فاطمة عبد الحميد - وحيدًا‭ ‬كإبهام

كَبُرَ‭ ‬في‭ ‬بيت‭ ‬لا‭ ‬أحد‭ ‬يُعلّم‭ ‬فيه‭ ‬أحدًا‭… ‬فقط‭ ‬يتعلم‭ ‬الصواب‭ ‬والخطأ‭ ‬بالممارسة،‭ ‬ومن‭ ‬خلال‭ ‬مراقبته‭ ‬للآخرين،‭ ‬وبالطريقة‭ ‬التي‭ ‬يُحسّن‭ ‬له‭ ‬خياله‭ ‬الأشياء‭ ‬من‭ ‬حوله،‭ ‬لتبدو‭ ‬بصورة‭ ‬أجمل‭. ‬أحيانًا‭ ‬يرى‭ ‬السكون‭ ‬أفضل‭ ‬من‭ ‬الحركة،‭ ‬فيبدو‭ ‬متجمدًا‭ ‬في‭ ‬مكانه،‭ ‬وفي‭ ‬أحيان‭ ‬أخرى‭ ‬يرى‭ ‬في‭ ‬كل‭ ‬جُرف‭ ‬حماسة‭ ‬مكثفة،‭ ‬فيتخذ‭ ‬من‭ ‬الحواف‭ ‬الخطرة‭ ‬مكانًا‭ ‬آمنًا‭ ‬له‭. ‬تباينت‭ ‬نسبة‭ ‬تقييم‭ ‬ذكائه‭ ‬في‭ ‬أوساط‭ ‬معلميه،‭ ‬فمنهم‭ ‬من‭ ‬رآه‭ ‬ذكيًّا،‭ ‬وبالطبع‭ ‬هناك‭ ‬من‭ ‬وسمه‭ ‬بالتخلف‭ ‬العقلي‭ ‬الحاد‭. ‬

جدٌّ‭ ‬وجدةٌ‭ ‬هما‭ ‬الأكثر‭ ‬اصطدامًا‭ ‬بالأبواب،‭ ‬ونسيانًا‭ ‬لموعد‭ ‬ذهاب‭ ‬الحفيد‭ ‬للمدرسة؛‭ ‬لأنهما‭ ‬يقضيان‭ ‬نصف‭ ‬يومهما‭ ‬نائمين،‭ ‬ونصفه‭ ‬الآخر‭ ‬في‭ ‬محاولة‭ ‬مستعجلة‭ ‬لتذكير‭ ‬بعضهما‭ ‬بقصص،‭ ‬يبدو‭ ‬محوها‭ ‬أسهل‭ ‬على‭ ‬الذاكرة‭ ‬من‭ ‬استرجاعها‭. ‬أحصى‭ ‬الحفيد‭ ‬الفروق‭ ‬الشاهقة‭ ‬بين‭ ‬الجدين‭ ‬في‭ ‬لحظات‭ ‬نومهما‭ ‬الكثيرة،‭ ‬ولم‭ ‬يفته‭ ‬تمييز‭ ‬الأمر‭ ‬الوحيد‭ ‬المشترك‭ ‬بينهما،‭ ‬لحظة‭ ‬استيقاظهما‭ ‬في‭ ‬أي‭ ‬وقت‭ ‬من‭ ‬ساعات‭ ‬النهار‭ ‬الطويل،‭ ‬ألا‭ ‬وهو‭ ‬قولهما‭ ‬له‭ ‬العبارة‭ ‬نفسها‭ ‬في‭ ‬كل‭ ‬مرة،‭ ‬ولكن‭ ‬بدرجات‭ ‬تعجب‭ ‬متفاوتة‭: ‬‮«‬لِمَ‭ ‬لمْ‭ ‬تَنَمْ‭ ‬بعدُ‭ ‬أيها‭ ‬الصغير؟‮»‬‭. ‬

مساء‭ ‬ذلك‭ ‬اليوم،‭ ‬وبينما‭ ‬أصابع‭ ‬الجدة‭ ‬مرتخية‭ ‬فوق‭ ‬إناء‭ ‬تنخل‭ ‬فيه‭ ‬بعض‭ ‬الدقيق،‭ ‬برز‭ ‬لوهلة‭ ‬من‭ ‬تحت‭ ‬أصابعها‭ ‬بعض‭ ‬السوس‭. ‬أطل‭ ‬بسواده‭ ‬اللامع،‭ ‬قبل‭ ‬أن‭ ‬يعود‭ ‬ليختفي‭ ‬في‭ ‬أعماق‭ ‬البياض‭ ‬كذاكرتها‭. ‬حينها‭ ‬تلفتتْ‭ ‬بفزع‭ ‬وكأن‭ ‬الغرفة‭ ‬تضيق‭ ‬بها،‭ ‬وهي‭ ‬تسأل،‭ ‬بصوت‭ ‬يشارف‭ ‬على‭ ‬البكاء،‭ ‬عن‭ ‬ابنها‭ ‬المتوفى‭ ‬منذ‭ ‬ثلاثة‭ ‬أعوام‭:‬‮«‬‭ ‬أين‭ ‬سعد؟‭ ‬سعد‭ … ‬سعد‭ !!‬‮»‬‭. ‬لم‭ ‬يجبها‭ ‬العجوز‭ ‬فشفتاه‭ ‬تصليان‭ ‬باتجاه‭ ‬السقف،‭ ‬لكن‭ ‬الحفيد‭ ‬الذي‭ ‬يخطئ‭ ‬في‭ ‬تهجِّي‭ ‬اسمه،‭ ‬قام‭ ‬إليها‭ ‬ملتقطًا‭ ‬في‭ ‬طريقه‭ ‬غترة‭ ‬لا‭ ‬يرتديها‭ ‬جده‭ ‬إلا‭ ‬في‭ ‬صلاة‭ ‬الجمعة‭. ‬وقف‭ ‬بين‭ ‬فخذيها،‭ ‬اللذين‭ ‬يعانيان‭ ‬غيابًا‭ ‬نسبيًّا‭ ‬للحم،‭ ‬كإبهام‭ ‬لطيف‭ ‬برأس‭ ‬موازية‭ ‬لرأسها،‭ ‬ثم‭ ‬رفع‭ ‬يده‭ ‬ورمى‭ ‬‮«‬بالغترة‮»‬‭ ‬بشكل‭ ‬عشوائي‭ ‬ومائل‭ ‬فوق‭ ‬رأسه،‭ ‬ليختفي‭ ‬معظم‭ ‬وجهه‭ ‬تحتها،‭ ‬وهو‭ ‬يخرج‭ ‬صوتًا‭ ‬يظنه‭ ‬عميقًا،‭ ‬ليبدو‭ ‬أكثر‭ ‬رجولة‭… ‬ألقت‭ ‬الجدة‭ ‬بنظرة‭ ‬مشجعة‭ ‬للحفيد‭ ‬الرجل،‭ ‬بينما‭ ‬تعابير‭ ‬وجهها،‭ ‬تتبدل‭ ‬كانفراجة‭ ‬زرقاء‭ ‬في‭ ‬سماء‭ ‬غائمة‭.‬


فاطمة عبد الحميد

* نقلا عن:
ثلاث قصص | مجلة الفيصل

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى