عبدالله البقالي - أصداف الدهور..

كنت على وجه التحديد في العاشرة و بضعة شهور حين رأيت "مونيك" او "مونييك" كنيزك أو جرم سماوي يشق طريقه منفصلا عن الأعالي، و يهوي مستقرا في صقع بارد من رحاب المعمور. شابة بلجيكية من مدينة"بروكسيل" و طالبة جامعية في ريعان الشباب تصل إلينا في ذلك المرفئ البعيد من العالم.
لا أحد يستطيع ان يتكهن بنوع الصدف التي قد تكون قادتها إلى هناك ضمن وفد ضم وافدات ووافدين من مختلف ربوع أوربا ، للانضمام إلى ورش أقيم في النصف الثاني من الستينيات للإسهام في مشروع ما عرف ب"الديرو" أو مشروع تنمية الريف. كما لا يستطيع احد ان يتذكر نوع المهام التي أنيطت بباقي الإناث في برنامج ذلك الورش. لكن على اعتبار أن مونيك كانت طالبة تدرس الطب، فقد وجهت إلى المستشفى. و حتى لو لم يكن الامر كذلك، فالعقلية الذكورية لم تكن لتطالب شابة فاتنة مغرقة في التمدن، بحمل الفأس، و غرس أشجار الزيتون و الكلبتوس للبدو.. و أتخيل أن الكثير من أولي الأمر ربما تمارضوا، أو ربما تذكروا أخيرا أن احد ذويهم في حاجة إلى فحص جراء ألم أو شكوى قديمة. و لدى حضورهم للمستشفى، أصروا على أن تكون مونيك هي الفاحصة.متأكدين تماما أن مجرد لمسة من اناملها، كفيلة بإنهاء حياة أي مغص أو ألم.
لكن الاحتفاء بهذا القدوم كان مختلفا لدى الصغار. فقد كانوا بالنسبة لهم "النصارى" و النصارى كما هو مخزون في ذاكرتهم هم مرادف كل النكبات و الآلام و الوقائع الموجعة. و قد ارتأوا أن الوقت هو وقت قصاص، و مناسبة لاستعادة الاعتبار المفقود.
لا يعرف ما إن كانت مونيك حاضرة ضمن وفد المتطوعين لدى السلطات التي عرضت عليهم كل أطفال القرية المشاغبين بعد اعتقالهم، و الذين كانوا قد نصبوا كمينا لهم، و رجموهم بالحجارة. و بالرغم من أن الأطفال جلدوا بلا رحمة، فالحكاية طويت بسرعة. و ربما غير المتطوعون الكثير من أهدافهم من خلال رمزية الانتقال من رحاب السوق كمقر لإقامتهم إلى حيث المدرسة . و ربما ارتاوا أن لا قيمة لأنشطتهم إن استثنت التأثير في حياة الأهالي.
لا يمكن نسيان ذلك المساء حيث كان أول ظهور لهم في مركز القرية. كان المركز مؤثثا وفق الحال الذي رسخته الأعوام. الشيوخ في مجلسهم بمحاذاة المسجد. و الشباب يحتلون أوسع نطاق في رحاب سور العاطلين.و في مجال هو الأضيق في غرب السور، يجلس الصغار. و الشئ الوحيد المشترك بين كافة الحلقات، هو ان الجميع كان يستمتع بالأغاني التي كانت تبث من مقهى"لاجودان"و الذي كان يلح على النادل على أن تصل موسيقى أسطواناته إلى ابعد حد ممكن. و فجاة علا صياح الأطفال : النصارى قادمون.
لا يمكن وصف نوع الارتباك و الذهول الذي أصاب الجميع. فقد كان الوضع أشبه بمن فوجئ بضيف في وقت غير مناسب. و لم تكن مصدر الحيرة فيما يمكن ان يقدم له فحسب، بل و كيف يجب استقباله أيضا.
كان الموكب طويلا. وهو أشبه باستعراضات الكرنفالات. كل الألوان كانت حاضرة فيه.أشكال غير مسبوقة أبطلت القدرة على التمييز بين الذكور و الإناث. الشعر الطويل المسترسل إلى ما تحت الاكتاف. السروايل المتسعة كلما توجهت نحو الأسفل. و اهم من ذلك المشهد الذي جعل الاغنية المناهضة "للميني جيب" و التي كانت تبث من مقهى لاجودان بلا معنى ، لتتركز الانظار على الأفخاد البضة المكشوفة .
عصر يباغت عصرا. ينهره. يهزه بعنف. برفسه. يفهمه أنه مكث اكثر مما كان ينبغي. و في المتبقى من قدرة الآخر على الحركة، شق عينيه. سأل نفسه ما إن كان للدهور و العصور كوابيسها.
كانت مونيك في الطليعة. تبتسم و تلتقط الصور. من كان يستمتع بمن؟ أهي التي كانت تنتشي برحلة إلى غابر الأزمان حيث ترى نسخة من حياة الأسلاف وهم بصدد بناء جسور العبور إلى حيث هي كمستقبل، أم أن أولئك الجاحظين الشاردين كانوا بصدد رؤية نقلتهم إلى كوكب آخر، و كل ما احتفظوا به بعد زوال دهشتهم هو أدراكهم أنهم ينتمون لعالم تافه؟
لم يجد الشباب حرجا في أن يفقوا مبتسمين ، مادين اكفا مصافحة. و ممتحنين قدراتهم على التلفظ بلغات لم يتردد لها صدى من قبل خارج حجرات دراستهم. وضع شجع الاطفال للإجهاز على ارتباكهم ، و التقدم لتشكيل مؤخرة الموكب، و ليلتضقوا بالجدار أسفل الدرابزبن مختلسين النظر الى ما فوق السيقان ، و يتبادلون الغمزات و الابتسامات فيما بينهم.
لم تكن هناك رقابة. كانت القرية في ذهول تام. حتى النسوة خرجن من بيوتهن ووقفن عند الربى المطلة على المركز، وهن يتابعن مرور هذا المذنب النشط العابر لمجاهل الخمول. لكنهن لن يظلن على هذا البعد.سيقتربن اكثر ليجدن لهن متسعا داخل هذه الحملة النابليونية الصغيرة...

لأول مرة عبر تاريخ زيارة الغرباء للقرية، وضع الشيوخ انفسهم في وضع غير المعني. من قبل كانوا هم المستقبل و المودع. لكنهم الان يتظاهرون بأن الأمر لا يمكن أن يهم أصحاب الرزانة و التعقل، مادام الامر يتعلق بشباب أجنبي طائش، لا يمكن أن تميزه من خلال هيئتهم عن المشردين. و شابات فاتهن تعلم دروس الحياء، و ستر أجسادهن. إلا أنهم تناسوا أنهم لم يعودوا أصحاب قرار . و ان سلطة القبيلة و الجماعة صارت شيئا من الماضي. و لذلك لم يعد بإمكانهم أن يكونوا أكثر من متفرجين، حريصين على التواجد في مركز القرية في مواقيت زيارة المتطوعين. و هم على ذلك البعد، كانوا يتبادلون الهمسات و التعاليق، بل و تعلو ضحاتهم احيانا وهو ينظرون إلى أجساد و أفخا ذ الشابات. كما انهم لم يتدخلوا لمنع أبنائهم و حتى نسائهم من المواظبة على حضور السهرات الليليلة التي كانت تقام مرة كل يومين، في المكان الذي كانت تتخذه السلطات الاستعمارية مقرا لها. وهو ما جعل حلقتي النسوة و الاطفال هي الاكثر عددا اتساعا. و لكون النسوة كن في المكان الأبعد و الاقل إنارة، فقد كان ذلك يسمح لهن بالتحرر أكثر، ومن ثم كانت تتعالى ضحكاتهن و تعاليقهن.
جلهن لم يكن يعرفن لغة اجنبية. و القليل منهن كانت بعض المفردات لا تزال عالقة بأذهانهن من مرور عابر بالمدرسة. و لهذا فتفاعلهن كان ينم أن التواصل يتم عبر لغة اخرى. لغة تبدأ بالتقاط الصور و الإيحاءات، و تنتهي إلى لغة داخلية صرفة طرفاها الذات و ما هو مكدس داخلها، لينتهي الأمر إلى لغة أخرى تسائل وضعهن كنساء، مقابل عالم النساء فيه أكبر من مجرد مساحة تتسع او تضيق جراء وجهة نظر أو فتوى. كما ان تلك اللغة تتواصل ملتقطة صور مونيك و غيرها ، و كيف يستطعن من خلال تمثيل أو شدو، من ان يصرفن الأنظار عنهن كأجساد، و ينجحن في إلغاء الأوصاف و النعوت و التصنيفات، و يتمكنن من إشعال الأذهان، و إغراقها في فكرة.
غير بعيد عن حلقة النساء، كانت تبدا حلقة الشباب. رؤوس حالمة. متوقدة. محتارة و هي تعيش وضعا غير مسبوق. فهي لأول مرة ترى أن سرعة ما يستجد في الحياة، هي اكبر من سرعة الخيال نفسه. جائع نهم اكول،يفاجأ في ذروة جوعه بمائدة قد حوت كل ألذ أصناف الطعام. و لاقتناعه أن ذلك قد لا يتكرر ثانية، فقد كان عليه أن ينتقى الألذ. إلا أنه كان عاجزا عن التمييز. كما ان تحصيل النوع، كان يتعارض تماما مع مسألة الكم. و حتى سعة البطن لا تسمح بالإجهاز على كل شئ. و لذلك اختار أن يمتع نظره وهو يستعرض ما حوله.
لم تكن مونيك هي وحدها الملهمة. أشياء أخرى كثيرة لم يكن بمستطاع الجميع استيعابها في عجالة. لكن المشترك كان هو هذا الآخر المؤرق.
طوال عمر التحصيل و التعلم، لم تتوقف المحاولات عن شحن أذهانهم عن ذلك الآخر المتربص. من الغزوات إلى آخر حرب، لم يمل الآخر من لعبة التنكر و الإختفاء خلف الأقنعة. ووحدهم هم المجسد لامتداد صيرورة الأجداد، كانوا يفقون محسوري الرؤوس، و ملامحهم التي تحفظها الامم.
في القدم كان الآخر هم الكفرة و السحرة. و كانوا هم قلاع الإيمان. كان الآخر هو المرتد. و كانوا أصحاب الثبات. كان الآخر هم الأشرارو الظلمة، و كانوا أنصار الحق و حراس العقيدة. كان الآخر هم الظلال ، وكانوا الجسور إلى الحقيقة. لكنهم الآن لا يرون أي شكل من الأشكال المحفوظة عن الآخر. و لا يستطيعون أن يتحسسوا سوى أنهم الطرف الأبعد عن الكيفية التي يجب أن تعاش بها الحياة. و أنهم الأبعد تأهيلا عن محاورة المجرد ، ماداموا عاجزين حتى عن ضبط أشكال المحسوس. فمن الآخر على ضوء ما يعيشونه الآن؟ أليس ذلك الذي يحول بين الكائن و بين فهم ما يجري حوله؟ ثم هذا السؤال المتأخر، ألم يكونوا آخر للآخر بنفس المعنى المطرز بالنكبات و المآسي؟
صحوة في عز التيه، او تيه في عز الصحوة. لا يهم من اكتسح الآخر. لكن هل هو سحر مونيك الذي اوضح أنها مكانة قبل ان تكون كائنا. و هي فكرة قبل أن تكون جسدا. و هي حياة تتمع بالثبات ، مقابل عالم تحنطت فيه كائناته من اجل أن تصنع ثبات التماثيل و الزمن؟
لم يجدوا سوى أن يدسوا أنفسهم في العروض. بل و ان يتطوعوا للإسهام في فقراتها المفتوحة التي كانت من السعة للحد الي تستوعب فيه كل الطاقات. و أن يتعلموا كيف حين يمثل الإنسان ، فإنه ليس مطلوب منه أن يقف خارج انشغالاته. بل معبرا إلى كنهه المدفون فيه و الذي أغرقته الأعراف. و أنه حين يغني، فهو يشطب و يدوس الحواجز التي تطمس أحاسيسه المكتومة . و ان الفن في النهاية هو شطب لكل ما هو زائف في الحياة، و الاحتفاء فقط بما هو أصيل في الإنسان.
هل كانت تراتيل تعويذة مونيك التي ألقت بها في أذهان و مسامع الشباب، هي نفسها التي سحرت بها الأطفال وهي تلقي بقطع الحلوى لهم من شرفة مقهى "لاجودان"... وهل هو البحث عن الجمال ، هو من يقود للأسمى؟ لكن أي نوع من الجمال؟

عبدالله البقالي

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى