مارك أمجد - شي جابي.. قصة قصيرة

بعدَ أن أغلقتُ باب الحمّام عليَّ خلعتُ عني بيجامتي ورحتُ أتفحص جسدي جيدًا للتأكد من عدم إغفالي شيئًا ليلة البارحة. أخذتُ أفكر : ابتلى اللهُ الفتياتِ بشَعرٍ في أجسادهن إلا أنه أنعمَ عليهن بماء الورد المُريح من الألم… وقفتُ تحت الماء الساخن مستمتعة بانزلاقه فوق جسدي الأبيض البضّ، الناس لا يعرفون استخدامًا له سوى الاستحمام، أمّا أنا فأجعل منه سائلًا للمتعة؛ ففي كل مرة أستحم، أتعمد الرجوع إلى الخلف ببطء، وبمجرد أن يلامس جسدي الدافئ جدار الحمّام البارد، أتخيل رجلًا ما يشاركني حمّامي، فتسري في جسدي رعشة أحبها. عندها أجد نفسي أفرك نهدَيّ بقوة وبطء، فتعتريني رغبة عارمة في أن ألِج إصبعي في داخلي، ثم يأخذني الدوار وأشعر باضطراب.

***

نزلتُ إلى الشارع لأبدأ يومي كامرأةٍ مكافحة. حَي الورديان الذي أقطن به مِن الأحياء الفقيرة بالإسكندرية، كم أكرهه، وأكره رجالَه الذين لا يملّون الجلوس أمام محالهم أو بالمقاهي، مُحدقين في مؤخرات النساء. أخذت أتأمل وجوه القليلين منهم السائرين في الشارع في هذا الوقت المبكر من الصباح، وأفكر في حالي؛ أطمع في الزواج من رجلٍ قاسي الطباع، تسيطرُ عليه غيرته، كالرشيدي، ذلك الذي أجبر زوجتَه على ارتداء النقاب، حتى لا يشبع منها أحدٌ غيره .. يا له مِن بيت مُفعَمٍ بالرومانسية!

***

إعلان

ولجتُ المركز التعليمي الذي أعملُ به منذ سنتين، كان ذلك بعد تخرُّجي في كلية التجارة بجامعة الإسكندرية بعام واحد.
جلستُ إلى مكتبي وانهمكت في تصحيح الامتحانات، لحُسن حظي، وظيفتي لا تعتمد على التركيز أو التفكير، بل هي عبارة عن مجموعة من الخطوات المتكررة؛ فكل ما عليّ فِعله، هو التأكد مِن أن الإجابة المكتوبة بورقة الامتحان مطابِقة للنموذج الموضوع مِن قِبَل أستاذ حسين، صاحب المركز والمُدرس الوحيد به، الأمر الذي يسمح لي بأن أستمتع بأحلام يقظتي، كما أنني في منتصف اليوم أغادر المركز وتحل مكاني فتاةٌ أخرى، إنها حقًا وظيفة رائعة، ومع ذلك فالمركز له مساوِئه؛ فهو يضجّ بالمراهقين، فتجد أحدهم يهتم بمظهره ليلفت نظر فتيات مُولَعات مثلي بأبطال الدراما التركية.،أو تجد مراهقة تقضي معظم أوقاتها مع ولديْن، تدّعِي أن ما يربطها بهما علاقة أخوّة لا أكثر، ولكنها في داخلها تعلم جيدًا أنهما مُتيَّمان بها .. وهي تريدهما أن يظلّا هكذا حتى يوم زفافها.

جاء دور ورقتِه : باسِم محمود العطار. أحفظ اسمَه الثلاثي بالرغم من أنه لا يكتبه كاملًا دائمًا، لا أذكر متى كانت المرة الأولى التي رأيته فيها هنا، ولا أريد أن أفعل. أشعر دائمًا بأني أعرفه منذ زمن بعيد : كأنه عاش معي من قبل وهجرني، ثم اشتاق فعادَ مرة أخرى، أو اشتقتُ فعدتُ أنا*؛ لا يهم، المهم أننا التقينا مجددًا. رحت أتخيل نفسي معه نتمشى كحبيبيْن فوق جسر ستانلي، ونتناول الغداء بمطعم “ابن البلد”، سنتردد على كل الأماكن التي لطالما تمنيت زيارتها ولو لمرة واحدة.

مرّت ساعتان وأنا مستغرِقة في أحلام يقظتي، مرّتا ببطءٍ شديد.
فُتِح باب القاعة فجأة وخَرج الطلبة ضحكاتهم الساذجة تسبقهم، فهرعت لتوزيع بعض الأوراق عليهم، أَقبَل باسِم عليَّ فاستقبلتُ عطره أولًا.
باسم شاب وسيم أسمر البشرة، له شَعر بُني خشِن وذقن يحسن تحديدها فتمنحه مظهرًا جذابًا، كما أن جسده مثير؛ فهو عريض المنكبين وعضلات ذراعيه بارزة، أمّا ملابسه فدائمًا أنيقة ويبدو عليها غُلو الثمن.
مددتُ يدي له بالورق قائلة : “خُد يمكن تفلح”.
“هو انا وش كده ده بردو؟! عامله ايه؟”.
أمسكتُ يدَه بقوة ووضعت الورق بها ثم قلت : “أحسن منك”.
“لازم تبقي أحسن مني طول ما أنا في الخرا ده”.
“ألفاظك قولنا ميت مرة”.
“اللي تشوفيه يا هدير”.
قالها بنبرة مبتهِجة فابتسمتُ.

***

في العصر عدتُ إلى منزلي مُرهَقة أتضور جوعًا .. وأخذت أتخيل لو أنني كنت متزوجة؛ أدخل بيتنا وأبحث عن زوجي .. هل جاء مِن عمله أم لا؟ ما الذي أحضره لنا مِن طعام؟ ما المشكلة التي قابلته اليوم في عمله ولن يهدأ إلا بروايتها لي؟ وإذ فجأة يباغتني مِن الخلف، يحتضنني بقوة فأمسك بذراعيه وأقحم أناملي في شَعر يديه الغزير .. يختطفني إلى غرفة نومنا ونمارس الحب حتى اليوم التالي. أذكر ما كانت خالتي تردّده على مسمعي حين بلغت: “تهجريه في السرير، تبقي مسامحة فيه”.
“انتي جيتي؟”.
أخرجَني صوتُ أمّي مِن شرودي.
“ايه؟!”.
“اتأخرتي ليه؟”.
“الأكل خلص؟”.
“هادخل أولّع عليه اهو”.
ذهبتُ إلى المطبخ في خفة، فعلمتُ أني بصدد خوض جدالٍ معها في أمر ظلّت تفكر به منذ الصباح، كعادتها. لا أعرف ما الذي سنتشاجر بشأنه* اليوم، ولكني آمل ألا يكون بخصوص زواجي.
فمنذ أن توفِّي والدي ازدادت حياتنا بؤسًا : أمِّي اكتسبت طابعًا رجوليًا؛ صارت تسهر ليلًا بالساعات تسجِّل في ورقة ما علينا مِن مصروفات مستحَقة الدفع هذا الشهر، لتتأكد مِن أنه سينتهي دون أن نستلف مالًا من أحد أقاربنا، وصارت تتلذذ كل يوم بالتشاجر مع زوجة الرشيدي، جارنا التاجر الذي يملك وكالة فاكهة بمنطقة الدخيلة، علاوةً على كل هذا، أضحت العلاقة بيني وبينَها أسوأ من علاقة زوجة بحماتها تعيشان تحت سقفٍ واحد؛ صارت تتشاجر معي كلما رفضتُ عريسًا رشحَته لي. هي ترى أن زواجي سيحل مشاكلنا المادية، هذا ما اعترفتْ به ذات مرة، إلا أن ما لم ولن تصرح به، ولكني أعرفه جيدًا، هو خوفها مِن أن أخوض تجربة غير شرعية تقضي على سُمعتنا؛ والغريب في الأمر، أنه مهما تتفاقم مشاكلنا وتحتد نقاشاتنا وتعلو أصوات الشجار بيننا، تغادر في كل ليلة غرفتَها وتأتي إلى سريري تستلقي بجانبي .. وحينما سألتها ذات مرة عن السبب، أخبرتني بأنه لم يَعُد هناك شيء في البيت يحمل رائحة أبي أكثر مِن ملابسي.

دخلتُ المطبخ فوجدتها واقفة أمام الموقد مولية ظهرها لي فقلت لها : “طب انا هاريح شوية”.
كنت حقًا مُتعبة، ولكن السبب الحقيقي وراء تلك الجملة كان استفزازها لتُخرِج ما في جعبتها. أنهيت جملتي ثم أوليتُها ظهري فقالت : “الرشيدي كان هنا”.
استدرتُ وسألتها : “اتخانقتوا تاني؟!”.
أجابت دون أن تلتفت لي : “هو انا عبيطة عشان اتعارك مع عيلة؟!”.
صَمتُّ وعقدتُ حاجبَيّ ثم سألتها : “امال ايه اللي حصل؟!”.
“هو جه يعاين وملقاش اللي عايزة… بس هييجي مرة تانية” . قالتها بنبرة تشي بالحسرة.
“مش فاهمة حاجة!”
هنا التفتتْ لي وقالت بعد أن ارتسمت على وجهها ابتسامة طفيفة : “هو قالي انك لما بتشوفيه في السلم الضحكة بتبقى ملو وشك كده”.
“ضحكة!”
تلاشت ابتسامتها وصار في نبرتها فجأة شيء من الجدية : “اياكيش تكوني فاكرة ان الدنيا هتفضل حلوة في حضن امك؟”.
“هو ايه اصله احنا هنرجع تاني؟!”
صاحت قائلة : “تاني وتالت ورابع”.
“اتجوز تاجر؟!”.
“حوش العرسان على الباب”.
“ومتجوز!”
“يحقلك، احنا والحمد لله مسلمين”.
“بردو يفتح الله”.
“تبقي خسرانة وهنمشي ندللوا عليكي”.
“قال يعني المتجوزين مابيتدللش عليهم؟!”
قلتها وأنا أغادر المطبخ.
ذهبتُ إلى غرفتي وأغلقت بابَها عليّ بقوة، أمّا هي فهرعت خلفي وظلت واقفة أمام الباب تزعق : “اللي بقوله هو اللي هيمشي يا هدير، وأعلى ما في خيلك اركبيه”.
“انتي بتعملي كده عندًا في مراته، سيبي الناس في حالها”.
“مراته ايه! هتضيعي الجوازة بأم دماغك دي”.
شعرتُ بأن الحوار معها لن يُجدي نفعًا كالعادة، فصمَتُّ. أمّا هي فأخذت تتمتم بكلام لم أتبينه. جلستُ على سريري في غرفتي الضيقة، الباعثة جدرانها الخضراء على الكآبة، وبالرغم من أني أحفظ تفاصيلها عن ظهر قلب، شعرت برغبة في تأملها كأن ذلك سيبعث الطمأنينة في نفسي. رحتُ أحدق في صورتي مع أبي، تلك التي التُقِطت لنا في عيد ميلادي الخامس، في الصورة يقف وهو يحملني فوق ذراعه مبتسمًا لي وليس للمصوّر؛ أمّا أنا فتبدو على وجهي أمارات البهجة…
تُرى ما الذي فعله بي ذلك اليوم كي أبتهج هكذا؟ تخيلتُ أصابعه الخشنة تداعب وجنتيّ، هذا ما كان يفعله دائمًا حينما يريد مصالحتي، فأحسست برعدة تسري في أوصالي. بجانب صورتنا وعلى الحائط نفسه كان هناك ملصَق إعلاني يحمل صورة سيمون، مطربتي المفضلة، فتضايقت أكثر وسألتها : لماذا لم تستمري في الغناء؟! فحينما أسمعك أشعر بأن الحب شيء يجب أن نكثر من فِعله .. ويدفعني شعور بالفرحة نحو الرقص. أحب الرقص الخليجي، ذلك لأن الفتياتِ اللاتي أعرفهن لا تجدنه أو حتى تعرفنه، ومن هنا صارت مشاهَدة مقاطع فيديو على الانترنت لفتيات خليجيات يرقصن، طريقة من طُرُق شغل أوقات فراغي.

***

مرّت الأيام بطيئةً وكئيبة، ثم حلّ أخيرًا يوم الخميس بعد ليالٍ مِلؤها ضيق الأرق، ولفّتها الكآبة التي تتأتى* بعد ممارستي العادة السرية. كنت متوجسة من الرشيدي الذي لم يلتقِ بي نهائيًا على سلم العمارة طوال الأسبوع، إلا أنه أكّد على أمّي ليلة البارحة أنه سيزورنا مساء اليوم ليتقدم لخطبتي. اليوم أيضًا موعد مجيء باسِم إلى المركز، لذلك ذهبت إلى العمل في أبهى صورة؛ لم أبخل على وجهي بمساحيق التجميل التي تجعله أكثر بياضًا، وارتديت حمالة صدر تبرز تكويرة ثديَيّ، ووضعت قليلًا من عطر “ليالي الحلمية” على رقبتي، واستبدلت عدساتي اللاصقة بأخرى ذات لون مختلف. كنت أحاول كل خميس التفوقَ على مظهري الذي كنت عليه الأسبوع السابق… إلا أنه مع كل ذلك، ظلّت عيناي حزينتيْن.
انتهت حصة باسِم ورحلَ الجميع، باستثناء تسنيم، إحدى صديقاته، والتي جلست بصالة الانتظار متحججة برغبتها في طرح بعض الأسئلة المتعلقة بدرس اليوم. ظلّت تراقب الخارجين في توجس، وبمجرد تأكدها من رحيلهم جميعًا، تركتْ مقعدها وأتت نحو مكتبي، فتظاهرت بقراءة بعض الأوراق. لمّا صارت تقف أمامي مباشرة سألتني : “هدير، فاضية بالليل؟”.
قلت : “لأ ورايا الوزارة”.
“هأهأهأ لأ بجد أصل انهارده عيد ميلاد باسم، واحنا ناويين نعملهاله مفاجأة”.
سقطَ قلبي بين ضلوعي، هل لاحَظ أحدهم نظراتي له؟ فقلت متلعثمة : “ايه ده بجد..؟ كل سنة وهو طيب”.
“هو انا بقولك عشان تقوليلي كل سنة وهو طيب؟ احنا عاملينله Surprise party وعايزينك معانا”.
خانني لساني فسألتها : “اشمعنى انا؟!”
أجابت وكأنها لم تتوقع مثل هذا السؤال السخيف : “عشان انتي اكتر واحدة هنا قريبة مننا”.
“مش عارفة اصل جاييلنا ضيوف انهارده”.
تجهم وجهها وقالت : “طب حاولي Please”.
صمتُّ قليلًا ثم سألتها وأنا شاردة الذهن : “طب الساعة كام؟ وفين؟”
تبسمت ملامحها وقالت : “الساعة 6 في شي جابي”.

***

في بيت تسنيم كان الأمر أشبَه بليلة حِنة؛ فبمجرد دخولي الشقة لفحتْ وجهي حرارةُ المكان، وصعدتْ في أنفي روائح لعطور أنثوية مختلفة، وتناهَى إليّ صوت عمرو دياب يغني “أصلها بتفرق”. كانت الأغنية تصدر عن سماعات كمبيوتر موجود بغرفة استقبال الضيوف، تلك التي كانت مواجهة لباب الشقة، والتي كانت مساحتها تكاد تساوي مساحة شقتنا. لم يكن منزل تسنيم كمنزلنا؛ سجاد يدفعك إلى خلع حذائك حتى تتمتع بواطنُ رِجْلِك بملمسه الناعم، ثريات كبيرة الحجم شكلها غريب تتدلى منها كرات، حسب ما أظن، مصنوعة مِن الكريستال، تعكس أضواء الأثرياء. كان البيت بأكمله يعجّ بحركة الفتيات كأنه غرفة تبديل ملابس موجودةٌ في كواليس* مسرح… سلمتُ عليهن جميعًا ثم دعتني تسنيم إلى الحمّام لأغيّر ملابسي وأمرتني بأن أغسل شَعري؛ فهي تعرف أنني في المناسبات أخلع الحجاب، فقدْ رأتني ذات مرة في فرح كنا نحن الاثنان مدعوتيْن لحضوره.
في الحمّام خلعت حجابي وتعريت من ملابسي، ثم أمسكت بفستان أخرجته لي تسنيم من خزانتها. ارتديته لكني للأسف لم أتمكن من رؤية مظهري كاملًا. غسلت شَعري بالماء وجففته بالمنشفة ثم غطيت رأسي بها، خرجت من الحمّام وبمجرد خروجي نظرَ جميع الفتيات إليّ بعيون واسعة وأخذ بعضهن يقول “اووه هدير” فاحمرّ وجهي وتبسمتْ ملامحي، دفعتْ بي تسنيم وسطهن نحو غرفة نوم مفتوح بابها، كان هناك رَجُل أمام التسريحة يمسك في يده بمجفف شَعر وينهي لفتاة قصّة الكاريه. نظرت الفتاة إليّ ورحبت بي، عرّفتني تسنيم بالرجُل وأخبرتني بأنه المُصفّف الخاص بعائلتها.

وقفتُ أمام مِرآة التسريحة وأخذت أحدق في مظهري؛ كنت فتاة في العشرينيات جمالُها أخّاذ، إلا أنها بلا رجلٍ يَشبع مِن جمالها هذا. كان فستاني أسود قصيرًا عاريَ الكتفين، صدريته يزينها خرز أسود لامع ويتوسطها شَق شيطاني؛ أمّا جزمتي .. فكانت لامعة ذات حزام يلتف حول كاحلي … بعد أن أجلستني تسنيم فوق الكرسي، سأل المصفّف عن أية تصفيفة أود أن يصنعها بشَعري المُبتل لكني لم أعرف بما أجيب، فردّت تسنيم بعد تفكير.
“فوكاريه يا مصطفى!”.
فسألتها : “ده غير الكاريه؟!”.
نظرتْ إلى أعلى وهي تقول “ممم” ثم حولت نظرها إليّ وقالت بنبرة مُغوية : “آه غيره، هيبقى متدرج كده ويا سلام لما الهوا يطيره!”.
“هقص شعري؟!”.
“ثقي فيا!”.
نظرتُ إلي شَعري في مرآة التسريحة ثم قلت لها مُستسلمة بينما لا أزال محدقة فيه : “اوكي ماشي”.
حينما تسمح الفتاة بقصّ شَعرها، فأعلم أن الأمر يستحق هذا.

***

في “شي جابي” لم يكن الأمر كما تخيلته في الطريق إلى هناك، المكان به بار، الأمر الذي أثار قلقي؛ ماذا سأفعل إنْ دعوني لشرب الخمر؟ كما أن الإضاءة الخافتة بالمكان جعلتني متوجسة أكثر. بالقرب من سقف الصالة تَجَمع دخان سجائر الشبان بكثافة، وكانت ضحكاتهم مثله عالية ومُزعجة، بالطبع تفاجَئوا من وجودي إلا أنهم سرعان ما سعِدوا به، راودني فجأة إحساس بأني لست في المكان المناسب؛ وبالرغم من جهلي بما سيحدث الليلة، إلا أنه انتابني شعور بأن عواقبه لن تكون محمودة أبدًا. فكرت في التحجج بأي شيء ومغادرة المكان، لن يمنعني أحد، لكن حينما استويت واقفة عازمة على الرحيل، كان باسِم قد حضر. دخلَ يعانقه اثنان من شلته، كان الثلاثة يضحكون بصوت عال، بمجرد دخولهم صدرت من سماعات سوداء ضخمة موسيقى صاخبة.

بدأ الجميع في السير تجاه باب الصالة مهللين، وأخذ الشبان يعانقونه بشدة ويلحقون أمنياتِهم له بشتائمَ من تلك التي لا يملون التفوه بها، أمّا الفتيات فكُن يسلِّمن عليه ويمنحنه ما اشترين من هدايا. كانت وجوههن البيضاء تطغي عليها حمرة الحياء بمجرد الوقوف أمامَه… ملعون هو خجل الأنثى .. أخذتُ أفكر : أنا لم أحضِر هدية معي. قد أحتج بأنني كنت ببيت تسنيم ولم أجد وقتًا لشراء شيء، لكنه عذرٌ أقبح من ذنب، ربما أضع له ورقة من فئة خمسين جنيهًا في ظرف وأمنحه إياه؟ لكنه مبلغ كبير! سرت إليه مبتهجة، فراح يحدّق إليّ بعينيْن ضيقتين، وبالأخير صاح وقد اتسعت عيناه.
“هدير!.. يخرب بيتك ايه اللي عملاه في نفسك ده؟!”.
“كل سنة وانت طيب”.
“وانتي طيبة… طب مستر حسين قولتولوا يا جماعة؟”
قال مازحًا فضحك الجميع، أمّا أنا فشعرت بغصة في حلقي.
ارتفع صوت الأغاني الصاخبة وتجمّع الكل في وسط القاعة يرقصون، كانوا يضحكون بصوت عالٍ وينفعلون مع الأغاني بشكل جنوني، وجلست أنا على البار أراقبهم. كنت سعيدة بهذا الكرسي المُرتفع الذي يجلس عليه الممثلون في الأفلام، ولكني بالطبع لن أشرب الخمر مثلهم… وكأنه تذكّر وجودي فجأة، رأيته يغادر أرضية الرقص المضاءة ويأتي لينضم إليّ هنا، حيث الظلام.
“على فكرة وشِّك أجمل من غير الحجاب”.
خجلت من نظرات إعجابه فابتسمتُ.
أشاح بوجهه وخاطبَ الساقي بجملة لم أتبينها لكني خمنت أنه اسم ما سيشربه، ثم نظر إليّ وقال : “شي جابي ده كان أول مطعم بيتزا يفتح في اسكندرية!”.
“يااااه! هو يعني ايه شي جابي اصلا؟!”.
كان الساقي قد بدأ يسكب له شرابًا بلون البول حينما بدأ يجيب على سؤالي : “شي جابي جملة فرنساوي معناها عند جابي، جابي كان واحد من الشوام اللي قاعدين في اسكندرية واشترى المحل أصلًا من صحابه اليونانيين”.
“قولتلي، وانت عرفت الكلام ده منين؟!”
أمسك بالكوب ثم نظر إليّ وقال : “انتي طبعا مابتشربيش”.
لم أعرف بما أجيب، فصمتُّ وشعرت بأني ضعيفة أمامَه.
رشفَ قليلًا من الشراب ثم أردف : “أبويا عنده كافيه هنا في شارع فؤاد!”.
اشتد غيظي وشعرت بمدى ضآلتي إلى جانبه، فشرد ذهني وأخذت أفكر حتى جاءتني الفكرة.
تركت كرسيّ المرتفِع وذهبت إلى مسئول الـ “دي جي” وطلبت منه تشغيل أغنيتي المفضلة، سرت إلى وسط القاعة حيث كانوا هُم مندمجين في الرقص، ووقفت في وسطهم ثابتة، فتوقفوا متعجبين من سلوكي ومن توقف الأغنية التي كانوا يرقصون عليها. بدأت أغنيتي التي طلبتها تصدر عن السماعات الكبيرة الموجودة بالمكان، فخلعت حذائي وألقيت به بعيدًا، وحينما هممت بالرقص توقفتُ، إذ فوجئت بشاب منهم يأتي تجاهي ممسكًا بمائدة مستديرة ويضعها أمامي، بعدها ضرب بكفه عليها وصاح بنبرة كلها حماس : “اطلعي هنا”.
“مش نظرة وابتسامة… مش كلمة والسلامة”.
“دي حاجات كتيرة ياما… لو ناوي تحبني”.
أحضروا كرسيًا فصعدت عليه إلى المائدة، فوقَها استأنفت الرقص؛ بدأت أولًا بتحريك خصري يمينًا ويسارًا ببطء بينما أرفع ذراعيّ وأقبض يديّ، مع الاستمرار في تحريك وسطي ولكن بشكل أسرع هذه المرة. رحت أمرّر جانب إحدى يدَيّ على شَعري، بينما أطلق الأخرى بعيدًا بمحاذاة خصري، كررت ذلك عدة مرات مع تغيير اليد في كل مرة…
أثناء رقصي كنت أتحرك فوق المائدة يمينًا ويسارًا في انسيابية، اتجهت بناظري أراقبه فوجدته جالسًا فوق كرسيه يرشف من كوبه ويحملق فيّ، على وجهه ابتسامة طفيفة، فازدادَ غيظي؛ رحت أحرّك نهديّ يمينًا ويسارًا شاخصة له ناطقة بكلمات الأغنية : ايه يعني قلبك حنين… ايه يعني رمشك يجنن”. وليتُ ظهري له ووضعت جانب يدي اليمنى على شعري وذراعي الأيسر فوق بطني، ثم رحت أدفع بمؤخرتي للخلف بشكل محموم… انتهت الأغنية فأخذ الجميع يصفق بحرارة، نظرت إلى الكرسي الذي كان يجلس عليه فوجدته شاغرًا، قلّبت نظري في الواقفين أسفلي فوجدته وسطهم رافعًا ذراعه لي.

***

قضت شلة باسِم بقيةَ الوقت يتعلمون مني حركات الرقص الخليجي، ذلك أثناء تناولنا البيتزا بفاكهة البحر، وكأن الحفل خاص بنا نحن الاثنيْن فقط، جلس هو بجانبي، وظل طوال الوقت يروي لي قصصًا طريفة عنه وعن أصدقائه بينما يشرب البيرة، كان حقًا حفلًا رائعًا، إلا أن شيئًا غريبًا حدث هذه الليلة.
لا أستطيع القول بأني صرت مثلهم، فأنا كما أنا، مختلفة عنهم، إلا أنه بعد أن انتهى كل شيء، وبينما نحن خارجون مِن شي جابي، شعرت بأن اختلافي هذا صار جذابًا لهم، شعرت بامتلاكي شيئًا لا يمتلكونه هُم. أمر آخر أغرب حدثَ، في لحظة لا أعرفها، زال انجذابي لباسِم .. بل بدا الأمر وكأنه لم يكن موجودًا من الأساس… ما لي رافضة ما كنت ألتمسه منذ ساعات؟! وكيف أجد الراحة وأنا لست بالقرب منه؟! أشعر وكأن هدير أخرى، غير التي أعرفها، هي مَن خرجتْ مِن شي جابي، إلا أن هدير الجديدة يبدو عليها الثقة بالنفس والسعادة… يا ليت كل ليالي عمري تكون كهذه الليلة.
أخرَجَني مِن شرودي نسيم بارد داعَب خصلات شعري، وسرتْ على إثره رجفة في جسدي، انتبهت ونظرت حولي، فإذ الشارع قد خلا فجأة من الناس.
على نحوٍ مرعب، شعرتُ بأنني عرضة للاغتصاب .. ودون النظر إلى ساعتي، أدركتُ أن وقت العودة قد حان.


* من مجموعة "نشيد الجنرال" لمؤلفها مارك أمجد وصدرت عن دار الثقافة الجديدة 2016، وحازت على جائزة ساويرس عام 2017.


* نقلا عن:
شي جابي قصة قصيرة بالتزامن مع تحويلها لفيلم سينمائي - المحطة / تأخذك إلى أعماق الفكر

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى