أحمد القنديلي - جمالية المكان في رواية عبد الرحمان منيف، الآن .. هنا أو شرق المتوسط مرة أخرى

تقديم:
إذا شئنا التبسيط، يمكن أن نعتبر المكان إطارا للحدث الروائي. غير أنه إذا كان هذا الكلام التبسيطي صحيحا ـ وهو صحيح بالفعل لبداهته الحسية ـ، فإن خطأه القاتل يكمن في عدم إيلائه الاعتبار لطبيعة المكان الفني. ذلك لأن هذا المكان عادة ما يرد محدودا داخل العمل الفني، غير أنه لا يرد إلا ليحاكي مكانا لا محدودا هو العالم في حدوده الفيزيقية الفسيحة والكون في حدوده الفيزيقية المحدودة والميتافيزيقية اللامحدودة. وحتى إذا اعتبرنا المكان الفني مجرد إطار للحدث، فإنه يبقى إطارا غير جامد. إنه حين يحتوي الشخصية الروائية يتمثلها، وتبعا لذلك يحدد شكل ومضمون حركتها فيه. وكذلك الشأن بالنسبة للشخصية الروائية. فحين تتحرك في المكان تتمثله وتستبطنه، وتبعا لذلك تفعل فيه. وإذا كان الفعل متبادلا بين الشخصية والمكان، فهذا معناه أن الشخصية بقدر ما توجد داخل المكان، بقدر ما يوجد المكان داخلها. غير أن المكان الروائي الذي يتحرك بروحه الحية في العمل السردي يتجاوز الفعل في الشخصية إلى الفعل في الكون الروائي المفتوح. ونفس هذا الكلام ينطبق على الحيز الذي يملؤه ملفوظ النص الروائي. إن الجملة الأخيرة في رواية ما لا تشكل نهايتها، فما أن ينتهي كلام الكاتب حتى يشرع كلام القارئ في التبنين؛ الشيء الذي يعني أن الخطاب الروائي ـ مهما كانت طبيعته ـ يستمر بمختلف أشيائه ومكوناته مفتوحا في مكان آخر هو كيان المتلقي، وهو لغته من حيث هي مستودع ذاكرته بمتعها وآلامها وأحلامها وتخيلاتها.
وهذا معناه أن المكان الفني يولد وينمو ويموت، أو يستمر في العمل الفني وفي الحياة بعد انتهاء هذا العمل الفني ذاته . إنه ذو روح خاصة تعج " بالبشر والذكريات والآثار التي محيت ... وتركت وراءها روحا خاصة، روحا قد تظل تحوم في المكان، تجيء دوما إلى المكان ولو بعد حين، ولو بعد غياب " (1).
ولأن المكان الروائي كائن حي وفاعل ومؤثر في من وما يحتويه، فإنه لا يمارس حضوره في عالم الرواية بدون دلالة . إنه كينونة دلالية وتدليلية في ذات الوقت، إذ به تمتلك كل حركة روائية ـ سواء كانت حركة الشخصية، أو الحدث، أو الزمان، أو السرد، أو اللغة ... ـ دلالة تنسج في نهاية المطاف رؤية الرواية للعالم. غير أن هذا الذي يعطي لمختلف مكونات الرواية دلالاتها ليس مجرد مكان روائي، إنه الفضاء الروائي " فالمكان أصله الأرض، وعندما يتجرد يصبح الفضاء " (2) وهذا الفضاء هو مجموع أمكنة الرواية في حركتها المطردة، وفي علاقات هذه الحركة بحركات مجموع مكونات الرواية.
وهذا معناه أن دراسة المكان بصورة مستقلة عن دراسة الزمان وعن دراسة مجموع مكونات الرواية الأخرى تبقى شبه مستحيلة في نهاية المطاف. إن" الشيء في المكان منفصلا، يقابل الحدث متصلا، أو ديموميا في الزمان. بمعنى أنه كما لا يمكن أن يدرك شيء إلا وهو يشغل حيزا في المكان، كذلك لا يمكن لحدث أن يوجد إلا وهو يملأ وقتا " (3). غير أنه لا يمكن ـ في اعتقادنا ـ لأي شيء ـ سواء كان شيئا أو حدثا ـ أن يوجد في حيز دون أن يوجد في وقت. ف " المكان، في مقصوراته المغلقة التي لا حصر لها، يحتوي على الزمن مكثفا(4)" . إن الشيء ـ الذي لا يتحرك كما يبدو ـ يتحرك في ذاته وفي المكان والزمان كما يتحرك الحدث تماما. فإذا كانت الحركة أصل الدلالة، فلا شيء بدون دلالة لأن لا شيء بدون حركة.
ومن جهة أخرى ينفصل المكان الروائي عن المكان الواقعي انفصالا جذريا . فمهما كانت واقعية المؤشرات التي تحيط بالمكان الروائي، فإنه يبقى مكانا فنيا متخيلا يومئ إلى كل مكان واقعي / تاريخي ممكن، ويتجاوز كل مكان مادي واقعي محدد، وكل ذلك بحسب تأويل المتلقي السيميائي. ذلك لأن السرد ما أن يشرع في التحرك حتى يشرع ـ إلى جانب الوصف ـ في تقديم المكان بصورة يصعب تصورها خارج حركة الأحداث، وخارج التمثلات المختلفة للشخوص الروائية في كل لحظة من لحظات سيرورة السرد وحركة الأحداث. وهذا ما يجعله مكانا متخيلا ليس بصورة واحدة، بل بصور مختلفة تتنوع بتنوع المتكلمين والفاعلين داخله، وبتنوع المتلقين خارجه.
وهكذا فبقدر ما يبدو مكان ما أليفا وأموميا بالنسبة لهذه الشخصية الروائية، بقدر ما يبدو عدوانيا وأبويا بالنسبة لشخصية روائية أخرى.(5) وبقدر ما يبدو مكان ما مملوكا من طرف هذه الشخصية الروائية، بقدر ما يبدو مالكا لشخصية روائية أخرى (السجن في رواية " شرق المتوسط.." مثلا)،
غير أن مكانا آخر قد يبقى محايدا بسبب طبيعته العمومية . إنه مكاني وليس مكاني، وهو مكانك وليس مكانك . إنه مكاننا جميعا، ولكن دون تملك خاص أو شخصي . (6) وإذا كان المكان المالك للشخصية عادة ما يفقدها حرية القول وحرية الفعل، فإن المكان المملوك من طرفها يمكنها ـ في حدود معينة ـ من ممارسة هذه الحرية التي هي شرط وجودها، وشرط معنى وجودها . أما المكان العمومي، فإنه يمكنها من تجسيد طبيعتها الاجتماعية التي تستطيع بواسطتها التحرك بصفتها المعنوية المضافة إلى صفتها الذاتية.
غير أن هذه الأمكنة وغيرها، وإن كانت ذات طبيعة لا محدودة تمتد إلى ما وراء وما بعد الرواية كما رأينا، فإنها تتمظهر داخل العالم الروائي بطبيعتها المتناهية التي تحاكي " موضوعا لا متناهيا هو العالم الخارجي " كما يرى يوري لوتمان (7). ومن هنا طبيعتها المزدوجة التي يترابط فيها المظهر المتناهي بالجوهر اللامتناهي. إن أي مكان متناه في الرواية يحتوي أمكنة أضيق منه، ويحتل موقعه ضمن أمكنة أخرى أوسع منه وصولا إلى العالم الخارجي اللا متناهي. ولعل هذا ما اهتدى إليه بذكاء كل من مول و رومير في كتابهما " سيكولوجية الفضاء " حين شبها " الحيز الذي يحيط بالإنسان بالبصلة فالفرد يحتل قلب البصلة، وتمثل الأماكن المحيطة به طبقات هذه البصلة، وتتسع هذه الطبقات كلما اتسعت مجالات أفعاله وأنشطته." (8)
وحيث إن السرد يرصد حركة الشخصية الروائية في الزمان والمكان " ذهابا وإيابا وسفرا واستقرارا " (9)، فإنه بفعله هذا يحدث تحولات جوهرية فيها كلما اتسعت حركتها في تنقلها من مكان إلى آخر؛ ذلك لأن تنقل الشخصية الروائية من مكان إلى آخر في العالم السردي طوعا أو كرها يمثل بحثا عن معنى أو عن حقيقة، أو عن حل أوعن كينونة مغايرة. غير أن القدر الأسطوري للسرد قد يفضي بالشخصية الروائية إلى أي مصير ممكن خارج كل معنى أو حقيقة أو حل أو كينونة.
وإذا كان نقاد الرواية يقاربون المكان الروائي بمنهجيات مختلفة، فإنهم عادة ما ينسون اللا مكان باعتباره ظلا للمكان . فحيثما يوجد الزمان والمكان يوجد اللا زمان واللا مكان بشكل من الأشكال. ف " بين البيت واللابيت يمكننا أن نقيم كل أنواع التناقضات " (10) وداخل هذه التناقضات المتنوعة توجد الحياة بكل أعماقها . ويمثل هذا اللا زمكان البنية الدلالية العميقة التي قد تقول ما لا يقوله الزمكان . إن هذا الفضاء اللا زمكاني هو الفراغ المهول الذي لا يمكن للشخصية الروائية إلا ان تجد نفسها داخله هنا أو هناك، وفي هذه اللحظة أو تلك. وكلما وجدت نفسها داخل هذا الفضاء الخاص، كلما اكتشفت العمق المأساوي لكينونتها. غير أن ثمة مكانا آخر لا يقل أهمية عن هذا الفضاء الأخير. وهذا المكان هو العتبة من حيث هي " حافة البراني مع الجواني" (11)، أو من حيث هي ذلك البرزخ الذي لا ينتمي إلى الخارج البراني كما لا ينتمي إلى الداخل الجواني. إنها بطبيعتها الوسيطية والشبه عمومية تلك، وباعتبارها مكان العبور العابر، تجسد بمعنى ما القطيعة بين مكان الانطلاق ومكان الوصول . وهذه القطيعة هي التي تحدث تحولات كمية أو نوعية في الشخصية الفاعلة. وسلسلة القطائع التي تعرفها الشخصية الروائية المتنقلة ـ عبر الحدود والعتبات ـ من مكان إلى آخر هي التي تبني تاريخها المتوتر. وجدير بالاعتبار هنا أنه ليس ضروريا أن تشكل العتبة منطقة العبور من الخارج البراني إلى الداخل الجواني، أو العكس. فقد تكون عتبة من الخارج إلى الداخل، أو من الداخل إلى الخارج، أو من الخارج إلى الخارج أو من الداخل إلى الداخل، أو من الفراغ المهول إلى الفراغ المفتوح على الفراغ المأساوي.
المتن الحكائي في رواية " الآن .. هنا أو شرق المتوسط مرة أخرى":
يهيمن السرد بضمير المتكلم في رواية عبدالرحمان منيف بصورة ملفتة للنظر إلى درجة أن القارئ يخال أنه أمام سيرة ذاتية فعلية. غير أن هذا السارد المتكلم مزدوج في الرواية. إنه طالع العريفي تارة وعادل تارة أخرى. وإذا كان طالع قد حكى حكيه في محكيه الذي تركه في أوراقه بعد وفاته، والذي تحول بموجب الوفاة إلى محكي تحمل صديقه عادل مسؤولية تقديمه إلى القارئ كما هو دون زيادة ودون نقصان في فصل "حرائق الحضور والغياب"، فإن عادل هو الذي تكفل بالحكي في فصل "الدهليز" و في فصل "هوامش أيامنا الحزينة " ليحكي تجربته الشخصية الخاصة.
وعموما فهذان الساردان المتكلمان لا يحكيان أفعالا سردية بينها وبينهما مسافة تخييل، إنهما يحكيان حياة غير قابلة للحكي، ولكنهما حكياها من أجل تحويلها إلى سرد لعله ينفيها من الذاكرة، أو ينسّبها ويطفئ جذوتها كما عاشاها بالفعل. غير أن السرد لم يعمل إلا على إذكاء هده الجذوة بصورة مضاعفة سواء في إحساس السارد من حيث هو الشخصية المحكي عنها ذاتها، أو في إحساس المتلقي.
في فصل "الدهليز" يحكي عادل تجربته داخل السجن وتجربته بعد خروجه منه. إنه لا يتحرك في مكان مملوك من طرفه. إن كل الأمكنة التي تنقّل فيها كانت آسرة له، ومالكة لحريته سواء داخل السجن أو خارجه. لقد خرج منهوك القوى من سجن دولة " موران " ليسافر إلى براغ/ تشيكوسلوفاكيا، أو لينفى إليها. وهناك أقام في المستشفى لتلقي العلاج. وداخل المستشفى/ السجن الثاني كان لا يبرح سريره إلا ليخرج إلى حديقة المستشفى من أجل تجاوز الإحساس بالحزن والغربة والمرض.
ولأن "عادل" خرج من السجن ليجد نفسه في سجن آخر/ المستشفى فقد أصيب بالحمى مرارا " . وتأخذني الحمى مرة أخرى. أسافر، أغيب، وحين أعود أشعر بالتعب، بالعطش، برغبة البكاء. وعبر النافذة أرى وأسمع المطر... "(12)، خصوصا وأنه تأثر لحال صديقه طالع العريفي الذي واجه من المعاناة، ومن المضايقات ما جعله يموت في نهاية المطاف؛ ليبقى في ثلاجة المستشفى أياما وأسابيع، ثم لينتقل ـ بعد مفاوضات عسيرة بين مواطني موران المقيمين في براغ وحكومة موران ـ إلى وطنه ليدفن فيه، ولكن " دون عنوان، ودون أن يعرف أحد"(13).
وحين بقي عادل بمفرده في المستشفى عاش الغربة المضاعفة. لقد استمر يحاور صديقه الفقيد تارة، ويسترجع ذكريات التعذيب تارة أخرى " وتمر الحياة الماضية مرة أخرى ... أحس بالغصة و رغبة البكاء . أتطلع إلى وجهي في المرآة . أرى الوجه مستكينا مخطوفا، شديد الحزن. وفجأة يتطلع إلي ويصرح: " كن نفسك ولا تكني " هكذا يدوي صوت طالع. وشيئا فشيئا يذوب الصوت ثم يأتي الصمت." (14)
وحين فكر عادل في مغادرة المستشفى اتجه إلى باريس بمساعدة صديقه القديم أنيس؛ ليدخل المستشفى هناك مجددا بسبب استمرار تدهور وضعه الصحي. وفي المستشفى يلتقي بجلاد قديم هو أبو مهند الذي بتروا رجله من أعلى الساق نتيجة استفحال مرضه بالسكري.
في باريس يسترجع عادل كل السجون التي مر بها في دولة "موران"، وكل اصناف التعذيب التي تلقاها، وكل السجناء الذين عاشرهم. فمن السجن المركزي " وتصورت، اللحظة، أن هذا المكان هو الذي يبول فيه الحرس. أما حين انتهوا، وبعد أن تركوا بقعة كبيرة من البول، فقد جررت إلى المربط رقم ثلاثة، ربطت إلى الجدار وكانت المساحة التي يمكن ان أتحرك فيها لا تزيد عن طول السلاسل. هنا يجب أن أكون . ليس فقط للوقوف، وإنما للنوم والأكل، ولأي شيء آخر. (15) " ومن هذا السجن إلى سجن العفير، ثم إلى سجن القليعة، ثم إلى وادي الموت، ثم إلى السجن المعلق... وداخل هذه السجون جميعها كان عادل يتنقل هو وأصدقاؤه بين السراديب والمهاجع والعنابر... كلما طرأ طارئ داخل هذا السجن أو ذاك.
في نهاية المطاف يغادر عادل السجن ليعمل مصححا للأخطاء اللغوية والمطبعية في مجلة، وليعيش بمفرده في بيته: ينام ويقرأ ويأكل ويحلم أحلاما يختلط فيها الحزن ب"الفرح".
أما في فصل " الحضور والغياب " فقد تكفل عادل بنقل محكي طالع العريفي دون زيادة ودون نقصان كما تركه في أوراقه التي سلمها له قبل وفاته. لقد اعتقل طالع في سوق الأغنام، في الطريق يتم تعصيب عينيه. وفي قاعة التعذيب يتم استجوابه، يراوده المحقق من أجل معرفة المعطيات المتصلة به وبالتنظيم الذي ينتمي إليه. غير أن "طالع" استمر يردد كلاما واحدا " أنا رجال مسكين، على باب الله... ويجوز أنكم تدورون على واحد غيري" (16).
وأمام رفض طالع الاعتراف يتم تنقيله إلى سجن آخر، حيث يتم تعذيبه بصورة وحشية وبطريقة شديدة البراعة والإتقان: "وجدت أن أبواب جهنم فتحت علي: الضرب، اللكمات بالأيدي، بالأرجل، بالرأس والأكتاف، كلها انصيت علي. كانت القبضة ـ لأنها قوية ومحكمة ـ توقعني أرضا، وكانت القفزة فوقي تجعلني أمتزج بهذه الأرض، وما أن أستقر لحظة في حالة، حتى تنتزعني يد مدربة وشديدة الجبروت من تلك الحالة وتطوح بي في الهواء، وقبل أن أصل إلى الحائط أو إلى الأرض تتلقاني ضربة أقوى منها فأرتد "17). ) ثم يلقى به في زنزانة منفردة. وبعد ان أخذ يتعافى جزئيا يتم تنقيله إلى حمام متسخ ليغتسل، ثم اقتياده إلى الحلاق ليحلق رأسه بعنف " لا أستطيع أن أقدر عدد الجروح التي تركها في رأسي. كنت أحس آلاما في مواضع متعددة، وكنت أرقب المقص وهو يتعثر، ثم الماكنة تهمد بعد أن تعذر عليها الاستمرار، فيضطر لأن يفك البراغي، وينفخ عليها لكي يزيل عنها الشعر والأوساخ التي علقت بها "18).)
في نهاية المطاف وأمام تعب الجلادين والمحققين، وأمام إصرار طالع على عدم الاعتراف، يتم إرساله إلى سجن آخر ليلبس ملابس السجن، وليصبح له رقم، ثم ليفرج عنه فيما بعد منهوك القوى. وفي المستشفى يكتب مذكراته، ويسلمها إلى صديقه عادل الذي تعهد بنقلها إلينا نحن القراء.
إن العلاقة بين الحكي والمحكي وفعل الحكي في رواية " الآن.. هنا ...أو شرق المتوسط مرة أخرى" تصل إلى درجة الصفر. إن كل ما حكي في هذا الرواية ينطلق من الهنا ومن الآن. وعلى الرغم من أن مجمل ما تم حكيه ذو تبئير داخلي متعدد (19)، فإن العلاقة بين حكي الراوي الأول/ عادل وحكي الراوي الثاني/ طالع العريفي علاقة يقظة بسهو، فما يسهو عنه عادل يسترجعه طالع، والعكس صحيح. أما ما لا ينساه الطرفان معا فهو التعذيب المتنوع الأشكال. وعلى سبيل المثال فإذا كنا نعرف كيف اعتقل طالع من سوق الأغنام، فنحن لا نعرف كيف اعتقل عادل، وإذا كنا نعرف المصير المأساوي الذي آل إليه طالع، فنحن لانعرف المصير النهائي لعادل... غير أننا حين نتأمل الشخصيتين معا نجدهما شخصية واحدة. لقد قطعتا نفس المسار إلى درجة أن كل شخصية كانت ترى ذاتها في مرآة الأخرى.
جمالية المكان في رواية " الآن ... هنا أو شرق المتوسط مرة أخرى"
1 ـ المكان في العنوان:
عنوان الرواية هو: " الآن .. هنا أو شرق المتوسط مرة أخرى ". ولقد ارتكب عبد الرحمان منيف خطأ في علامات الترقيم حين فصل بين "الآن" و "هنا" بنقط الحذف. ففي هذا القسم من العنوان يحضر الزمان والمكان مترابطين ترابطا عضويا. فإذا كانت "الآن" ظرف زمان يعني الوقت الذي نحن فيه، وإذا كانت "هنا" اسم إشارة يشير إلى المكان الذي نحن فيه، فهذا معناه أن الآن لا يمكن أن يكون إلا هنا، وهنا لا يمكن أن تكون إلا الآن، فبقدر ما يزمّن الآن هنا تمكّن هنا الآن. وعليه فالآن زمانا هي هنا مكانا، والآن مكانا هي هنا زمانا. ولهذا الاعتبار لا معنى للفصل بينهما.
أما القسم الثاني من العنوان والذي ورد بعد "أو" الذي يفيد التسوية هنا، فقد أحال به المؤلف على روايته السابقة " شرق المتوسط " التي قال فيها السرد ما قاله دون أن يتمكن من إشفاء غليل السارد وغليل القارئ. فحين اختار المؤلف " الآن .. هنا أو شرق المتوسط مرة أخرى " فرض على العنوان وظيفة مرجعية على المستويين النصي والمادي. فهو يحيل من جهة على رواية عبد الرحمان منيف السابقة، ومن جهة على أحوال الشعوب العربية شرق وجنوب المتوسط حيث الاستبداد الأسود الذي لا يسمح للكائن بالحركة أو التكلم.
وإذا كان العنوان أبا للنص كما يرى رولان بارت، فإن رفض الرواية للإحالة المرجعية المباشرة فرض عليها اختيار أمكنة رمزية لا وجود لها في الواقع من قبيل دولة "موران" و"عمورية"... غير أن الأمر هنا لا يتعلق بتورية أو إخفاء خوفا من قمع ما، بل يتعلق باشمئزاز عام من مختلف أنظمة الاستبداد، وبتعميم متعمد يمثل للشيء بكل الأشياء ليس هنا والآن فقط، ولكن في كل زمان ومكان أسودين. غير أن الوظيفة التحفيزية هنا تبقى مرتبطة صميميا ب "الآن" و"هنا" من أجل حمل القارئ الآن وهنا على بلورة موقف حاسم تجاه ما حوله هنا والآن وليس هناك وبعد فوات الأوان.
2 ـ المكان المغلق والمكان المفتوح:
لا يكاد يوجد مكان مفتوح في رواية " الآن .. هنا ... أو شرق المتوسط مرة أخرى". إن مجمل الأمكنة التي يتحرك فيها طالع العريفي مثلا مغلقة، ولأنها مغلقة فإنها تمتلكه عوض أن يمتلكها، ولأنها كذلك فهي التي استمرت تحركه بمحض إرادتها وخارج إرادته. غير أن قوة مقاومة طالع للسجن وللجلادين، ولأشكال التعذيب المختلفة هي التي أجلت سقوطه إلى حين خروجه من السجن، وإلى حين كتابته لمذكراته وهو في حالة احتضار بالمستشفى.
وإذا ما أعدنا قراءة الرواية، سنجد حركة طالع داخل المحكي حركة تنازلية. لقد كان يهبط من دركة إلى دركة: من مكان سيئ إلى مكان اسوأ منه وصولا إلى المكان الأسوأ الذي هو ثلاجة المستشفى ، ثم إلى المكان الأسوأ منه، والذي هو الوطن حيث دفن في قبر ما في نقطة ما من ترابه، ولكن " دون عنوان ودون أن يعرف أحد" 20).)
إن هذه الأمكنة المغلقة المتناسلة في الرواية تكاد لا تحصى. وسنحاول الوقوف على بعضها بغية التعرف على شكلها وشكل انغلاقها، وشكل تحرك الشخصية داخلها:
أ ـ قاعة التعذيب: "غرفة واسعة في جانب طاولة كبيرة حولها، من جهة واحدة عدة كراس، وفي الجانب الآخر من الغرفة سرير عسكري. ولم يكن في الغرفة نوافذ، والضوء الكهربائي دائم الاشتعال" (21) . إن هذه الغرفة سوداء، فهي مغلقة من جميع الجهات، لا نوافذ لها ولا باب، والباب الموجود لا يفتح إلا بمناسبة قدوم سجين كي يخضع للتحقيق والتعذيب. ولأنها بهذه الصورة القاتمة، فهي بيضاء على الدوام بسبب دوام اشتعال ضوئها الكهربائي. إنها سوداء سوادا مطلقا وبيضاء بياضا مطلقا. وإذا كان السواد المطلق دلالة على الانغلاق المطلق من حيث هو المعادل الرمزي للموت، فإن البياض المطلق هنا دلالة على الانفتاح المطلق داخل الانغلاق المطلق من حيث هما المعادل الرمزي للاموت واللاحياة. وهذه هي الوضعية التي تؤول إليها الغرفة حين تتحول من غرفة تحقيق إلى غرفة تعذيب لا يطاق. ولذلك فلما لم يعترف طالع بشيء في جلسات متكررة من التحقيق سيق إلى التعذيب " وفجأة، وكما تقع الزلازل ... وبطريقة شديدة البراعة والإتقان وجدت ان أبواب الجحيم فتحت علي: الضرب، اللكمات بالأيدي، بالأرجل، بالرأس والأكتاف، كلها انصبت علي. كانت القبضة لأنها قوية ومحكمة توقعني أرضا، وكانت القفزة فوقي تجعلني أمتزج بهذه الأرض.. "22).)
بإمكان القارئ أن يستمر في قراءة هذا المقطع العصي على القراءة حتى النهاية؛ ليكتشف الحالة التي انتقل إليها طالع العريفي في غرفته البيضاء/ السوداء. لقد انتقل، تحت ضربات جلاديه، من الحياة إلى اللا حياة واللا موت. ففي كل لحظة كان ينتقل من الحياة إلى الموت، ثم يعود من الموت إلى الحياة. غير أنه لم يكن يمتلك القدرة على الإقامة لا داخل الحياة ولا داخل الموت. ولذلك استمر يراوح بين اللا حياة واللا موت. "هذه الليلة لا يمكن أن توصف. قدرت أن تكون ليلتي الأخيرة. ولذلك قررت أن أحرمهم من الفرح. " (23) " في وقت ما، وحين بدأ جسدي يغادرني ... كنت أعود من المكان الذي وصلت إليه نتيجة الماء البارد ... إلى أن غبت عن الوعي، ولا أعرف متى اكتشفت نفسي في المكان الآخر (24) ".
وحدها الغيبوبة أنقذت طالع العريفي حين نقلته من حالة اللا حياة واللا موت إلى حالة يصعب وصفها. لقد فرضت هذه الغيبوبة على الجلادين السبعة وقف التعذيب. وداخل هذه الغيبوبة عاش طالع حياة خاصة ـ من المستحيل وصفها ـ داخل الموت الذي ليس موتا. إنه الموت الذي لم تغادر روحه جسده فيه، بقدر ما غادر جسده روحه. لقد تحول إلى روح حرة انتقلت به إلى مكان بعيد هو في اعتقادنا اللا مكان من حيث هو الموت الذي ليس موتا. يمكن للا وعي طالع العريفي أن يحكي عن إقامته في هذا المكان الفسيح كي يطلعنا على تفاصيل حياته فيه، غير أن هذا اللاوعي أخرس لا يتكلم. لقد حضر لإنقاذ الوعي والجسد اللذين فقدا القدرة على المقاومة، ولم يحضر ـ بسبب اضطرابات نفسية ـ كي يتكلم بمختلف الطرق المواربة التي يمتلكها.
ب ـ زنزانة الموت: "في وقت ما أفقت. بصعوبة حاولت أن أكتشف المكان الذي أنا فيه، أن أتبين معالمه. بعد جهد، وبعد فترة قصيرة بدأت صورته تتكامل في عيني." (25). .. بإمكان القارئ الرجوع إلى الرواية للتعرف على هذا المكان وعلى مجمل العناصر التي تؤثثه.
يبدو هذا المكان/ الزنزانة أقرب إلى صورة القبر" طوله ثلاث خطوات، وعرضه خطوتان (26) " غير أنه يختلف عنه في أشياء كثيرة، إذ تملؤه رائحة قاسية، يسوده الصمت "المسكون بالانفجار" (27) الذي لا يخلخله سوى تسرب الماء من " حنفية دورة المياه.. بوقع ثابت كأنه دقات الساعة" (28) ، وينتشر فيه الدم والبراز والجرذان والحشرات... وإذا كان المكان السابق يسع سبعة جلادين ثامنهم سجينهم، فإن هذا المكان لا يسع أكثر من شخص واحد هو طالع العريفي. وإذا كان المكان الأول مضاء، فإن هذا المكان مظلم ولا يتوفر إلا على " بلاطات زجاجية يتسرب منها نور باهت هو الذي يعلن قدوم النهار أو انتهاءه. (29) " وإذا كان المكان الأول يغلق بهدف تعذيب طالع العريفي جسديا بصورة وحشية، فإن هذا الأخير يغلق بهدف تعذيبه نفسيا بمختلف الأشياء الموجودة فيه، أولها الصمت الذي يدفع العريفي تدريجيا نحو الانفجار، وثانيها الضيق الذي يطبق على جسده في كل لحظة بهدف تكسير عظامه وعصر أمعائه، وثالثها قطرات الماء التي تتقطر بانتظام نمطي وبدون توقف كي تدفعه عنوة نحو الجنون، ورابعها الدم والبراز اللذين حولا المكان إلى بالوعة مخنوقة داخل رائحتها القاسية يقيم العريفي ليل نهار، وخامسها الجرذان والحشرات التي تقيم مع العريفي، وتتحرك في مكان لا يملك فيه القدرة على الحركة، إلا إذا كانت هذه الحركة صعقة يعقبها انفجار.
غير أن مجمل هذه العناصر المؤثثة للمكان والمحيطة بطالع العريفي تدحوه إلى شفا الموت، لكنها لا تلقي به في مهاويه كي تريحه من العذاب، بقدر ما تبقيه، على مقربة من هذه الشفا، يدور في فلك الجنون خارج الحياة وخارج الموت وداخل اللاموت واللاحياة.
ج ـ الانفرادي: " قلت لنفسي بنوع من التعزية: ليست المرة الأولى في الانفرادي، ومهما تكن ستنقضي. (30) " إن هذا الذي يسميه السارد بالانفرادي ليس زنزانة، إنه "علبة من الزنك القوي مسقوفة... أحد جوانبها بمثابة باب ... تكفي للوقوف. (31) " وفي كل علبة من هذه العلب المتراصة ألقي بواحد من السجناء السياسيين: عادل، هشام زينو، رضوان فرح، وحامد زيدان، وذلك عقابا لهم على عدم اعترافهم بالكيفية التي هرب بها أحد السجناء.
إن هذا المكان الضيق مغلق لا يسع أكثر من شخص واحد، إنه علبة من الزنك الذي يشوي من بداخله حين تصبح " الحرارة أنصالا تتهاوى من كل الجهات، وتنبع من كل مكان . (32) " غير أن هذه العلبة تتوفر على أربعة قوائم ليست مغروسة كليا في الأرض بحيث يسمح وضعها هذا بتسرب الهواء إلى داخلها. ولأن هذا الهواء ساخن فهذه العلبة " مثل موقد ينفث نارا، إنها أكثر من فرن" (33) . لقد بنى مهندسو السجن هذه العلب بهذا الشكل حتى إذا عجز الجلادون عن إنجاز ما أرادوه بسجنائهم، ألقوا بهم فيها، ثم فسحوا المجال لسرب من العقارب كي تتمم الدور المنوط بها.
إن الدور الذي نهض به هذا المكان الخاص لا يكمن في اختبار قوة تحمل نزلائه، بل في الدفع عنوة بما تبقى من هذه القوة نحو التلاشي الذي لا يعقبه سوى انهيار الجسد/ الموت، أو انهيار النفس/ الجنون.
وإذا كان السجناء الثلاثة قد قاوموا إلى هذا الحد أو ذاك، وتمكنوا إلى هذا الحد أو ذاك من الانتصار على الموت اختناقا كما اشتهى الجلادون، فإن المعتقل السياسي هشام زينو الذي قاوم الحرارة بقوة عجز عن مقاومة العقارب الكثيرة حول رجليه، ولذلك هدّه الرعب الذي قاده مباشرة نحو الجنون.
لقد حرص السرد على بناء هذا المكان بناء عموديا جعل الشخصية المحكي عنها مأوى له بدل ان يكون هو مأوى لها. ولذلك تحول إلى صاروخ ساخن قابل للانفجار في أية لحظة. ولأن هذا المكان محشو بهجير الشمس الحارقة وبالعقارب المنتفضة، فقد تحول إلى قبر واقف لا يمكّن صاحبه من موت مريح، بل يوقفه في منطقة وسطى بين الحياة والموت كي يمعن في تدميره، إما ليقذف به إلى دائرة الموت، وإما إلى دائرة الجنون.
فكيف استطاع المعتقلون الثلاثة ـ عدا هشام ـ مقاومة هذا العذاب الفريد؟
هذا ما لا نستطيع الإجابة عنه.
3 ـ المكان البرزخ أو العتبة:
البرزخ هو العتبة الفاصلة والواصلة بين مكان ومكان، إنه مكان عبور لا ينتمي إلى مكان الانطلاق كما لا ينتمي إلى مكان الوصول. ولذلك فهو ليس مكانا ما دام ليس محل إقامة. وإذا كان البرزخ في القاموس الديني هو المكان الفاصل بين الموت والبعث؛ الشيء الذي يسمح للمقيمين فيه براحة خاصة، فإنه في قاموس الرواية مكان خاص يجبر المرء على الإقامة فيه لسبب أو لآخر.
هناك أماكن كثيرة من هذا النوع في الرواية سنحاول الوقوف على بعضها:
أ ـ ثلاجة المستشفى: " مات طالع، يوم الأربعاء مات... بقي جسد طالع في براد المستشفى أياما طويلة امتدت إلى أسابيع. (34) "... لقد قاوم طالع أمراضه المختلفة الناتجة عن التعذيب، ولقد أسعفته هذه المقاومة كي يتم مذكراته التي حكى فيها تفاصيل اعتقاله. غير أن الموت انتصر عليه في نهاية المطاف.
" لقد مات طالع يوم الأربعاء "
ولأن طالع العريفي أبعد عنوة من وطنه بعد أن أطلق سراحه، ومنع من دخوله ثانية، ولأنه مات ويجب أن يدفن في وطنه، ولأن القائمين على الوطن رفضوا طلبه ميتا، فقد بقي جسده في ثلاجة المستشفى أياما طويلة. لقد أجبر طالع على الإقامة في هذا المكان / العتبة بعيدا عن الحياة وبعيدا عن الموت. فإذا كان طالع ميتا فعلا الآن، فإن موته غير مكتمل مادامت طقوس الدفن التي تكرم الميت لم تتم.
إن طالع العريفي معتقل في عتبة، إنه معلق في مكان معلق ما دام لم يجد قبرا يأويه. وأن يستمر كل هذه الأسابيع في ثلاجة المستشفى، فهذا معناه أن جلاديه / أمراء دولة " موران" لم يشفوا غليلهم منه بعد. ولذلك يستمرون في تعذيبه في هذا المكان الذي تصعب الإقامة فيه على الموتى. لقد رفضوا منحه جواز سفر للعودة إلى وطنه ميتا ما دام قد أبعد منه حين كان حيا. ولكن بعد مفاوضات عسيرة " تمت الموافقة لاعتبارات إنسانية، وتقديرا لرغبة بعض الجهات التي توسطت في الأمر، على استقبال جثمان المومأ إليه. (35) "
إن هذا المكان الرهيب يشخص الصورة البشعة للاستبداد السياسي، وبذلك يختزل ما ترغب الرواية في قوله. فأن يعتقل أهل الرأي، وأن يعذّبوا، وأن ينفوا من الوطن... فكل هذا هيّن، ويمكن قبوله إلى هذا الحد أو ذاك. ولكن أن يتم رفض عودة الميت إلى وطنه، وأن يتم الإصرار على بقائه ميتا في ثلاجة مستشفى أجنبي، فهذا معناه أن الاستبداد ليس نظاما قمعيا فحسب، إنه نظام عنصري أيضا يقبل من يخدمه ويخضع له، وينزع الهوية ممن ينتقده أو يرفضه.
ب ـ الغيبوبة: لقد كان طالع العريفي كلما أجبر على تجاوز عتبة غرفة التعذيب، وجد نفسه داخل فضاء محكم الإغلاق. وأمام استمرار التعذيب كانت تفتح أمامه عتبة، كان حين يجتازها يجد نفسه داخل فضاء خاص هو فضاء الغيبوبة حيث يتحرك صوت واحد هو صوت الأم. " لا تنس ما أقوله لك يا بني يا طالع..." (36)، أو حيث لا يتحرك شيء " وسرى الألم مثل دورة كهربائية من مكان الضربة ليعم الجسد كله، حتى غبت عن الوعي نهائيا، ولم أعد أتذكر شيئا مما حصل بعد ذلك" (37) . ففي هذا الفضاء الخاص كان جسد طالع العريفي يراوح بين الصحو والسهو: في الصحو يعاني العذاب المطلق، وفي السهو يستشعر الراحة المطلقة. وبين الصحو والسهو يجتاز عتبة اليقظة ليلج عالم الغيبوبة. وفي هذا العالم يحاور أمه، أو لا يحاور أحدا. وفي العالمين معا يراوح طالع بين اللاموت واللاحياة: يريد الموت فلا يجده " لماذا لا أكون ميتا " (38)، ويريد الحياة ولا يجدها، ولذلك يستمر معلقا في فضاء خاص لا استقرار فيه هو فضاء العتبة المفتوحة على كل شيء ممكن.
وفي هذا الفضاء الخاص كان طالع يشعر بالصفاء المطلق الذي لا يشعر به إلا من جرب الغيبوبة. ولكنه كان في ذات الوقت، حين يستفيق من هذه الغيبوبة، يشعر بسخرية القدر التي قادته إلى هذه الحالة العصية على الإدراك.
لقد أحصينا عددا هائلا من العتبات التي انتقلت عبرها الشخصية الروائية/ طالع العريفي إما من سجن إلى آخر، وإما داخل السجن الواحد من مكان سيئ إلى آخر أسوأ منه ( السرداب، العنبر، غرفة التعذيب، زنزانة الموت....) وهذا يعني أن مجمل العتبات في الرواية كانت تنقل الشخصية الروائية من دركة إلى دركة وصولا إلى العتبة الأخيرة/ ثلاجة المستشفى التي كان من الممكن يتجاوزها طالع إلى قبره الخاص ولكنه لم يستطيع إلى ذلك سبيلا. ونفس هذا الكلام ينطبق على عادل الذي غادر عتبة السجن ليجد نفسه مقطع الأوصال وداخل متاهة لا تفضي إلا إلى الدمار.
4 ـ المكان الفارغ أو اللامكان:
إن ما لا يقوله المكان الروائي يقوله اللامكان بصورة مضاعفة. وكلما مارس اللامكان حضوره القوي في الرواية كلما تاخم محكيها حدود الموضوع المأساوي الكبير. وإذا كان ما لا يقوله النص " يشكل البنية المبدعة للإمكانيات التي ترتكز عليها الحركة التأويلية للذات المتلقية" (39)، فإن ما لا يقوله المكان هو ما يقوله اللامكان. وما يقوله هذا اللامكان يشكل الدلالة الضمنية الكبرى التي يخفيها النص الروائي والتي يستطيع القارئ السيميائي إماطة اللثام عنها.
ثمة لا أمكنة متعددة في الرواية سنحاول الوقوف على بعضها:
أ ـ القبر: يعتبر القبر في القاموس الديني عتبة وسطى بين عتبة أولى هي الموت وعتبة ثانية هي البرزخ الذي يعتبر هو الآخر عتبة وسطى بين عالم الحياة الدنيا وعالم الحياة الأخرى. أما في القاموس الافتراضي للرواية فالقبر مأوى لكل ميت جدير بالاعتبار. ومن لا ماوى له لا اعتبار له سواء كان حيا أو ميتا.
وإذا كان هايدغر قد اعتبر موته هو الحادثة الوحيدة الخاصة به بشكل فريد ومطلق، فإن ما واجهه طالع العريفي حين اجتاز عتبة الموت إلى ثلاجة المستشفى جعل موته غير خاص به كما هو حال موت هايدغر؛ إذ ما انفك الآخرون/ أمراء دولة" موران" يتحكمون فيه وفي مصيره حتى وهو ميت. لقد قبلت حكومة " موران " بعد وساطة جهات مختلفة استقبال جثمانه، ولكنها في ذات الوقت رفضت تحمل تكاليف النقل. ولذلك "كان طالع العريفي في صندوقه أسفل الطائرة ... يسمع المناقشات التي تدور فوقه... وكان يبتسم (40) ". لقد اتجه طالع العريفي وهو في صندوقه إلى الوطن " ولكن دون عنوان، ودون أن يعرف أحد (41) ". فهل كان من الممكن أن نتصور طالع العريفي ـ وهو الذي واجه أقصى أشكال التعذيب ـ سيقبل بهذا المصير لو كان بإمكانه ان يفعل شيئا ؟ فأي دليل يمكن أن يقودنا إلى قبر العريفي الذي لا عنوان له؟ وما الذي قصده أمراء "موران" حين اتجهوا به إلى مكان لا عنوان له؟
لقد انزلق طالع العريفي من عتبة الموت إلى عتبة الثلاجة ثم إلى عتبة مجهولة لا عنوان لها. وهكذا يستمر مقيما في رحاب الأعتاب، في الفراغ وخارج كل مكان.
ب ـ وادي الموت: يتكئ هذا المكان الصحراوي الفسيح والمقعر خارج سجن القليعة. وإذا كان السجن فضاء لمختلف أصناف التعذيب التي يتلقاها السجين، فإن وادي الموت يحتضن النهاية المأساوية لكل من قدر له أن يقذف به إليه.
إن هذا المكان المفتوح على الأبدية قاتل. فلا يمكن لمن يجد نفسه فيه أن يستمر حيا، أما إذا ألقي به فيه من الأعلى، فإنه لا يسقط فيه مشتتا حتى تهاجمه الحيوانات المفترسة. " لازم تعرفوا: الوادي يناديني، الحيوانات تستنجد بي، ولا يمكن أن أصمت عن هذه النداءات، فاختاروا أي الشرين تريدون" (42).
إن هذا المكان الرهيب فراغ مهول يستقبل الأحياء موتى، لكنه لا يحتضنهم كي يقيموا في فنائه علامات شاهدة، بل يبتلعهم إما بواسطة حيواناته المفترسة، وإما بواسطة تجاويفه الفارغة المفتوحة على الفراغ المطلق الذي لا يبقي أثرا لمن يقاد عنوة إليه. " وفي اللحظة التي كان يتمشى الاثنان في الساحة، قريبا من مطبخ السجن، استدرجهم بعض الشرطة بحجة وجود حريق. وما أن اندفعا للمساعدة حتى أغلق الباب خلفهم، وهناك كان المساعد وعدد من الأفراد، فانهالوا على حامد بالضرب ليقتلوه، ولما تصدى لهم الداوودي دفعوا الاثنين إلى وادي الموت، من نفس المكان الذي تلقى منه القمامة (43) ".
ولهذا تحول حامد والداوودي في لحظة من معتقلين إلى مفقودين. لم يخترقا الحياةإ لى الموت. ذلك لأنه إذا كانت الحياة وجودا علامته البيت، فالموت وجود آخر علامته القبر. لقد اخترق حامد والداوودي الوجود إلى العدم؛ لأنهما اخترقا المكان إلى اللامكان حيث الفراغ الأجوف الذي ليس فيه شيء، وليس بعده شيء.
خاتمة:
لا نريد أن نعدد الصعوبات التي واجهتنا ونحن نقارب موضوعة المكان في رواية " الان.. هنا أو شرق المتوسط مرة أخرى" فهي كثيرة ومتنوعة. لقد كان هاجسنا الأساسي السعي إلى تقديم إضافات منهجية لمقاربة المكان في الأعمال السردية. ولهذا السبب لم نركز بالقوة اللازمة على الوصف الذي تعتبر دراسته رديفة لدراسة المكان. وإذا كان لا يخلو عمل سردي من مكون المكان، فإن حضوره القوي في هذه الرواية أو تلك يضفي عليها قيمة دلالية كبرى فضلا عن الوظيفة الجمالية؛ الشيء الذي يجعلها رواية كبيرة. ولهذا لا أحد ينسى أحياء القاهرة القديمة حين يقرأ ثلاثية نجيب محفوظ، أو لندن والخرطوم وما جاورها من قرى حين يقرأ "موسم الهجرة إلى الشمال" للطيب صالح، أو الخزان الكبير حين يقرأ "رجال في الشمس" لغسان كنفاني، أو باريس وشارعها الكبير مونمارت حين يقرأ "أوراق" عبد الله العروي...
وإذا كان السارد عادة ما يرسم المكان ويؤثثه بهدف رسم وتأثيث إيديولوجية الرواية، فإن السارد في رواية عبد الرحمان منيف وهو يطنب في وصف الأمكنة التي درسناها، ووصف أشيائها، ووصف مجمل الحركات داخلها، إنه إذ يفعل كل ذلك؛ فلكي يمرر فكرة جوهرية مفادها أن إمكانية الإقامة في مكان مثير للاشمئزاز مثل سجن العفير أو سجن القليعة، أو السجن المركزي مستحيلةتماما، وعليه فلا معنى للوجود الإنساني ما لم يتم تدميره تدميرا كاملا وإقامة شيء آخر مكانه يليق بالكرامة الإنسانية.
إن المكان في رواية " الآن.. هنا أو شرق المتوسط مرة أخرى " عصي على التمثل، وحين يقيم القارئ مكرها فيه تحت ضغط لذة الحكي سواء لحظة القراءة أو بعدها، يقيم في فضاء مرعب، يريد الحياة فلا يجدها، ويريد الموت فلا يجده؛ ليبقى معلقا إلى ما لا نهاية في مشنقة المأساة من عذاب إلى عذاب خارج الحياة وخارج الموت، وداخل اللاحياة أو اللاموت.

أحمد القنديلي

الهوامش:
(1) شاكر عبد الحميد "الغرابة: المفهوم وتجلياته في الأدب" سلسلة عالم المعرفة، عدد:384، يناير 2012، ص: 220.
(2) مطاع صفدي: " معاصرة الاختلاف والحداثة"، مجلة الفكر العربي المعاصر. عدد 44/45، سنة 1987، ص: 5.
(3) م. س، ص: 4.
(4) غاستون باشلار: جماليات المكان" ترجمة غالب هلسا"، المؤسسة الجامعية للنشر والتوزيع، ص: 39.
(5) انظر المرجع السابق.
(6) انظر في هذا الصدد كتاب " جماليات المكان" لمجموعة من المؤلفين، منشورات عيون المقالات، دار قرطبة، البيضاء، الطبعة الثانية سنة 1982.
(7) يوري لوتمان: "مشكلة المكان الفني" المرجع السابق، ص: 68.
(8) انظر المرجع السابق
(9) سيزا قاسم: " بناء الرواية"، دار التنوير للطباعة والنشر، سنة 1985، ص: 103.
(10) غاستون باشلار، م. س،ص: 63
(11) مطاع صفدي في مقاله بعنوان " الفكر بما يرجع إليه وحده: سؤال العتبات" مجلة الفكر العربي المعاصر، عدد : 102/103، سنة 1998.
(12) ص: 46ـ47 من الرواية.
(13) ص: 53 من الرواية.
(14) ص: 86 من الرواية.
(15) ص: 314 من الرواية.
(16) ص: 155 من الرواية.
(17) ص: 158 من الرواية.
(18) ص: 182.
(19) انظر جيرار جينيت: "خطاب الحكاية: بحث في المنهج" ترجمة: محمد معتصم وعمر حلي وعبد الجليل الأزدي، مطبعة النجاح الجديدة، البيضاء، سنة 1996.
(20) ص: 53 من الرواية.
(21) ص: 152 من الرواية.
(22) ص: 157 من الرواية.
(23) ص: 159 من الرواية.
(24) ص: 160 من الرواية.
(25) ص: 161 من الرواية.
(26) ص: 161 من الرواية.
(27) ص: 162 من الرواية.
(28) ص: 161 من الرواية.
(29) ص: 161 من الرواية.
(30) ص: 362 من الرواية.
(31) ص:362 من الرواية.
(32) ص: 363 من الرواية.
(33) ص: 370 من الرواية.
(34) ص: 50 من الرواية.
(35) ص: 51 من الرواية.
(36) ص: 254 من الرواية.
(37) ص: 256 من الرواية.
(38) ص: 257 من الرواية.
(39) فرانك شويرويجن: "نظريات التلقي"، انظر نظريات القراءة، ترجمة عبد الرحمان بوعلي، نشر الجسور، وجدة/ المغرب، سنة: 1995 ، ص: 78.
(40) ص: 53 من الرواية.
(41) ص: 53 من الرواية.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى