رضوان آدم - الحزين.. قصة قصيرة

أمي هي الشقيقة الكبرى للزوابع. يبرُد قلبها في الصيف، ويضحك في كل وقت. تحبس غضبها الموروث، في زنزانة ضيقة، خلف عينيها الحادتين. لما يهلّ طياب الخريف في سماء النجع، تدخل في زعل شديد. في خشوع مُبهر، تتوجه نحو سقيفة البيت، تخلع رأسها، وتكشف حجابها الأزرق للهواء. تتمتم بتعويذات لا تفهم معناها، وتختمها بسورة الفاتحة. تدعو ربها أن يقصر الشتاء بأي شكل، وأن يُرسل المطر، والتسهيل الرباني.
كانت الشمس عمودية على بطنها، المنتفخ. ستلد ذكرا، جميلا، أرهقها كثيرا في الأشهر الأخيرة. لم يكن هناك سبب منطقي، يدفع أمي إلى توقع أن مولودها سيتعرض لأذى، سوى نخلتنا المسكينة، التي ولدت، وتربت، وطرحت تحت بصرها، منذ عشرين عاما.
الفتوى التي روجها أتباع الشيخ محروس، في النجوع، كان لها مفعول السحر في نفس أمي. دعا إلى قطع نخيل البيوت من جذوره، "خلوا بالكم، هيكون فال شوم ع العيال والحوامل. والله ورسوله أعلم". كانت أمي حادة الذكاء، فشككت في الفتوى. كانت نخلتنا، ونخلات النجع، تطرح بلحا، تقرمشه الأسنان، يعجب أهل البندر، في سوق الأربعاء، دون غيره من ألوان البلح. كان الشيخ من أكبر تجار البلح الأصفر، وساءت أرباحه في العامين الأخيرين. رغم كل شيء، كان لفتوى الشيخ محروس، قوة القانون، وكانت أمي تلجأ إلى أحجبته كل شتاء.
رفض أبي، تنفيذ الفتوى. استشارته أمي، فأرسل لها جوابا بعلم الوصول، وطلب منها الصبر، الاحتماء بمقام جدهما عبد الرحيم القنائي، إذا اشتمت رائحة مكروه يحاول مهاجمة البيت، وإيذاء النخلة، بأي طريقة. انصاع الجميع، ورفرفت نخلتنا عاليا، عندما ولدتني أمي في منتصف يناير، فرحت، ودست شجاعتها لمواجهة مقبلة. أرقدتني إلى جوار جذع نخلتنا، وأرضعتني صدرها المرتعش، وقلقها المكتوم، من توابع عصيان الفتوى. عندما طاب بلحنا، وانتشر النبأ في النجع، أُغلقت النسوة البيوت، بعد أن سمعن أن الشيخ محروس، جهز حجابا، فيه لعنة ستضربني، وتُركع أمي. سيحدث هذا عندما تغرب الشمس، في أي يوم من هذا الشهر.
احتاطت أمي للأمر، أعادت ترتيب البيت، وحبست شقيقيّ الكبيرين، سليم وشعبان، ومنعتهما من الخروج إلى الشارع، حتى ينتهي الشتاء. تكره أمي البرد لأنه شباك كبير على جبل الحزن، تكتئب وتتجمد في الليل، واحتضنتني، وهي تبكي.
في الصباح التالي، امتلأ الشتاء غضبا على الطريق الزراعي، كان جائعا، ومتعطشا للانتقام، وهمجيا، أكل خالي الأكبر، وابنتيه في حادث سير. صرخت أمي، ودعت على الشيخ محروس، أخفتني في بطانية صوفية كبيرة، كانت كمن يبني سورا بيني وبين الشتاء "ابن الكلاب".

أبلغها أخي سليم بالخبر، وأنا راقد فوق حرف الدكة، كدت أسقط فوق الأرض، لكن سليم وضعني في نقطة آمنة فوق الدكة، وسبني بصوت عال "اتكمد يا فقري في مِطرح". أغلقت أمي مداخل البيت، كي لا أسمع صراخ النسوة ذوات الأصوات العريضة، سمعتهن، واختبأت في نوم إجباري، كان شعبان يستعد لبدء نوبة مراقبتي، عندما خرج سليم وأمي، لاستقبال الموتى في بيت جدي.
عندما دخل الشتاء اللاحق، أنهيت عامي الثاني، وحلت الذكرى الأولى للفاجعة، كنت شاهدا على بقايا أمي، فقدت عقلها تقريبا، وراحت تصب لعناتها على النخلة التي كانت سببا في الخراب، لعنات الشيخ محروس، طاردتني، ولحقت بي بعد عام، منذ ولدت، لم أضحك ولا مرة كبقية الأطفال. بكت أمي، ووجهت هجومها على النخلة بدلا عن الشيخ، خمرت طينا في جردل بلاستيكي، وطبعت على حائط يجاورها، ويعلوني مباشرة، كف يدها اليمنى. لم تقتنع بمفعول خمس أصابع مسكينة، عكست الحائط، أنها مرتعشة. يدا أمي كبيرتان وعمْرانتان باللحم. قرأت الفاتحة، ورشت فوق رأسي ماء دافئا، ونطقت بكلام لم يصل أذني، واستراحت دقيقة. حبست أنا أنفاسي، فزعقت هي، وهزت النخلة بيديها:
ـ لازم الواكل أمه ده يضحك. فينك أمال يا سيدنا القناوي؟
وفرت أمي، وظيفة مناسبة لشقيقي الأكبر "سليم"، أعجبته في الليل والنهار. كان مسئولا عن مراقبة الأخبار غير السارة، وانتظار أوامر أمي. أرسلته إلى خالاتي، على أن لا يعود إلا وهن في ظل جلبابه البني الطويل. يسكن على بعد خمسة شوارع من بيتنا، لكنهن عودن أنوفهن على شم خطوات سليم قبل أن يتخطى عتبة البيت الأسمنتية.
وجدهن سليم جاهزات. لبسن البردة، ووربطن على أحذيتهن السوداء اللميع كأنهن يتجهزن لمعركة فاصلة. هرولن في شارعين، وفي ثلاثة شوارع، مشين في خطوات ثابتة، لكن حافظن على معدل سرعة أزيد من الاستدعاءات الفائتة. لم يعرفن بعد أن جثتي المزروعة قرب جذوع النخلة، هي ساحة اللقاء. يركزن أكثر في تحصيلهن وتجاربهن مع أمي. يعرفن أنها امرأة قاسية، وحادة في أحكامها على الأمور. صفات ورثتها من جدها، الذي كان قاضيا يحكم بين مجانين القرى والنجوع المتحاربة.
نفد صبر أمي. تأخر رسولها بشكل غريب. سيتعرض سليم لعقاب مضاعف لأن أمي أعلنت حالة الطوارئ، وارتدت ثلاثة جلابيب سود، فوق بعضها البعض. هاجمت النخلة، باتهامات بشعة، ودارت حولها، حتى كادت تدهسني بقدميها السريعتين. وصل سليم. لم تجلس خالاتي في صحن البيت، ولم تلتقطن أنفاسهن بعد. لم تكن هناك فرصة لأي نوع من الرفاهية. بسرعة البرق، صرخت فيهن، وأمرتهن أن يجدن حلا قبل غروب الشمس، حتى لو اضطررن لمهاجمة بيت "الكافر محروس". تعبت خالاتي من الوقفة، ولم يشتكين. يكرهن الأخريات، هذا الشيخ الطماع، الذي أصابهن بالغم، وأجبرهن على تلطيخ وجوهن بالطين. بكين أكثر من أمي. تصرفن بطريقة ذكية ومهذبة، دفعت أمي إلى الانتباه. طلبت منهن أن يرحن أقدامهن. بطرف عينها اليمنى، سحبتهن إلى مصطبة عريضة، فوقها حصير من البوص الناعم.
اختفى سليم عن الأنظار. لم أره عندما دخلت خالاتي في نوبة بكاء جديدة. شعرت أمي براحة، فليست وحيدة في خطوط معركة الشتاء. كانت تراقبهن. دربتهن مثلي على جمل الحزن الصاعدة والهابطة. هي التي ربتهن بعد وفاة جدتي. كانت تفتل ضفائرهن الدائرية، بعد أن ينتهين من اللعب، فوق الجسر الشرقي.
علاقة أمي بخالاتي متينة، قبل ولادتي بسنين طويلة. وبدا أنها أكثر ثراء وتناغما في المواقف الصعبة. ضربت أمي على وجهها مرتين، فقامت خالاتي من مكانهن بطريقة متوالية، ومُجربة. لطخن أياديهن بالطين، ولطعنها فوق الحائط الذي لم يحجب اللعنة. وقعت من الحائط المُرهق، كرات طينية صغيرة، اقتربت من قدمي اليمنى، ولم تلمسها.
أنظر إلى أمي، وتنظر إليّ. لا تعرف الشخص الغريب الراقد تحت قدميها. نظرت خالاتي إليها في قلق. لم أضحك، ولم أحرك ساكنا. عندما وضعت أمي رأسها فوق صدرها، قررت خالاتي المبادرة. بلعن ريقهن الناشف، واقتربن مني. كانت أمي تراقبهن، وفي قلبها أمل. وقفن في صف واحد، وأقدمهن متراصة، ومتلامسة. نظرن إلى السماء، وركعن، ثم عدن إلى وقفتهن الأولى. جلسن معا وشكلن دائرة حولي. ضحكن بعفوية فوق رأسي. أظنهن كن يعتقدن أنني سأضحك مثلهن. عندما كررن الأمر، فقدن قدرتهن على إقناعي. كان النشاز واضحا. كانت أمي تغلي الشاي، وتطحن قرطاس المدغة. بلت خنصرها في المسحوق، ومررته داخل فمها، كمن تفرّش أسنانها. ارتحت في سري راحة عريضة، ونمت غير قلق على المرأة التي هدأ حزنها نسبيا. أيقظني أذان العصر، الداخل من الشباك. اهتز السعف، فخفت أن تصرخ أمي. لم يصل خالاتي كل قلقي، رغم أنهن ثبتن أعينهن في فترة طويلة. لحسن حظي كنت متفرجا، ورأسي كان مشغولا، بعد كمية الهواء الذي أسقطته النخلة فوقنا. كل هذا لم يشفع لنخلتنا عند المرأة التي تبصق بقايا التبغ المالح. كانت أمي تقيم جلساتها وصلواتها إلى جوار النخلة، وتحبها حبا عميقا.
خرجت خالاتي، ورءوسهن وارمة، "الصباح رباح، عاد، يا خيتّي". خرج سليم لتوصيلهن، وأكملت أنا نومي. كان يختبئ وراء الحائط، يسجل كل ما يجري، ليُبدي ملاحظاته عن الجِلسة، إذا طلبت أمي رأيه. رقدت أمي إلى جواري، واحتضنتني. لا تنام أمي في الشتاء. تضربها الكوابيس، وتقوم في الليل، تعاتب النجوم، التي هربت راحة بالها، وتريد أن تسترجعها الآن.
موقعي تحت النخلة، جعلني أراقب الليالي الصعبة من زاوية واسعة. كانت تُحايليني، وعيناها تضحكان في وجهي، عندما تُرضعني، فلا أضحك. قررت أن تفطمني عقابا لي. ستفطمني نهاية هذا الشهر. أسقطت رأسها فوق الوسادة القطنية، ورمت قرطاس المدغة بعيدا.
عندما تشرب أمي اللبن المخلوط في البلح، أعرف أنها تجهز نفسها لشيء كبير. الكوب الكبير، أوقف قلقها، ورأيتها تلبس بُردتها السميكة، وتُخفي داخلها، سكينا حامية. لن تجد خالاتي، حلا لمأساتها، اليوم أو غدا. اللبن يدفعها إلى الصمت، والبلح يدعم رغبتها في العراك، "رايحة للشيخ محروس!". لم تسمعني أمي، لأنها كانت تراجع خطة القتل، وترتدي حذءها الجلدي، الذي استقر في قدميها بسرعة. لعنت الشيخ الذي سيموت اليوم على يديها.
قبل أن توقظ سليم ليتولى نوبة حراستي، قبلت وجنتيّ، ونفضت الغطاء عني، واحتضنتني وهي تبكي، قبل أن تتسمر في مكانها. اهتزت النخلة، فأسقطت بلحتين صفراوين، بالقرب مني. ارتعشت أمي من المفاجأة، وأسندت السكين فوق الحائط، وأطلقت زغرودة، أرقصت النخلة، وقربتني من البلحتين. زحفت لأول مرة منذ ولادتي. خلعت أمي ثوبها الأسود، وتركت خالاتي، يرتجلن زغرودات جماعية غريبة، أعجبتني. بينما كانت أمي تراقبني، وأنا أجمع البلح من الأرض، كافأت سليم وشعبان، ببريزة ورقية، وألواح سمسمية.


------------------------------
قصّة من متوالية قصصية تحت الطبع .

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى