يمنى العيد - ذاكرة ترحال أدبية.. لطيفة الزيات والتحرر من أسر الجسد

خريف عام 1995 وصلتني دعوة للمشاركة في حفل تكريم الأديبة المناضلة لطيفة الزّيات، ولأسباب تتعلق بوضعي العائلي اعتذرت. خريف عام 1996 وصلني خبر وفاتها. رحلت الأديبة التي التقيتها ذات يوم في المغرب لتولد من جديد في عالم ذكرياتي الذي أثرتْه بحضورها فيه.

كان ذلك أواسط الثمانينات في المغرب الذي توالت دعواتُه إليّ حتّى لكأنّي واحدة من مواطنيه، بل ربما هو جذري المغربي الذي استيقظ فيَّ لدى زيارتي الأولى للمغرب، وصار يدفعني لتلبية تلك الدعوات، أنا التي كان يخيفني ركوب الطائرة.

في مدينة أغادير التي تقع جنوب غرب المغرب وبالقرب من جبال الأطلس الكبير، والتي تعتبر عاصمة لمنطقة سوس ماسا درعة، رأيتها، هي لطيفة الزّيات تقف بين الجموع بهامتها المليئة بالحياة، متوهِّجة بتاريخها النضالي وبكتاباتها التي بنتها على تجربتها في التحرّر من أسر الجسد، ومن وأد الذات في مطلقٍ هو قرين الموت، وذلك كي تكون الحياة حياةً في الينبوع البشري، في الجمع الحيّ، في الشارع الذي يصنع الوطن… وكي تكون الكتابة عمليّة إنتاج يلتحم فيها الفكر بالوجود، والرؤية بالواقع، والإرادة بالفعل، والكلمة بالحقيقة.

كنتُ قد عرفتها في روايتها “الباب المفتوح” (1960) أو باب الانتماء إلى الجموع، إلى الكل، فعلا وقولا وحياة، كما عرفتها في مواقفها ونضالاتها الوطنيّة. وها أنا أراها الآن، ليس في مصر، بل في هذا البلد المغربي الجميل. أتقدم منها، فترحب بي بابتسامتها الوديعة، كما ترحب بآخرين تقدموا منها للسلام عليها. على مقربة منها كانت تقف صديقتها الفنانة التشكيلية إنجي أفلاطون، وعلى مسافة أبعد تقف الممثلة المصريّة المعروفة فردوس عبد الحميد، وآخرون وأخريات كثر جاؤوا من أكثر من بلد عربي بأمل أن يكون للثقافة دورها في قضيّة الوطن الكبرى، قضيّة الحريّة والاستقلال والديمقراطيّة.

كان هذا اللقاء أثناء استراحة في الطبيعة، خارج قاعة المؤتمر. استراحة أقرب إلى احتفال حرّ مفتوح، جمَع بين أدباء وفنّانين قادمين من أكثر من بلد عربي. بينهم منير بشير الذي أصغينا، بإعجاب وتقدير، إلى تقاسيم عزفه الساحر على العود. بعدها جرى الإعلان، عبر مكبّر الصوت، بأن من يرغب من المدعوين والمدعوات بقول كلمة في هذه المناسبة، له المنبر. كانت كلمات موجزة أشارت إلى أهمية الثقافة، ودور المثقفين في تكوين الوعي المعرفي، والمساهمة في تقدم أوطاننا وتحررها. وقد لفتني توجيه البعض تحية إلى لبنان وقواه الوطنية في مقاومتها دخول جيش الاحتلال الإسرائيلي إلى بيروت.

أتأملها وهي تلقي كلمتها، وتؤكد على أهمية تحرر المرأة وحقها في التعلّم. أتذكرها اليوم، وأتذكر صوراً من سيرتها الذاتية حكت عنها في روايتها: “حملة تفتيش” (1992)، مثل شريط سينمائي تمر هذه الصور. أراها:

* طفلة صغيرة في بيت أهلها الكبير تغنّي لمصر أغنيتها المفضّلة: يا مصر ما تخا فيش/ ده كله كلام تهويش.

* طفلة في الحادية عشرة من عمرها، تقف على شرفة منزلها (عام 1934)، ترى بنادق البوليس السوداء تُردي أربعة عشر قتيلاً من بين المتظاهرين في المنصوريّة، وتدرك معنى أن تحمل الجماهير سيارة النحاس باشا على الأكتاف لتعبر به، وبها، فوق الخنادق التي أمر الملك بحفرها، كي يحول دون زيارة النحاس للمنصوريّة والإقليم.

* طالبة جامعيّة (عام 1946) رائدة في جامعة فؤاد الأول، تحبس دمعها وهي جاثية، كأمٍّ حنون، تلفّ بعلم مصر الأخضر جثّة بعد جثة، كان ينتشلها زملاؤها من نيل مصر، وقد حوّلته البندقية السوداء نفسُها إلى مقبرة.

* شابة تمرح في صحراء سيدي بشر، وهي تقذف بمقدمة حذائها الطوب في الهواء لتعلو فوق حقارة الاضطهاد، وتستنهض شعوب الشرق للكفاح: “يا شعوب الشرق هذا وقت ردّ الغاصبين”.

* داخل سجن الحضرة (آذار/مارس 1949).

* طالبة شابة تتولى قيادة اللجنة الوطنيّة للطلبة والعمّال، وتلقي الخطب من على سلالم إدارة الجامعة، ومن على منبر قاعة الاحتفالات.

* عضو في اللجنة النسائيّة للمقاومة الشعبيّة، ولمساندة الكفاح المسلَّح ضدَّ قوات الاحتلال في منطقة القنال.

* في اجتماع مع حسين فوزي وتوفيق الحكيم معلنة: “كلُّ واحد منّا مسؤول عن هذه الهزيمة” (هزيمة العام 1967)، ولا، لتنحّي عبد الناصر عن الحكم.

* داخل سجن القناطر (1981) مع أمينة رشيد ونوال السعداوي وعواطف عبد الرحمن بأمر من أنور السّادات.

أستعيد هذه الصور اليوم، وأنا أتذكر لقائي في المغرب بالأديبة المناضلة، التي رغم كلّ ما عانت بقيت الابتسامة لا تفارق ثغرها. كنت أتأملها وهي تلقي كلمتها، فتبرز أمامي صورة ليلى بطلة روايتها “الباب المفتوح”. كم تشبهها، أقول في سرّي. تستغرقني المقارنة بينهما. أسمع صوت إحدى الصديقات تنبهني قائلة: سوف نذهب لزيارة مدينة أغادير القديمة. أسألها:

– هل قرأت رواية “الباب المفتوح”؟

– قرأتها.

– ما رأيك ببطلتها ليلى؟

– تذكرني ليلى بلينا فياض بطلة رواية ليلى بعلبكي “أنا أحيا” التي صدرت في الفترة الزمنية نفسها (1958). كلتاهما تسعيان إلى تحرر الأنثى من سلطة الذكورة التي تكرسها تقاليد المجتمع.

– صحيح. أهمس لها، كأنما أتكلم مع ذاتي. كلتاهما تهدفان إلى التحرر. لكن المسعى مختلف، بل متناقض، فليلى لا تخرج على إرادة والدها، لا تثور على والدها الذي يمنعها، بصفتها أنثى، من كل ما يَسمح به لأخيها، لأنه ذكر. هكذا لا تجرؤ على الاعتراض على العريس الذي يوافق عليه والدها، لأن هذا ليس من حقها. أما لينا فياض فهي شخصية متمردة، تمارس حريّتها، تختار وتريد وتفعل: تقص شعرها لارتباط أنوثتها به، تخرج إلى الشارع متى أرادت، تجلس في المقهى، تذهب إلى السينما، تترك دراستها في الجامعة من أجل العمل، تريد أن تستقلَّ اقتصاديّاً، وتحقق وجودها بمفردها وباختيارها الذاتي.

– برأيي، تقول صديقتي، يعود هذا الاختلاف إلى فارق أساسي بين منظور الروايتين. لينا فيّاض شخصيّة روائيّة متمردة موقفاً وسلوكاً، تربط بين الاختيار والإرادة والحريّة، وهي بهذا تحيل على فلسفة سارتر الوجوديّة التي ترتكز إلى كون الإنسان مسؤولاً عن أعماله أمام نفسه ومجتمعه، بصفته فرداً حراً يختار ويريد. ليلى في رواية “الباب المفتوح” لم تكن كذلك.

– ليلى، أضيف وكأني أتكلم مع ذاتي، هي صنيعة لطيفة الزيات، المرأة المناضلة التي تنطلق، في سرد روايتها، من واقع مصر الاجتماعي/ السياسي، أي من منظور وطني تحرّري. هكذا يحيل تحرّر ليلى، في نهاية الرواية، على انخراطها في تحرير وطنها من سلطة المستعمر، وعلى انضمامها إلى الشاب المناضل الذي تعشق. تتقاطع مشاعر العشق والنضال في رواية “الباب المفتوح”، ويرتبط تحرر الذات، من منظور الكاتبة اليساريّة المناضلة، بتحرّر الوطن، لا من الاستعمار وحسب، بل أيضاً من سيطرة الطبقة البرجوازيّة المتمثلة، في الرواية، بعائلة ليلى، ما يعني ارتباط تحرّر الفرد بتحرّر المجتمع، تحرّره من سلطة الاستعمار البريطاني، كما من سلطة الطبقة البرجوازية الحاكمة/المتحكمة.

ـ يا يمنى يا عزيزتي، نحن على مشارف مدينة أغادير القديمة، دعينا من ليلى ولينا الآن وأنظري إلى رحابة هذا الشاطئ الرملي، واصغي إلى كركرة أمواجه وتأملي صفاء مياهه الزرقاء…

– هل صار مسموحا للأنثى أن تلبس المايو وتستمتع، شأن الرجل، بمياه البحر وشمسه؟ وهل نضال لطيفة الزيات، ونضالنا أيضاً، أوصلنا إلى دحض أقوال بعض الشعراء المهينة لنا؟

لم تجبني صديقتي بل كانت تبتسم وقد رحتُ ألقي على مسمعها ما قاله، ذات يوم، الشاعر القروي بحق المرأة: “وجوه وسيمة وعقول صغيرة”.

– هذا كلام رجل شرقي، قالت.

– ولكن الغربي اللورد بايرون يقول ما هو أسوأ: “اعطها المرآة والحلوى فقط وإلاّ تدّس أنفها في كلِّ شيء بلا فكر ولا رويّة، رأس نعامة تتجاوب فيه الأوهام”.

تبتسم صديقتي وتدعوني إلى الإصغاء للزميل المغربي الذي يبادر لتعريفنا بما كانت عليه مدينة أغادير القديمة مشيراً إلى ما تبقّى منها… وأكثرُه أنقاض. يقول: “هذه أغادير القديمة التي أسّسها البرتغاليون سنة 1500م. في عام 1911 أرسلت ألمانيا مدمّرتها إلى أغادير بحجة حماية جاليتها، مما صعّد الخلاف بينها وبين فرنسا، ولكن بعد سنة تم إعلان هذه المنطقة محميّة فرنسية. في 29 شباط/ فبراير 1960 ضربها الزلزال فدمّر معظمها وقتل 15 ألف شخص ودفنهم تحت الأنقاض، فبنى محمد الخامس مدينة جديدة، جنوب المدينة القديمة، على الطراز الحديث، هي اليوم، ثانيه مدينة سياحيّة بعد مراكش”.

تلة من الحجارة والصخور المدمَّرة والتراب غدت مدينة أغادير القديمة، لم يُبق الزلزال أثراً منها سوى هذا الرجل، ربما الوحيد، الذي روى لنا حكاية نجاته المعجزة!

جميلة مدينة أغادير الجديدة، قلت لصديقتي في طريق عودتنا إليها، جميل شاطئها الرحب، الوديع، النظيف. إنه الشاهد الوحيد على ضحايا الطبيعة التي لا ترحم أحيانا.

سلام لضحايا هذه الطبيعة.

سلام لروح المرأة الأديبة المناضلة لطيفة الزيات.

ـ لطيفه الزيات 8 آب/ أغسطس 1923 ــ 11 أيلول/ سبتمبر 1996

ـ ولدت في مدينة دمياط وتلقت تعليمها بالمدارس الرسميّة. عام 1945 اعتُقلتْ مع زوجها أحمد شكري سالم وهو أول شيوعي يُحكم عليه بالسجن، فانفصلا بالطلاق بعد الحكم على شكري بالسجن سبع سنوات وخروج لطيفة. عام 1946 انتخِبت وهي طالبة، سكرتيراً عاماً للجنة الوطنيّة للطلبة والعمال التي قادت في تلك الفترة كفاح الشعب المصري ضدَّ الاحتلال البريطاني. عام 1952 ليسانس في اللغة الانكليزيّة وآدابها بجامعة القاهرة، وعام 1957 دكتوراه في الآداب من كليّة الآداب بجامعة القاهرة.

ـ أشرفت على إصدار وتحرير الملحق الأدبي لمجلة “الطليعة”، وحازت على جائزة الدولة التقديرية في الأدب، وجائزة نجيب محفوظ للأدب.

ـ من أعمالها: “الباب المفتوح”؛ “الرجل الذي عرف تهمته” مجموعة قصص 1986؛ “حملة تفتيش”، سيرة ذاتيّة، 1992؛ “نجيب محفوظ: الصورة والمثال”، 1989، و”أضواء”، 1994، مقالات نقديّة.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى