أدب مغربي قديم سعيدة العلمي - أبو العباس أحمد بن محمد الصنهاجي الأندلسي الشهير بالدقون ومخطوطه بداية التعريف في شرح شواهد الشريف: نظرات في حياته وآثاره

وصد " أبو العباس الدقون" احد أعلام الاندلس المتأخرين نزح عن غرناطة في أيامها الأخيرة واستوطن مدينة "فاس"، فلقد شاء له القدر أن يوجد في فترة حرجة من تاريخ المغرب والأندلس، وان يعاين سقوط آخر معقل للمسلمين بالأندلس (1) كما عاين نهاية دولة وبداية اخرى بالمغرب(2) مع ما صاحب ذلك من فتن، واضطرا بات واحتلال للواطئ المغربية (3)".
" ولا خفاء بما كان لملوك الإسلام، والمسلمين بالأندلس، والعدوة على النصارى–دمرهم الله-من الاستطالة والغلبة، حتى وقع التخاذل، والتدابر، فانعكس الأمر...وذلك لاجتهادهم في وقوع الافتراق بين المسلمين، وتضريبهم بالمكر والخديعة بين ملوك الجزيرة وبين حماتها في الفتن المبيرة"(4)
ولم تكن شخصية " احمد بن محمد بن يوسف" الصنهاجي الحميري الأندلسي الشهير" بالدقون" مغمورة، ولذلك تناقلت كتب التراجم الحديث عنه(5)، ونعتته بالفقيه الأستاذ المقرئ الرواية المحدث الشاعر الفذ الأوحد الخطيب " بجامع القرويين"
ونحن حين نبحث عن ملامح حياة هذا الرجل، خاصة في مراحلها الاولى نجد ان ما قدمته كتب التراجم يعد خافتا اذا اكتفت بالإشارة الى اخذه عن علم من أعلام الاندلس في القرن التاسع الهجري بغرناطة ، وهو "أبو عبد الله محمد المواق "(6) فقد اخذ عنه عدة كتب في انواع من العلوم، كما روى عنه فهرسته، دون تحديد لمولده ، ونشأته، وشيوخه في هذه المرحلة.

اندلسية الدقون:
ولعل أهم ما يجسد حنينه الى غرناطة وشوقه الى ربوعها تلك القصيدة التي نظمها لما غابت شمس الاسلام عنها، والتي ساقها المقري(7) في " أزهاره": حيث قال:" ولا بي العباس احمد الدقون-رحمه الله- قصيدة في ندب الجزيرة، تذكر النفوس بشجوها، فترسل العيون دموعها الغزيرة، افتتحها بنثر نصه:" الحمد لله على كل حال والصلاة والسلام على سيدنا محمد وعلى اله خير آل أما بعد فيقول خديم اهل الله تعالى عبيد الله:أحمد ابن محمد الأندلسي الشهير بالدقون": " انه لنا غابت شمس الجزيرة الخضراء باخذ الحمراء قرعت باب الندبة لما تقدم من الصحبة، فقلت ابياتا صدرت من قلب كئيب مبكية كل لبيب أريب..." الخ. فقوله: لما تقدم من الصحبة اشارة الى صحبتها بأهلها وسكنه بأرضها، كيف لا وهو القائل عنها:
وهل تعود ليال قد سلفن بها
ونحن لا نشتكي تنكيد ضلال
وهل يعود لها الدين الذي انست
به وقد ايست من فتح وإبدال(8)
كما وصف حال المسلمين " بغرناطة" عند نزول النصارى بمرج غرناطة فقال:
فاستوطن المرج لا ينوي الرحيل ولا
يخشى المغيث بسهل أو بأجيال
والمسلمون من الإضغان قد ملئت
قلوبهم وأبوا تسديد إخلال (9)
والحق مختلف والحمق والحمق مؤتلف
والكل منصرف عن نصر أبطال
وهم لديه كطير وهو ينتفه
والطير يرجو البقا مع كيد قتال(10)
فلقد صور الحالة التي كان عليها أهل الاندلس ورغبتهم في البقاء بها رغم كيد القتال، ورغم ما كانوا عليه من اختلاف، وفتن، ومن ضعف، وخذلان.
ولقد كان " للدقون" من كل ذلك رأي وهو النصيحة بالرحيل عن الاندلس، حيث قال:
والصيف ضيعت ما أملت من لبن
ففارق الجبح من التدخين نحال
وارتحل بنحلك نحو الغرب في كرم
من قبل وضعك في قيد وأغلال (11)
وهو في هذا يصور حاله،اذ تشهد المصادر برحليه مع والده عن غرناطة، وأخذه العلم عن شيوخ فاس، وهي المرحلة الثنية في حياة " الدقون"، فقد قرأ بالسبع عن الأستاذ:" محمد الحسين النجي" الشهير بالأستاذ الصغير(12) بجامع القرويين، ولما مات كمل على يد الشيخ " محمد ابن غازي العثماني " (13)، كما اخذ عن جماعة يطول ذكرهم.
فلقد وجد في مدينة فاس من الحفاوة لم يجده غيره من الأندلسيين فيما بعد اذ كان من قضاء الله وقدره، أنهم وصلوا مدينة فاس، أصاب الناس بها شدة عظيمة من الجوع، والغلاء، والطاعون، حتى فر الناس منها بسبب ذلك، ورجع بعض أهل الاندلس إلى بلادهم... وركنوا إلى الدجن(14).
ولعل " الدقون " رأى وسمع ما حل باهل الاندلس، ودين الإسلام بها تنتثر نجومه وتطمس معالمه، وأهله يكرهون على التنصر كرها، فدعا ولاة فاس إلى التلطف في معاملة المهاجرين، وإكرامهم، لان الدهر ذو دول فقال:
" فلنكرم الآن من ينزل بمنزلنا
فالدهر ذو دول فاسمع لأمثال
إخوانكم رفعوا ايدي الضراعة مع
كسر القلوب فلا يلقوا باخمال
وقل لوال تلطف في مغارمهم
بلط بك الله اذ تدعى بأجمال(15)
كما دعاهم الى رفع المغرم الثقيل عنهم، ورأى فيهم عبرة لأن الدهر ذو دول ويحذر من الخطر الذي يحدق بالمغرب ناصحا واعظا:
" يا أهل فاس أما في الغير موعظة
إن السعيد لموعوض بأمثال
فقل تعالوا الى نصح وتذكرة
فالأمر جد فلا تصحب لمكسال
كيف الحياة اذ الحيات قد نفحت
على السواحل اوهمت بإرسال(16)
ففي هذه الأبيات إشارة إلى ما كان عليه المغرب انئذ من احتلال لسواحله، وما كان عليه من ضعف، وانحلال، وصراعات متعددة داخلية وخارجية (17)، ورغما عن ذلك فان الحياة العلمية بالمدينة الادريسية لم تخب، وكانت دروس العلم والتعلم تؤخذ بجامعها، وكان للعلماء تآليف، ومناهج، واجازات، ومشاركة في مختلف مناحي المعرفة، ولقد كان " الدقون" احد هؤلاء، فكتب التراجم تحدثنا انه اخذ العلم بفاس، ودرس الفقه، وقواعد العربي،
بجامع القرويين، وكان مقرئا، وخطيبا، بهذه الجامعة خلفا لشيخه الفذ، علم الأعلام، الخطيب الاوحد " محمد ابن محمد بن غازي".
كما منح الدقون الاجازات لتلاميذه، نظم بعضها في أبيات، كقوله في " شقرون ابن أبي جمعة المغراوي الوهراني"(18):
" أجاز لك الدقون يا نجل سيدي
أبي جمعة والآل كل الذي روا
فحدث بما استدعيت فيه إجازة
وسلم على من خالف النفس والهوا(19)
وقوله في: ابي القاسم محمد بن إبراهيم المشترائي:"
" أشهدكم يا من حضر
أهل البداوي والحضر
إني اجزت قاسما
ابن الفقيه المعتبر (20)
وتذكر كتب التراجم ان وفاته كانت في مهل شعبان المعظم سنة إحدى وعشرين وتسعمائة بمدينة فاس، وخلفه في خطابة القرويين " محمد بن محمد بن غازي " ولد الشيخ " ابن غازي"-رحمه الله-
تآليفه:
شعره:
وصفه صاحب " سلوة الأنفاس"(21) بالشاعر، الفذ الأوحد، الا أن مصادر ترجمته لم تحفظ لنا سوى قصيدته في رثاء الاندلس (22)، والتي نقلنا بعض ابياتها في رصد مراحل من حياته، وبعض الاجازات النظمية التي اشرنا إليها سابقا، وفيما عدا ذلك فلا نعثر على شيء يجسد شاعرية " الدقون"، ويكشف لنا عن إبداعه الشعري.
اما نثره فلا تذكر له المصادر سوى كتابة:" بداية التعريف في شرح شواهد الشريف"، وهذا التأليف جاء في شرح شواهد " ابي عبد الله محمد بن احمد بن يوسف بن يعلى" الشهير بالشريف الحسني(23) من اهل فاس اشتغل بشرح الاجرومية حتى اكمله ،وسماه " بالدرة النحوية في شرح الاجرومية"(24)
ولكتاب الدرة شروح (25)، منها كتاب " بداية التعريف"، ولهذا الشرح عدة نســـــخ(26) خطية توجد في خزائن متعددة برحاب المغرب، وقد عقدنا الامل على خزائن متعددة برحاب المغرب، وقد عقدنا الامل لعى تحقيقه واخراجه بعد أن قابلنا بين نسخه، وقد اعتمدنا في هذه الدراسة" نسخة القرويين" لوضوحها وقلة خرومها.
سبب تأليف بداية التعريف:
ويذكر لنا المؤلف سبب تأليفه لهذا الشرح فيقول:
"وبعد...أيها الأخ اللأصفي، الخليل الاوفى، فاني اردت ان أطلعك على أنموذج حسن التصنيف، يشتمل على شواهد سيدي الشريف، لما رأيت من اعتناء اهل العصر به، واعتصامهم في حل الفاظ الجرومية المباركة بسببه، ولعمري انه من احسن ما ألف، ومن انفع ما في فنه صنف، لكن أكثرهم غير عارف بما فيه من الشواهد، وما في طيها من النكث والفوائد، فشمرت عن ساعد الاجتهاد لتحصيلها، وسالت العون من رب العباد لتكميلها"(27)
فاعتصام اهل العصر بهذا الشرح، وما فيه من الشواهد، وما في طيها من الفوائد من أهم أسباب هذا التأليف.
وقد افتتح المؤلف هذا المخطوط بقوله: بعد البسملة والتصلية:
" قال عبيد الله تعالى الراجي رحمة مولانا وغفرانه " احمد بن محمد الدرقون"-رضي الله عنه-: الحمد لله الذي له في كل مخلوق شاهد ناطق بلسان حاله، او مقاله، انه اله واحد، منزه عن الشريك، والشبيه، والمعاند، حمدا دائما دائبا لا انفصال له، ولا انفصام، وصلى الله على المصطفى الكريم سيد العالمين، ذي الشريعة السمنحة واللسان العربي المبين...(28)
وهذا دل دلالة واضحة على صحة نهسبة الكتاب إلى مؤلفه " الدقون" أما الآخر المخطوط فيختمه بقوله:
" كمل بحمد الله وحسن عونه وتوفيقه على يد العبد المذنب، الفقير، الراجي رحمة مولاة، وكان الفراغ منه عشية يوم السبت، فاتح شهر الله المحرم، سنة اربعة وثمانين والف، وصلى الله على مولانا محمد، خاتم النبيئين، وامام المرسلين، وعلى اله وسلم تسليما والحمد لله رب العالمين(29).
هذا وقد صدر مؤلفه بنكتة رفيعة، وختمه بخاتمة بديعة، ففي مقدمة الكتاب حاول تقديم تعريفات، واستنباط احكام ، فقد بحث عن موقف الشرع من علم العربية، وإنشاء الشواهد الشعرية، وطلب الدليل عليهما من السنة والكتاب:" ان الله أرسل إلينا رسولا صادقا امينا حكيما كريما عربيا مبينا، وجعله بالمؤمنين رحيما، وبعثه من انفسهم وانفسهم ، وكان ذلك بنا لطفا عظيما، وانزل عليه روحه الأمين بكتاب عربي مبين ، وامر بالتعويل عليه، وأوجب الرجوع اليه...وقد تواترت الأخبار، عن السادات الأخبار وانه قال عليه الصلاة والسلام: اذ أثنى على الصحابة الكرام:" أصحابي كالنجوم بأيهم اقتديتم اهتديتم...".
وقد صح عن " علي بن ابي طالب " –كرم الله وجهه- انه أمر أبا الأسود الدؤلي ان يصنع كتابا في النحو، وقال له: ان كلام الأولين والآخرين مركب من اسم، وفعل، وحرف، فاتح نحو هذا المذهب، قيل: فلذلك سمي بالنحو، فإذا علي بن ابي طالب هو الذي فتح هذا الباب "(30)
هذا ما يخص نشأة النحو، ووضع قواعده، فقد قرر جواز الاشتغال بعلم العربية إقتداء بالأيمة، والسلف الصالح.
أما الاشتغال بالشواهد الشعرية، فالدليل عليها " أن النبي –صلى الله عليه وسلم-لما أمر بإعراب الذكر قال: والتمسوا غريبه في الشعر".
وقد كانت " عائشة"- رضي الله عنها –تحفظ عشرة آلاف بيت منه، وقد قال عليه السلام:" خذوا شطر دينكم عن هذه الحميراء"(31). ثم يطرح التساؤل التالي بعد تقسيمه الكلام إلى نثر ونظم بقوله:" فان قلت كيف يصح ذلك عن " عائشة"، وقــــــد " قال عليه السلام": " لان يمتلئ جوف أحدكم قيحا وصديدا خير له من أن يمتلئ شعرا؟
قلت: قد أجابت هي عن ذلك حيث أنكر عليها ذلك، إن ذلك خاص بالشعر الذي كان المشركون بهجونه به – صلى الله عليه وسلم-.
ويرى المؤلف ان هذا الجواب غير مقنع، والمقنع ما قاله " عياض" في " مختصر العلم": انه ان امتلأ قلبه به حتى أشغله عن القران وذكر الله والخيرات فذلك الذي جاء الحديث فيه. وان كان القرآن والعلم الغالبين عليه فليس هذا بممتلئ، وان حفظ منه ما عسى ان يحفظ فافهمه فهو حسن(32).
و" للدقون" مجموعة من التعاريف، فقد عرف العربية:" بانها عبارة عما يحفظ ويقاس عليه من كلام العرب".
وعرف اللغة " بانها عبارة عما يحفظ: ولا يقاس عليه، وهي عبارة عن اصوات منقطعة، وحروف منتظمة، يعبر بها كل قوم عن أغراضهم".
اما الادب فهو عنده ثلاثة أقسام:
طبعي:
وهو ما يفطر عليه الإنسان من الاتصاف بالأوصاف المرضية، والتخلق بالأخلاق السنية.
كسبي:
بالحفظ ، والنظر، واستعمال الفكر، وهو النحو، واللغة ، والشعر ، والخبر.
صوفي:
وهو ضبط الواحس، ومراعاة الانفاس" (33)
ثم يحدد الغرض من علم الادب في امرين:
" عام: وهو معرفة حفظ اللسان من اللحن، ويجب علي اهل العلم معرفة القدر الموصل الى ذلك.
وخاص:
وهو معرفة الغوامض، والمشكلات، والمعاني الخفيات.
اما فائدته:
فهناك: فائدة صغرى: وهي اكتساب القوة على النظم والنثر.
وفائدة كبرى:
وهي القوة على استنباط الأحكام، وتمييز مبانيها في الكلام.(34)
كما وضع التساؤل حول إمكانية حصر معاني الكلام، واختلاف النحاة في هذا الامر" فذهب قوم الى انها لا تنحصر، هو راي كثير من نحاة " البصرة".
وقيل: انها عشرة: خبر، واستخبار، ودعاء وتمني، وطلب، وامر، ونهي وتعجب، وعرض، وتخصيص.
وقيل تسعة. وقيل: سبعة. وقيل: ستة. وقيل: خمسة، وقيل: ثلاثة طلب وخبر واذن.قال" البهاري": وهو اقربها الى الصواب (35)
تلك اهم العناصر التي احتوتها مقدمة الشرح، وهي مجموعة أسئلة يطبعها فقهي، لا تخوض أمرا الاشتغال بالعربية، ورواية الشواهد الشعرية، كما حاول تقديم تعريفات أدبية، ولسانية، مفرقا بين العربية واللغة، وبين لغة الأديب ولغة الصوفي.
اما خاتمة الشرح، فإنها تمثل النموذج المثال للمربي الصالح، وللمتعلم أيضا، فقد خصها بوصيته لطالب العلم، وهي تذكرنا بخواتم بعض كتب هذا القرن، كخاتمة كتاب:" روضة الإعلام" " لابي عبد الله ابن الأزرق الغرناطي"، الذي خص جزءا مهما من هذا الكتاب في اداب العالم، والمتعلم، واسس للنظرية التعليمية بالأندلس القائمة على الكتاب والسنة وما ورد في ذلك من أحكام العلماء، والصلحاء في تربية النشئ وتكوين الفرد الصالح.
" وللدقون " وصايا لطالب العلم آثر ان يختم بها شرحه فامر طالب العلم بان يكون " راغبا في ثواب الله تعالى ومرضاته، وفي امتثال أوامره ومفروضاته، وراهبا من التقصير في الأوامر، والانتهاء عن الزواجر (36)، فقد اشترط الرغبة والرهبة: الرغبة في امتثال الأوامر، والرهبة في الابتعاد عن الزواجر، " فاذا أحكم هذا الفصل فليعلم انه لا يعتد بما فعل، الا إذا كان مخلصا في أفعاله، صادقا في أحواله، فلينمو بعلمه أي علم كان وجه الله الكريم، اذا رام الفوز بالرضى والنعيم(37).
*فالإخلاص، والصدق، والنية هي تمام الفوز، والفضل مع الخشوع والإكثار من" التضرع والابتهال أثناء الليل والنهار مصاحبا كل ذلك بدعاء مختصر جامع مأثــــــور(38).
*والادعية عنده واجبة " لان الدعاء يرد من القضاء ما وافق القضاء، وهو مذهب اهل السنة(39).ثم يبسط بعد ذلك الحديث عن الدعاء، وكيفيته، واوقاته المتخيرة، فعليه ان يتخير اوقات الاجابة، ويدخل فيها اخوانه وأحبابه ... ولا يجمع له بأثر الصلوات اذ ذاك بدعة...وليدع بظهر الغيب لجميع أبناء جنسه بما يريد الإجابة فيه لنفسه، يجد الإجابة طوع يديه...(40)
وبين المقدمة والخاتمة يوجد شرح شواهد الشريف، ولقد اتخذ المؤلف نهجا خاصا في بسطه وعرض شواهده، وهو إن كان لم يذكر في مقدمة شرحه منهجا يخصه في هذا التأليف فان القارئ يلحظه وبوضوح في كل أبواب الكتاب.
فهو يذكر الشاهد ثم يشرح كل لفظ فيه شرحا لغويا معتمدا مهارته اللغوية، ثم يبين موقع إعراب كل لفظ، ثم يلخص معنى البيت في أسلوب أدبي رفيع يظهر ذوقه، معنى البيت في أسلوب أدبي رفيع يظهر دوقه البديع، وجودة تحليله لتوضيح مدلوله، والهدف من إتباعه لهذا النوع من الشرح واضح الدلالة، فهي طريقة البسط، والتسهيل، لتعليم الناشئة والمتعلمين والغاية تحصيل الفهم والإفهام.
ولإغناء شرحه قام بوضع فوائد كثيرة ذيل بها كل شاهد من الشواهد ووضع لها عنوانا خاصا، وهو في هذه الفوائد يبحث عن قائل البيت، وينسبه لصاحبه، ثم يقدم ترجمة مختصرة له تتضمن اسمه، وكنيته، وتاريخ وفاته، كما يبحث عن المصادر الوارد فيها الشاهد، مع توثيقه بإيراد الأبيات السابقة له أو اللاحقة به، مبينا ما ينطوي عليه الشاهد، من قاعدة لغوية أو نحوية مبرزا أحيانا ما قد يكون فيها من خلافات مذهبية، مبديا رأيه في مواضع كثيرة، مصححا ما وقع عن بعضهم من تصحيف، او تقليد خاطئ، منتقدا في أدب ولين دون إفراط أو تفريط.
ان عدد فوائده يفوق المائة، اذ لم يترك شاهدا من شواهد " الدرة النحوية" الا وذيله بفائدة من الفوائد.
وقد أشار " الدقون" الى ذلك في نهاية شرحه فقال:
" وهذا اخر بيت من شواهد " سيدي الشريف"، وبه كملت نهاية التعريف وهو الثاني والمائة(41).
مصادر الشرح:
" للدقون" مصادر متعددة في هذا الشرح، إلا أن أهمها كان "كتاب سيبويه" إذ اتى على ذكره في مواضع متعددة، وهو في ذلك كغيره من "الأندلسيين" في ولعهم بهذا الكتاب.
كما نجد أسماء مصادر أخرى من مثل كتاب " التسهيل " " لابن مالك" (42)، وكتا " المقامات للحريري" (43)، " ورصف المباني" " لأحمد ابن عبـــــــد النور" (44) و" شفاء الصدور" " لابن سبع" (45) و" تلبيس ابليس" " لابن الجـــــــــوزي"(46).
وهو في نقله لهذه المصادر تارة يذكر المؤلف وكتابه، وأخرى يذكر احدهما، ولذلك نجد أسماء أعلام في اللغة والنحو تتردد داخل هذا الشرح " كالأعلم"، و " الاخفش"، و" الجرمي "، و" ابن السكيت"، و" أبي عمرو الشيباني"، و" الفارسي" وغيرهم.
موضوع الشرح:
ان عناصر البحث في هذا التأليف تقوم على شرح " الدرة النحوية في شرح الجرمية"، فهي ترتبط ارتباطا واضحا بابوابها وفصولها، وتطالعنا في بداية الشرح مجموعة من الادوات حاول عرض بعض الحالات التي تستعمل فيها.فتحدث عن اقسام التنوين (47)، وعن أداة التعريف " ال" سواء الداخلة على الفعل (48) او على التمييز (49) او الزائدة (50) كما تحدث عن حروف الجر التي منها ما يكون اسما (51)، ومنها ما يكون زائدا (52)
وبعد هذه المقدمة يقسم شرحه الى أبواب، ويجعل لكل باب عنوانا، أولها.
" باب الإعراب،
ثم باب معرفة علامات الإعراب،
باب الافعال،
باب الفاعل
باب المبتدأ والخبر،
باب العوامل الداخلة على المبتدأ والخبر،
باب النعت، باب العطف،
باب التوكيد، باب البدل،
باب المصدر، باب الظرف،
باب التمييز، باب الاستثناء،
باب لا،
باب المنادي،
باب المفعول من اجله،
باب مخفوظات الأسماء،
وبه ختم بوابه(53).
إننا ونحن نتأمل أبوابه، نرى شخصية " الدفون " العلمية، وقدرته على الشرح، والتحليل، والاستنباط، وإبداء راية في مسائل تارة يكون فيها موافقا لما ورد من أراء النحاة، وأخرى مخالفا لهم، ولصاحب الدرة النحوية (54)، من ذلك قوله في باب الأفعال:" في موضوع الجوازم لفعلين، حيث ذكر الشريف، إن مجيء الشرط مضارعا، والجواب ماضيا غير فصيح، ولم يأت إلا في الشعر، ومنه:
من يكدني بسيء كنت منه
كالشجا بين حلقه والوريد
قال " الدقون": " من شرط مبتدأ، يكدني، مضارع مجزومه، يسيء بأمر سيء: متعلقه، كنت: جوابه منه: متعلقه، كالشجا: ما ينتسب في الحلق مطلقا، بين: ظرفه، حلقه: محفزظه، والوريد: وبين الوريد، عرق غليظ في العنق، أي من يرد مكيدتي لا يقدر على ذلك، لأنك قادر على أن تذيقه أصناف المهالك.
فوائد:
البيت " لأبي زيد"، والشاهد فيه قوله: كنت، وهو بفتح التاء جوابا للمضارع، واستضعفه بعضهم، وتبعهم سيدي الشريف، حتى قالوا، انه خاص بالضرورة، وليس في كلام الفصحاء، وصحح " ابن مالك "- رحمه الله تعالى-جوازه لوجوده في كلام أفصح الفصحاء، قال –صلى الله عليه وسلم-: " من يقم ليلة القدر غفر الله له ما تقدم من ذنبه"...
فاعترضوا عليه الاستدلال بالحديث قائلين: لا حجة فيه لجواز نقله بالمعنى.قلت:ما قاله ابن مالك هو الصواب، والا فيلزمكم ان تقولوا إلا يعمل به، لجواز قلب المعنى الذي يعني.
ونقله بالمعنى متوهم، والأصل عند السلف أداء لفظه- عليه الصلاة والسلام- كما سمعوه للتبرك بألفاظه الكريمة، ولأن كل كلمة تحتها حكمة عظيمة إذ هو صلى الله عليه وسلم لا ينطق عن الهوى، والأصل: البقاء على الأصل، هذا مع عدم السماع فكيف وقد ورد في إشعار العرب؟...
وأما نقله بالمعنى ففيه اختلاف كثير، والأشهر: المنع. وقال" ابن ابي جمـــــــــرة": " يجوز نقله بالمعنى لمن عرف المعنى وقال " ابن أبي جمرة": " يجوز نقله بالمعنى لمن عرف المعنى، فافهم ".(55)
ويبدو من خلال هذا النص موافقة " الدقون " لابن مالك" في جواز وصحة مجيء الشرط مضارعا، والجواب ماضيا، معتمدا في ذلك على ما جاء عند أفصح الفصحاء-صلى الله عليه وسلم-:
قيمة الكتاب:
فهذا أنموذج من تلك النماذج الكثيرة والمتنوعة التي يعرض بها شرح شواهد الشريف، فلقد جعل من النص الأدبي مجالا لتطبيق القواعد اللغوية والنحوية، وهو منهج اعتمده العرب، يرتكز على دراسة اللغة معجما، ونحوا، وأعرابا والبحث عن الشواهد التي تتوفر فيها هذه العناصر، سعيا وراء تقويم اللسان من العجمة، واللحن، والابتذال، وتحقيق الإيضاح، والبيان، وهو نوع من النقد التفسيري الذي غالبا ما يتناول أفصح، وأحسن، واشهر النصوص الابداعية، باعتبارها نصوصا سيستشهد بها في علوم العربية" واختيارهم للبيت الواحد من القصيدة لإيمانهم بوحدة البيت الشعري، واستقلاله، بل ربما أرادوا ان يكون لكل بيت معنى قائما بنفسه فلا يحتاج الى غيره(56).
" والدقون" في شرحه حاول التوفيق بين مختلف هذه العناصر، ويبقى السؤال عن ظاهرة الشروح نفسها، هل هي دليل على انحطاط الفكر في هذه المرحلة؟ إذ الشرح خطاب ذاتي، يعكس الخطاب الأصلي للنص، فالشارح يختلي بالنص، وفي هذه الخلوة تتدخل عوامل كثيرة تتصل بالشارح ، تتدخل ثقافته الشخصية،ومكوناته النفسية، ومواقفة الإيديولوجية، وموقعه الطبقي... وهذه الخلوة بالنصوص هي التي جعلت من نتائج الشروح أمورا نسبية جدا، لأنها تظل في نهاية الأمر كلاما على كلام(57).
والواقع أن هذه الأحكام قد تنطبق على بعض الشروح التي قد تكرر ما جاء في النص بصيغ أخرى، والا فإن هناك شروحا لا يشك أحد في جودتها، ومن ذلك شرح" بداية التعريف"، إذ لم يكن "الدقون" مجرد مفسر، او ناسخ او واصف لكلام الشريف، بل كان أدبيا قدم مجموعة من التراجم لأشهر الشعراء، ومحللا لكل الشواهد الشعرية، لغة ،ونحوا ، وأعرابا، وناقدا، محكما، بما قدمه من فوائد يبين فيها الصائب من آراء العلماء، مقوما اختلافاتهم، دون إغراق في الاستنباطات، والتحليلات التي قد تدفع القارئ إلى العزوف عن بعض أنماط هذا النوع من التأليف.
ومن تم كان هذا الشرح مؤسسة تعليمية، وصورة لما كان يدرس في فترته، تبرز مهارة المؤلف في علوم مختلفة، إذ جمع بين ضروب من الآداب ما بين منثور ومنظوم، وما بين شرح غريب، وفك مستغلق، إذ يغنيك بنفسه عن الرجوع إلى غيره، وفي ذلك تكمن قيمته العلمية والتاريخية.


(1) فقد تم سقوط " غرناطة" عام: (879 هـ-1492م)
(2) فقد عانت " فاس" من الثورات والفتن خاصة بعد مقتل " ابي العنان المريني " سنة 759 هت، وتعاقب على العرش المغربي اربعة عشر ملكا في زمن يسير كان اخرهم " عبد الحق المريني " الذي قضى عليه عام 869 هـ/ انظر " تاريخ المغرب لابن عبود": 1/186 ط 1951-تطوان .
(3) كما ان " البرتغال " احتلوا معظم الشواطئ المغربية : انظر " الحركة الفكرية بالمغرب في عهد السعديين": 1/40 ط 1976 دار الامان –الرباط و" تاريخ المغرب" " لابن عبود" 1-187.
(4) انظر مخطوط :" تكميل زهر الرياض " " لابي عبد الله محمد القنطري القصري": 16-17، مخطوط خاص.
(5) انظر في ترجمته :" جذوة الاقتباس " : ص 132، ودرة الحجال :1/92، و" ازهار الرياض": 1/103-108، و" نيل الابتهاج":136و" شجرة النور الزكية": ع /1031/ج1/276، و" سماه بالدقوني " وتوشيح الديباج : ت 36/ص64.و" سلوة الانفاس" للكتاني 3/248، و"اعلام المغرب العربي" لبنمنصور(ت:...).
ت: 1450-5/120-124، و" الحركة الفكرية في عهد السعديين": 2/384، و" الادب المغربي" لابن تاويت، وعفيفي ص:263 بيروت الى غير ذلك من المصادر والمراجع...
(6) هو " محمد بن يوسف بن ابي القاسم العبدري" شهر بالمواق (ت 897 هت) عن سن عالية، مفتي الحضرة وخطيبها واخر الايمة بها له شرحان على مختصر خليل، وكتاب " سنن المهتدين في مقامات الدين"، انظر ترجمته في: نيل الابتهاج"، 561-563.
(7) وايضا وردت عند " القنطري القصري" في " تكميل زهر الرياض": ص59-65...، و"ازهار الرياض": /103-108.
(8) " ازهار الرياض" 1/106، والابدال : والمراد بهم الاستنتصار بالاولياء عند اشتداد الازمات ، والابيات من قصيدة الدقون التي مطلعها :
أمنت من عكس امال واحوال
وعشت ما بين اعمام واخوال
ولا ابتليت بما في القلب من نكد
فالجسم مشتغل من غير اشغال
وكيف لا وبقاع الدين خالية
من ارض اندلس من اجل أهوال
(9) الاخلال جمع خلل وهي الثغرة في الصفوف وغيرها.
(10) م.س:1/105.
(11) م.س:106.
(12) محمد بن الحسين بن محمد بن جماعة النيجي، شهر بالصغير كان مولده ببلاده" نيجة" بطن " اوربة" عام 803 هـ وتوفي بفاس 887 هـ، وشارك في سائر العلوم الشرعية وبلغ في علم النحو ما لم يصل اليه اشياخه ، من تلاميذه " ابن غازي"، و" الدقون" وغيرهما، انظر" نيل الابتهاج" 554-556، وألف سنة من الوفيات:268.
(13) هو محمد بن احمد ...بن غازي العثماني المكناسي ثم الفاسي (841 هـ-919 هـ) كان اماما ، مقرئا، مجودا ، صدرا في القراءات متقنا فيها، قائما بعلم التفسير ، والفقه ، والعربية، متقدما فيها، ولي خطابة مكناسة ، ثم بفاس الجديد، ثم الخطابة والامامة بجامع القرويين، له تقييد نبيل على " صحيح البخاري" و" شفاء الغليل في حل مقفل خليل"، " وتكميل التقييد"، و" تحليل التعقيد على المدونة".و" حاشية على الالفية"، و" منية الحساب في الحساب"(بديع النظم) وشرحها سماه الطلاب و" ذيل الخزرجية في العروض"، وغير ذلك من التآليف/ انظر " نيل الابتهاج": ص: 581-583، و" توشيح الديباج": ص:176، و" جذوة الاقتباس":ص203 .و" فهرسة المنجور": ص21.
(14) انظر مخ " تكميل زهر الرياض": ص22.
(15) انظر" ارهار الرياض":1/107.
(16) انظر" ارهار الرياض":1/107.
(17) لقد واجه الوطاسيون في بداية حكمهم انتفاضات القبائل الى جانب الغزو الايبيري، وقد دام هذا الصراع بين " المغاربة" و" البرتغاليين" من سنة 818 هـ-986 هـ حيث كانت وقعة وادي المخازن، انظر " تاريخ المغرب" لابن عبود ":1/188.
(18) ت 927 هـ له قصيدة في رثاء شيخه " ابن غازي" وله تعاليق منها: "الجيش الكمين في الكر على من يكفر عوام المسلمين".انظر في ترجمته:" نيل الابتهاج":ص 199، و"توشيح الديباج": ص107.
(19) انظر جذوة الاقتباس:ص132، ودرة الحجال:1/92، وسلوة الأنفاس:3/248.
(20) انظر جذوة الاقتباس:ص132، ودرة الحجال:1/92، وسلوة الأنفاس:3/248.
(21) انظر " سلوة الانفاس "3/248.
(22) وردت في " ازهار الرياض": 1/104-108،وفي " تكميل زهر الرياض": 59-65، وفي " اعلام المغرب العربي":5/122-124.
(23) لا تعرف وفاته ، مدفون قرب " عتبة الحمراء"، ضجيج مؤلف الجرومية والشريشي صاحب النظم المسمى ، " بمورد الظمآن": انظر ترجمته" جذوة الاقتباس":ص:244، و"درة الحجال":ت601 اذ ذكر انه اخذ عن منديل ابن آجروم" وغيره ، و" سلوة الانفاس " 2/119-120، وذكر انه من اهل القرن الثامن لان شيخة ط منديلا" 772 هـ وانظر دعوة الحق :ص 101 ع 338 السنة 29-1419 هـ-1998.
(24) وقد حقق " الدرة النحوية" الاستاذ عبد الرحمان بن مردد الطلحي في رسالته الجامعية لنيل درجة الماجستير في اللغة العربية وآدابها/تخصص النحو والصرف، تحت اشراف د عباد التبيتي بكلية اللغة العربية جامعة ام القرى-مكة المكرمة سنة 1414/1994 م.
(25) وهي ثلاثة شروح منها: " بداية التعريف" الذي سنتحدث عنه.
(26) توجد له نسخ خطيته بكل من الخزانة " الحسنية" و" العامة" و" القرويين" و" المكتبة العامة للمخطوطات بتطوان"و" الخزانة الصبيحية".
(27) " بداية التعريف"/مخ القرويين/ص182 (ضمن مجموع يمتد من ص 181 -304) وهو جزء صغير بخط مغربي رائق مرصع بالخط الاحمر في كاغد مجذول.
(28) " بداية التعريف":ص 181.
(29) م.س.مخ القرويي: 304.
(30) مخ " بداية التعريف": 184
(31) م.س184-185
(32) م.س ص:185-186
(33) م.س.ص: 186 مع بعض الاختصار.
(34) م.س.ص:187
(35) م.س:187 188.
(36) م.س 187-188.
(37) م.س 302-304 مع بعض الاختصار.
(38) م.س 302-304 مع بعض الاختصار.
(39) م.س 302-304 مع بعض الاختصار.
(40) م.س 302-304 مع بعض الاختصار.
(41) م.س ص:302.
(42) م.س ص:218.
(43) م.س ص:112.
(44) م.س ص:206-232.
(45) م.س ص:195
(46) م.س ص:218.
(47) م.س ص:198-199.
(48) م.س ص:204-205.
(49) م.س ص:206-207.
(50) م.س ص:205-206
(51) م.س ص:216-217.
(52) م.س ص:207-208.
(53) م.س ص: 218-302.
(54) م.س ص: 201/207-292-302.
(55) م.س ص:257-258.
(56) " نقد النثر" تقديم " طه حسين "، : " عبد الحميد العبادي "ص: 89، بتصرف.
(57) " مناهج الدراسات الأدبية ": " حسين الواد "، ص: 49/ منشورات عيون المقالات ط: 4/1988.





* دعوة الحق - العدد 366 صفر 1423/ أبريل 2002

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى