض مخترقًا هواء باردًا يحاول أن يعيقه، يعبر مسام قميصه، يدغدغ جلده، ويفرق تماسك شعيرات إبطه، ومع ذلك يركض ويركض ويركض...
«الأم الوحيدة التى عرفتها هى دمعة.. دمعة لا تنفك تزورنى من ليل إلى آخر لتعيد قليلًا من الدفء إلى وجهى الذى انتهكته صفعات الشتاء..».
فى فجرٍ ما، فى مساءٍ ما،
اجعَل ألَمَك قيثارةً،
واضحكْ ومُتْ..
«لن أذهب قبل أن أحصل على تفسيرات، يدير ظهره، يدير وجهه، يقلب عينيه فى غمام السقف: ما بك تأخذين الأمور بهذه الطريقة؟ تفتر عنها ابتسامة ساخرة، هو لا يراها: أنا فقط كنت بحاجة للحديث قليلًا، فكنت الشخص الذى فكرت أن بإمكانه الاستماع إلى. ثم يلتفت إلى عينيها: فيما مضى كانت بيننا قبلات وأحضان أتذكرين؟ لكن الآن أنا لا أريد سوى الحديث معك ليس أكثر. ثم يلحظ تحلق الطيور فى السماء، كانت ساعة للغروب، وكان القمر طالعًا من قلب شمس برتقالية: لقد كانت تجربتى الأولى، أتعرفين ماذا يعنى ذلك بالنسبة لى؟
حينها قالت: أنت لا تفكر سوى بنفسك وفقط. واقتربت كمن على وشك أن يصرخ فى أذنه: أنت أنانى، ترفع صوتها وتحرك يدها فى استهانة: لأنك حضنتنى أو قبّلتنى تظن أن لك الحق فى مطاردتى طالبًا تفسيرات؟ أى تفسيرات؟ أنت حتى لا تعرف كيف تُقَبل الأنثى، ما زال أمامك الكثير لتتعلمه يا فتى، فابقَ كما أنت ماضٍ أو حقير. وتوجهت نحو الباب وصفعته خلفها..
كان كل ما يريده بعد كل هذا: كل ما أريده لكِ هو أن تعانى مثلما أعانى. لقد رأى قلبها وكان يريده: أريد القلب الذى فى صدرك لأشعر لعلك تموتين، أتمنى أن تموتى أينما تكونين. وأمضى ليلة بعدها تخلى عن كل أوهامه: ذلك لأنه ليس لأحد فى العالم سأعطى قلبى..
وسلموا لى الحب حتى أقتله،
اقبضوا على الضعف الذى أظهرته،
فلا أحد يستحق أن يحتفظ به..
أنتَ الآن لا تمثل لى شيئًا..
هذه قصة تحدث كثيرًا، من حسن حظ الفتى أنه ساكن فى الحكاية، ذلك أنه كلما ألقى بنفسه فى النهر، أغمض عينيه وأرخى أطرافه، كان جسمه يطفو من جديد فوق السطح، ظل هكذا طوال اليوم والناس يمرون فى الصباح والمساء ينظرون إليه، ويضحكون؛ لأن جسده كان يجيد السباحة... هكذا إلى أن جاء مساء فكتب قصيدة، ثم أطلق الرصاص على رأسه، ومات!»
يتساءل الطفل:
- لماذا يا أبى؟
- لماذا ماذا؟ لماذا مات؟
- كلا يا أبي، أقصد لماذا كتب قصيدة؟ لماذا لم يكتب ليدعو الله حتى لا يعذبه؟
تفاجأ قليلًا ثم أفتر ثغره عن ابتسامة قلقة:
- ومن قال لك إنها ليست كذلك؟
- وهل الله يقرأ القصائد يا أبى؟
- حتمًا يا بنى الله يقرأ القصائد.. ما الغريب فى ذلك؟
- أنا لا أقرأ القصائد يا أبى، ولا أمى ولا أختى ولا حتى خالتى.
كأنه أفاق من سبات عميق على صدى جملته:
-«أنت وحدك يا أبى من يقرأ القصائد»، هل كتبها كى تقرأها أنت؟
وكمن يرى المستقبل والماضى فى آن واحد:
- ربما، ولم لا، كتبها كى أقرأها أنا..
- وماذا حدث بعد أن قرأتها؟
فى مساء ما كان الجميع يحتفل بسقوط الطغاة، كانت زجاجات البيرة تُفرَغُ بسرعة، وتترنح فى الصناديق، وعلى قارعةِ الطريق هناك كان صبى أراد دومًا أن يعرف.. ماذا يدور وراء الجدران، وراء كل هذه البيوت؟ تمنى أن يخترقها كلها ويجوب دواخلها على راحته، كذبابة تطن، تئز، تطير، وتظل دومًا فى حالة مطاردة، بل كريح لا مرئية تلسع وقت أن أرادت وتفصح عن مجيئها وقت أن أرادت، تدور، تجوب، تزمجر وقت أن أرادت.. وقف فى قلب الشارع، أغمض عينيه مع ابتسامة خبيثة، شغف ورغبة، والمجهول صار الملاذ المنتظر منذ سنين، فرد جناحيه، رفع رأسه إلى السماء، وفتح فمه يهم بالصراخ لكن صرخته لم تكد تخرج حتى عادت مرة أخرى إلى حلقه، وغرقت فى المطر الذى ملأ جوفه..
هز رأسه فى محاولة للانتباه، ثم نظر له بحنو وجزع مطمور وراء عينيه، وقال مبتسمًا:
-لقد تأخرت على موعد نومك...
وأخذه من يده، رفعه على كتفه وأصابعه تدغدغه، والولد يضحك فى حبور، ويرفس بقدميه، حتى دخل الغرفة وألقاه بجانب أخته التى كانت تتظاهر بالنوم، أزاحت يديها عن وجهها، وبمجرد ما أن أشعل الأب النور صرخت لتفاجئهما، وهى تضحك فضحكوا جميعًا، وتمدد الطفلان تحت البطانية كميت تمدد فى صندوقه لكن روحه ما زالت تحلم بالنهوض، مسح على جبينهما، ثم قال فى نبرة مسرحية: من سيستيقظ مبكرًا سيحصل على هدية نهاية اليوم.
صفّقت البنت دلالة على الإعجاب، وفكر وهو خارج من غرفتهما «ماذا لو توقف الزمن قليلًا متأملنا، متأملًا ذلك الضعف وتلك الغلبة التى فينا، إذ أتت لحظة نكون فيها سعداء؟ ترى هل يغير ذلك شيئًا؟».
كان فى الماضى طريق يفصل الماء عن اليابسة، ويمتد إلى أن يصل بين الضفتين، سرابًا ضخمًا يطل الجميع من عليه، علينا.. نحن القابعين بعيدًا هناك.. قابعين عميقًا جدًا فى تلك المدن الصغيرة التى لا تظهر على الشاشات، مدن لا تدخلها الكاميرات، ولا يمكن رؤيتها، مدن السير فيها بالحدس فقط... كلما كنت صادقًا كنت أقرب..
كل مدينة مهما انعدم براحها تظل متسعة لشخص واحد فقط.. هو ذلك النائم هناك تحت شجرة الجميز بعد أن أضناه التعب من عدِّ السراب..
كان يتساءل كثيرًا فى الشتاء، وفى الصيف يتمدد فوق بقايا السور الصامدة ضد السقوط، على يساره شارع مزدحم، وعلى يمينه مجمع نفايات، كان ينظر إلى السماء «اللغز هو أنا»، هكذا فكر الصبى، وفكر أنه لو فاز بقبلة هذا الصيف، سيكتشف الشتاء المقبل اكتشافًا عظيمًا لم يصل له أحدٌ من قبل.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى