بانياسيس - كتاب الأزل - قصة قصيرة

لا يمكنك ان تلتقي بذي لسان عذب كهذا العجوز ؛ كانت عيناه رماديتين بنقطتين من المياه البيضاء وأنفه مقوس كظهره ، لديه شعيرات بيضاء خفيفة فوق صلعته المكرمشة. لقد أوقف سيارته ليقل عشرينية تنتظر زبونها في الشارع ، وكان على برغوث أن يحشر أنفه فاقتحم السيارة وجلس في المقعد الامامي مناديا الفتاة التي لم تكن قد وصلت بعد. نظر اليه العجوز نظرات ضاحكة وقال:
- ليست قريبتك؟
- لا..
- لا بأس..
ثم ابتسم عن فم بلثة حمراء وقاد سيارته التي فاحت بعطور الفتاة الجالسة في الخلف.
أصاب القلق الفتاة حينما وقف برغوث عارضا بينها وبين ليلة مجزية بالنقود. فظلت صامتة إلى أن قالت بعد دقيقتين:
- سأنزل هنا..
أوقف العجوز السيارة ولم يلتفت وراءه حتى سمع صوت إقفال الباب فحرك سيارته ببطء.
قال:
- أين تذهب؟
أجابه برغوث:
- إلى أي مكان...
قال العجوز:
- إذا كان لأي مكان فلماذا لا تبقى في مكانك ما دامت كل الأمكنة سيان لديك؟..
- ليس كذلك..الأمكنة ليست سيان لدي..لكل مكان قيمته الخاصة..
قال العجوز بعد صمت قصير:
- تبدو حكمة إلى حد ما...
- هي كذلك بالفعل..
استمر العجوز في قيادة هادئة وهو لا ينظر أبدا إلى مرآتي السيارة الجانبيتين.
- هل أنت متأكد من قيمة الأمكنة؟
- بالتأكيد فأنا أشعر بها ولا أعدها..
- جيد أنك لست عدميا...
-...لا يمكنني أن اكون عدميا..
- هذا طيب يا بني..
مضت السيارة بروية وهدوء لمسافة طويلة وكان الرجلان ينظران الى الأفق بصمت. ثم انعطفت السيارة عبر طريق صحراوي فقال العجوز:
- يمكنك أن تستمر معي حتى النهاية لست منزعجا من مصاحبتك لي..
- وأنا كذلك لست منزعجا...
قال العجوز:
- لكنك كنت صامتا طوال هذه المدة..
- كنت أفكر .. أفكر فقط..
- حسنا.. يمكننا قطع الطريق بتبادل ما يشغل أذهاننا..
قال برغوث:
- افكار مشتتة وغير مترابطة وربما تكون مزعجة ..
-ليس أكثر ازعاجا من أفكاري...
صمت برغوث قليلا وتنفس بصوت مسموع:
- حسنا انا أفكر في أشياء مختلفة..دعني أتذكر .. من أين تأتي موسيقى الأفلام الهندية حينما يغني الحبيب والحبيبة في الوديان والسهول الخضراء الخالية من البشر؟ لماذا يصدق الناس هذه السذاجة.
التفت الى العجوز الذي نظر الى البعيد وغمم:
- تريد اجابتي؟
- بالتأكيد..
- تأتي الموسيقى من الحب .. اعتقد أن الحب يتجاوز المنطق وهكذا لا يطلب الناس المنطق عندما يعيشون تلك اللحظة مع الفيلم...
هز برغوث رأسه متفهما ثم صمت الرجلان. ومضت السيارة في طريقها برويتها وكأنما ليس للعجوز قدم يضغط بها دواسة البنزين.
قال برغوث:
- سؤال أخر ورد لذهني..
عدل جلسته مجانبا ومواجها العجوز قليلا ثم قال:
- بماذا كنت تفكر؟
صمت العجوز ، ثم طال صمته ، فقال برغوث:
- أنت من طلب الحديث عن الأفكار..
قال العجوز:
- أريد أن أكون صادقا .. ولكن الصدق ليس مريحا دائما..
قال برغوث:
- كن صادقا فالطريق أمامنا طويل جدا على ما يبدو .. أليس كذلك... عموما حتى لو كنت تفكر في الشذوذ الجنسي او تعاطي الهيروين فهذه ليست مواضيع مقلقة بالنسبة لي.
قال العجوز:
- صحيح..
-إذن ..في أي شيء تفكر..
القى العجوز التفاتة سريعة نحو برغوث ثم عاد ليتابع الطريق قائلا:
- أفكر في قتل ابني الوحيد..
اتسعت عينا برغوث دهشة وقال برعب:
-ماذا؟..
اكفهر وجه العجوز وقال:
- قلت لك انك لن تكون مرتاحا ..
ألقى برغوث بظهره على مقعده ونظر عبر زجاج السيارة إلى اللا شيء. ثم قال بصوت خفيض:
- لا يتعلق الأمر بعدم الارتياح وإنما بالدهشة...
ثم أضاف:
- عند أقرب مدينة سأضطر لإبلاغ الشرطة عن نيتك في اقتراف جريمة قتل فهذا واجب قانوني ملقى على عاتقي..
ضحك العجوز وانفتح فمه ذو اللثة الحمراء . فقال برغوث:
- لماذا تضحك؟
قال العجوز:
- حسنا يبدو أنني محتاج لأن أسرد لك التفاصيل ..فالموضوع يبدو معقدا قليلا...
- حسنا..هات التفاصيل.
قال العجوز:
- هل تدخن؟
رفع برغوث جنبه قليلا وأدخل يده في جيبه مخرجا علبة سجائر وقداحة. أشعل واحدة وقدمها للعجوز.
قال العجوز:
- ألن تدخن؟
قال برغوث:
- أنا لا أدخن..
- ولماذا تحمل علبة سجائر معك؟
أعاد برغوث العلبة والقداحة الى جيبه وقال:
- لسبب غبي جدا.. لا أريد الحديث عنه...
قال العجوز:
- لقد التزمنا بالصدق..
هم برغوث بالاجابة لكن العجوز قاطعه قائلا:
- لكن لا بأس...أعرف السبب سأخبرك أنا به ولكن بعد أن أذكر لك تفاصيل رغبتي في قتل ولدي الوحيد...
- آه ..تبدو منجما الآن..حسنا .. دعني أسمع روايتك..
قال العجوز:
- إن روايتي ليست طويلة ولكنها في كل الأحوال كابوسية ...
-أها.. يسعدني أنها ليست طويلة كما يسعدني أنها مشوقة ..
- جيد يا بني.. هذا يشجعني على البحث عن بداية تثير انتباهك كما يفعل الروائيون العظماء..ولقد بحث عن هذه البداية لكنني فشلت حقا في ايجاد بداية أقل كآبة من أن تشاهد أبنك يحتضر أمامك... بكل بساطة أخذ يموت أمام ناظري .. لقد بدا لي حينها كفأر تجارب رمادي ذاق كل الأمصال ليكتشفوا دواء لمرضه لكنهم فشلوا... كل أموالي كانت مبسوطة لعلاجه ومنحه بضع ساعات أخرى من الحياة لكنها لم تفعل شيئا... وقفت أمام جثته دون أن أزرف دمعة واحدة .. كان وجهه أزرقا شاحبا وشفتاه بيضاوان ... كان كشيء .. كشيء .. هل تفهمني..كان كشيء..
القى برغوث نظرة الى عيني العجوز المحمرتين وقال:
- نعم .. كشيء .. ككل شيء...
هز العجوز رأسه بصمت....
- لقد مضى ببساطة .. ومضت بضعة أسابيع ظننت فيها أنني تجاوزت تلك اللحظة الانطولوجية .. لكن بعدها بدأ عهد العالم الكابوسي...
نفض العجوز رأسه يمينا ويسارا ثم قال:
- تحولت كل أحلامي إلى كوابيس.. أراه وأتحدث اليه واتشاجر معه وأحيانا أضربه ..وفي منتصف الكابوس اتذكر أنه مات .. أصيح..من هذا إذن؟ ..
ارتفعت انفاس العجوز وازداد ضغطه على دواسة البنزين..
- سنوات وأنا أراه حيا في الكوابيس ثم أكتشف وأنا في منتصف الكابوس انه مات فأسال ذات السؤال: أيهما حقيقي هل مات ام لم يمت؟ هل كنت في كابوس أم أنا الآن في كابوس؟ أيهما الحقيقة..إنه مات أم لم يمت؟ وحين أستيقظ أجد العالم من حولي ساكنا وملابسي مبللة بالعرق ... لا يمكنك تخيل أن تتحدث مع انسان ميت وتعلم أنه مات ولكنه لا يعلم أنه مات...
صمت العجوز فغمغم برغوث:
- هذا كابوس عجيب..
تشجع الرجل وأضاف:
- سنوات وحزني يتجدد في كل ساعات النوم ثم استيقظ ومزاجي مضطرب ... ثم يتجدد الكابوس كل ليلة حتى بت أكره النوم...
خارج السيارة كانت هناك بضعة شجيرات شاحبة مغروزة في التراب الأصفر ، وكانت أشعة الشمس الحارة تنفذ من زجاج السيارة ... فأنزل العجوز مظلة الزجاج الأمامي لتحول بينه وبين اشعة الشمس ثم قال:
- يمكنك أن تفعل ذلك...
أنزل برغوث المظلة القصيرة لتحجب عنه الشمس وزاد العجوز من شدة التكييف ثم قال:
- البارحة فقط جاءتني الإشارة للغرض من تلك الكوابيس..
- كيف ذلك؟..
-البارحة وجدت نفسي داخل ناقلة ركاب متوسطة الحجم .. وفي نفس الوقت كنت في قاعة رقص واسعة .. فرأيته... لا أعرف كيف كنت في مكانين في وقت واحد فأنت تعرف عالم الأحلام...
هز برغوث رأسه إيجابا..
- كنت أراه ممدا على فراش الموت .. كان ينظر لي بعينين تائهتين... فصحت لركاب الناقلة وأنا أبكي:
(لا أريد أن أراه.. ماذا أفعل..هذا لؤم شديد.. هذا تعذيب غير محتمل.. ماذا أفعل .. اخبروني ماذا أفعل؟)..
التفت جميع ركاب الناقلة نحوي بمافيهم السائق وقالوا بصوت واحد:
(اقتله..اقتله..اقتله)...
امتقع وجه العجوز واقترب من مقود السيارة برأسه...
- كيف اقتل شخصا مات بالفعل؟... كنت عاجزا عن ذلك داخل الكابوس.. أدركت حينها أن هناك وسيلة أخرى هنا .. هنا في عالم الواقع لقتل ابني الوحيد..قتله وحرق جثته وذرها في الرماد... وهكذا ينتهي الكابوس إلى الأبد...
مد العجوز يده وقال:
- اعطني سجارة من فضلك..
أخرج برغوث علبة السجائر وأشعل للعجوز لفافة فقال العجوز:
- كان إبني يفعل مثلك.. لم يكن يدخن لكنه يحمل علبة السجائر والقداحة ليعرض سجارة على الفتيات..أخبرني أن الفتاة التي تقبل أخذ سجارة منه منذ أول لقاء تعبر بذلك عن مرونتها العاطفية.. كانت تلك لعبته..
قال برغوث ضاحكا:
- اللعنة.. هذا هو السبب فعلا...
قهقه العجوز:
- لم أتوقف من أجل الفتاة يا برغوث... لقد توقفت من أجلك أنت...
صمت برغوث وتساءل عن كيفية معرفة الرجل لاسمه ، قال العجوز:
- افتح ذلك الدرج يا برغوث...
فتح برغوث الدرج فأمره العجوز باخراج لفافة صغيرة وفضها ففعل ورأى صورة فوتوغرافية صغيرة ، وحين قربها من عينيه رأى نفسه فيها...فقال بدهشة:
- من أين أتيت بها؟
ثم نظر الى العجوز ورأى بيده اليسرى مسدسا صغيرا .. قال العجوز:
- هذا ابني برغوث .. هذا برغوث...
قال برغوث بجزع:
- لن تقتلني أيها العجوز لهذا السبب السخيف...انا لست برغوث ابنك.. انا لدي والد مختلف...صحيح انني نشأت في ملجأ للقطاء لكن بالتأكيد لست أنت والدي وانا لست ابنك...إن اردت قتلي فعليك أن تاتني بدليل حاسم على أنني ابنك الذي تراه في كوابيسك...وحتى لو فعلت فلن اسمح لك بقتلي..
قال العجوز:
- لا احتاج لدليل ولا تحتاج لدليل.. إن كل واحد منا هو من يحدد حقيقة الأشياء يا برغوث...كل منا لديه حقيقته الخاصة...
قال برغوث بغضب:
- لكن..هذا غباء..انت مصاب بشيزوفرينيا فقط... صحيح أن هذه صورتي لكن هناك احتمالات كثيرة لأن تكون قد التقطتها أنت بغير وعي لتؤكد مبررات قتلك لي.. ثم..ثم من قال أنه بعد أن تقتلني سيختفي الكابوس عنك..ربما يزداد وحشية... ربما ستراني أنا وابنك أيضا في الكابوس... لا تكن أحمقا يا عجوز...
بكى العجوز وقال:
- من قال انني أرغب في قتلك...
- هذا المسدس الأسود الذي تحمله..
نفض العجوز رأسه وقال:
- أبدا...كل ما أريده هو أن انقل الكابوس إليك...
بدا الخوف على وجه برغوث وهو ينظر من حوله فلا يجد سوى الخلاء الشاسع .. يد العجوز نحيلة وضعيفة يمكنه اختطاف المسدس عنه بسرعة...
لكنه لم يكمل أفكاره فقد اطلق العجوز رصاصة على رأسه...وانحنى على المقود بعينين حمراوين فاهتزهت السيارة كشهقات السكران ثم توقفت..
ألقى برغوث نظرة على محتويات السيارة .. كانت نظيفة إلا من بضعة حبيبات من الرمال .. وخيط دماء يخرج من ثقب رأس الرجل متدفقا على المقود وأرضية المقعد..
هبط من السيارة فلفحه السموم ثم دار الى جهة الجثة وأخذ يجر جثة العجوز .. كانت الجثة تزداد ثقلا وهو يزداد ضعفا .. ورأى تجاعيد وجه العجوز تختفي .. وحين القاه في العراء بجهد جهيد ؛ عاد الى مقعد السيارة ثم ارتمى عليه لاهثا وعيناه مغمضتان .. ولوهلة تحول دماغه لخلاط من الذكريات...فدارت صور متداخلة لأشخاص وأماكن .. صور زملاء الملجأ.. الفتى المراهق الذي اغتصبه في سن الطفولة ... أول فتاة سخرت من حبه لها ... الفتيان الذين اجتمعوا عليه وضربوه .. مديره في العمل... الذين كانوا يشتمونه بابن الحرام... الخ ... ففتح عينيه هلعا...وحين مد يده ليدير مفتايح السيارة وجدها يدا شائخة معروقة ونحيلة .. القى نظرة على مرآة السيارة فوجد وجهه وقد تجعد متحولا لوجه رجل عجوز بائس...
حينها أخرج علبة السجائر وأشعل لفافة منها وأخذ يقود سيارته بروية وهو يدخن بصمت متشبعا بالحكمة الكاملة.مشاهدة المرفق 10941

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى