على حزين - بورتريه.. قصة قصيرة

في البهو الفاصل بين الرغبة والرهبة يقف العقل مخمورا , مبهورا.. والروح تئن من شدة الجوع والعطش , موسيقي وغناء , رقص , ومجون , ووجع لامتناهي
في تلك الليلة لم توصد النافذة كعادتها , الغرفة شبه مضاءة.. تظهر واضحة المعالم أمامه تضغط مكبس النور .. غادة حسناء متجردة من زينتها , اللهم إلا غلة صغيرة تبرز تفاصيل كل شيء والجسد الجائع للنشوة يصرخ ويئن .. ورقعة الضوء المتسعة تحتوي جسداً متوهجاً بالرغبة تجعل العقل يغرق في بحور من الإبهار والانبهار, ويتوه في أودية من خيال الدهشة والذهول .. وفيضان العرق يلجمه إلجاما .. وكأن كل جليد الأرض قد ذاب علي وجهه .......
كبس يديه أكثر من مرة على جفنيه ليتأكد أنه يقظ , وأن ما يراه ليس حلماً في منام , أو خيال .. والشتاء الذي يقف يدق على الأبواب تحول إلي صيف حار, جعله يتصبب عرقاً .. وصارت أفكاره المتزنة الرزينة قنابل محظورة , تتطاير في الهواء تنشطر عناقيدها تصل إلى ذرات العقل المَخْبوء فتذمر كل شيء فيه " يا الهي ما هذا الذي أراه ." ........
في مثل هذا الموقف , لا بد أن يُسدل الستار علي العقل ليغيبه تماماً , والصمت يطبق علي المكان , لكن ثمة شيء ما يظل صاخبا في دواخلنا ناره لم تخبو بعد .. حينها شعر بتيار كهربائي يسري في جسده , ووجد نفسه حائرا , ولا يستطيع منها انفكاكاً ، وجذوة نار في قلب صدره اتقدت , من شدة وقع المشهد .. يضع يده علي فمه .. وفي رأسه مطارق من حديد , وعينيه اتسعتا عن أخرهما ...."
عبثا حاول أن يجمع ما تبقى من قواه المنهارة .. وهو لا يستطيع أن يتحكم في ضربات قلبه المتلاحقة .. وصوت المغني لم يزل يغني.. ينبعث من الجهاز , ويردد صداه في المكان .. وهي واقفة علي تلك الحالة.. وهو يحاول جمع ما تبقى من جيوش المقاومة المنهزمة بداخله , ولكن هيهات فكل دفاعاته الحصينة دكت ، انهارت , هوت , تكسرت فوق صخرة اندهاشة.. وسقطت سقوطا مدوياً ........
{{ أعلم أن الحد الفاصل بين العقل والجنون شعرة , والانقسام سنة من سنن الكون والانجذاب نحو النواة أمر حتمي, والدوران حول مركز الدائرة النواة سر من أسرار الوجود .. والتصنع طبيعة في البشر, والنظريات دائما ما تكون نسبية, مثل وجهات النظر المختلفة, وحين يستسلم الجسد لرغباته يموت, والخطيئة تنطفئ شعلة الروح كما يطفئ الماء نار الحطب ، وحين تسقط الأقنعة تتكشف الحقائق والرغبة والنشوة وكذا المستحيل ثلاثتهم يجعل الخيال يتسع ويتضخم ويقوى, وحين تستيقظ الخطيئة للحظة بداخلنا تتلبسنا فكرة غبية وحين نستسلم لها تجلدنا بكرابيج من نار وتشدنا بحبل من مسد , نحو الهاوية ..}}
تقف أمام الدولاب .. لحظات امتزجت فيها الرغبة بالرهبة .. أنثى صُُبت في قالبٍ من البلور ألأبيض الصافي المتشرب بماء الورد المعطر برائحة الفل والياسمين وجنات كزهر الرمان الأحمر , ووجه ملائكي الملامح .. صوت ناعم كقطعة من الحرير الفاخر .. أنوثة طاغية.. وفتنة شديدة ..
وصوت المغني ينبعث صداه من الجهاز الذي هو فوق المكتب , وهي تطلق عقيرة صوتها بالغناء , تردد معه.. فينساب صوت رخيم .. كهسيس المطر فوق الأغصان والأوراق العطشى تبعث وتدب فيها الحياة من جديد , حينها جف ريقه ويبس .. حتى انه خيل له لو أن كل بحار العالم صبت في فمه ما بلته .. ولما استطاعت أن تطفئ لهيب النار الذي شب واستعر في جوفه........
وراحت تفصل بينهما ثواني كسنين ضوئية , وهو يتابع حبيبات الضوء المتناثرة المنبعث من الجسد المتوهج بالنشوة , في زاوية ما من زوايا الغرفة فوق المرأة الضخمة , كان يصطلي علي مهلٍ .. ويصهل بداخله ألف حصان......
وكان العقل يقف علي شفا جرف هار يوشك أن ينهار بين حافتي الطيش والجنون والأفكار تثب أمامه شياطين صغيرة تقع علي الأرض تتطاير في الهواء لتفجر سكون الليل , واتسعت شرايين القلب , وازدادت ضرباته المتلاحقة مائة ألف ضربة في الدقيقة الواحدة , وصدره تحول إلى كير كبير يعلو ويهبط .............
حين رآها تجوب الغرفة الصغيرة تقطعها ذهابا وإيابا مثل وردة بيضاء من غير سوء .. علي أنغام الموسيقي الصاخبة.. لأغنية ركيكة الكلمات والمعاني مستوي ألحن والغناء فيها هابط .. ضربت قدمها بالأرض مع إيقاع الطبلة , تمايلت , رقصت هزت , غنت , وقد جمعت هدب ثوبها في يدها البض ذات الأصابع الطويلة إلي خصرها النحيل هزت فارتج وسطها بعنف كعود لبلاب طرى الممتلئ قليلاً .. اعتدلت , مشت في خفة , تمَايست وكأنها راقصة باليه محترفة , أو مهرة برية جموح في حلبة طبل بلدي , والنهد الصَبٌ يترجرج .. حمامتان بيضاوان ترفرفان تحلقان في المكان أو أرنبان صغيران يقفزان في بهجة وسعادة دون خوف أو كسل
ينطلق العقل خلفهما في اللاوعي تغتاله الدهشة ويحلق في فضاء بعيد وهو يلتحف الخيال , وتتلبس البهجة شرايينه تحل في زاوية من زوايا الروح فتظل تصرخ كوحش جائع كاسر بدائي فوق جبال من الرغبة المحمومة لجسد عار يلملم بعضه المتناثر من فوق المرايا .. وهو يلملم شتات أفكاره .. ورعشة لذيذة راحت تدغدغ مشاعره .. وهو يقف يقتات الصمت , والخوف يأكله ..............
وكان يتابع تمردها عن كثب.. والكون يمارس طقوسه الأبدية والخوف يملأ المكان
للحظات ليست بالقليلة برهة من عمر الزمن وقعت بقعة ضوء علي وجهه المظلم . المرايا لا تخفي شيئا رقعة الضوء فيها تتسع ويتسع الخيال وتتوحش فيها ينابيع الرغبة تفجرت عيونا بداخله , والرغبة جامحة ككلب مسعور ينهش كل ذره في الجسد المحموم , التي أخذت طريقها للنمو السريع بطريقة خرافية فوضوية, تكبر, تتضخم , تنقسم علي نفسها , وكان العقل يتسكع بين البهجة والدهشة.. والمرآة تحاكيها .. وقد انتابته حالة نادرة غريبة تشبه الحالة التي بين الإغفاءة والإفاقة , أو بين السكر والنشوة , حينها صلبت الرغبة شرايين الطين .. وسقط في هاوية الخبال .. والعقل يكاد يفر من قُمع رأسه المتعبة المثقلة بالتداعيات، لكن ثمة شيء ما يبقي بدواخلنا يظل يئن من شدة الجوع والعطش مع الخوف والرعب, سخيفة هي الأشياء التافهة التي تؤثرنا فينا كل يوم ، لكننا لا نستطيع أن نتخلي عنها ..
لفه ذهول تام واغتالته اللحظة , فكاد يسقط من هول المفاجأة التي كانت أقوى منه ومن كل توقعاته , فالمفاجأة شلت تفكيره واعتقلت قدماه, وأصابته بدوار شديد لم تخطر بباله للحظة في يوم من الأيام ولم تكن في الحسبان أن يراها هكذا حاول أن يقاوم ضعفه فلم يستطع لذالك سبيلا...
لحظة أن رآها نجوب الغرفة أيقن أن ثمة شيئاً ما سيحدث وأن الأمر جد خطير.. وأنه أمام حدث جلل , وأنوثة طاغية لا تقاوم, وجسدٍ من لهب, تباهي به القمر جمالاً, ودلالاً, مع دلع , يا لها من فاتنة قاتلة...
برهة من الزمن .. جلس علي أريكته, ريثما يلتقط أنفاسه المتلاحقة وكأنه أراد أن يعطي عقله هدنة أو فسحة للاستراحة , وراح يحلم , ويتمنى, ويشتهى .. عبثت بشعرها أنسدل ليلُ بهيم نشبت فيه أناملها الطويلة ثم راحت تلعب معه لعبة التسريحات الجميلة، مشطته صنعت منه تسريحات "بربرية" " غجرية"...
وقلبه يرفرف كعصفور صغير لا يقوى على الطيران , وكأن كل الأجهزة بداخله تعطلت وتوقفت عن العمل .. وبعد محاولات ذاويه للمقاومة استسلم , ورفع الراية البيضاء ...
وحين شعرت بوجوده أقبلت نحوه , وقفت أمامه في تحد سافر .. ضحكت حتى مالت للوراء , ولم ترتبك , ولم تهتم , ولم تبالي بوجوده .. فهي تعلم انه يراها.. وهو يعلم أنها تعلم انه يراها .. ومع ذلك انسلت بعيدا في هدوء وانصرفت دون أن تعنفه , أو توبخه , اختالت في مشيتها , دارت حول نفسها بحركة سريعة تمايلت وتبخترت بخفة ورشاقة متناهية , وضعت يدها في خصرها .. انثنت ثم اعتدلت بقدها المياس , أسرعت في حركات الجسد فارتعش وظل ينظر إليها وهي تتمايل وتعتدل علي أنغام الموسيقي الصاخبة وهى تغنى بصوت رخيم....
أما هو لما رآها هكذا , أنخطف لونه , توترت أعصابه , وأصفر, وعقله طاش , وجن , وارتعدت فرائصه , بعدما انتابه شعور بالخجل الشديد من نفسه.. وحمى من نوع ما سرت في جسده , وراح عقله يطير يسبح معها , لأبعد مدى في الكون ......
خنس انزوي في ركن بعيد حتى لا تراه كتم أنفاسه المتلاحقة وقف يلهث وهو يخشي أن تراه أو أن تسمعه .. وظل واقفا في الليل, وهو خائف يترقب, ينظر إليها وينتظر تمردها عن كثب , حتى طال انتظاره .. وطال شروده ,
طفت فوق مخيلته فكرة مجنونة ملعونة متطرفة , فكرة مدمرة رفضها ووأدها في حينها , فصرف عيناه عنها , وانصرف



على السيد محمد حزين ــ طهطا ــ سوهاج ــ مصر

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى