أدب المناجم عبدالعالي أواب - رائحة الخبز /2

يوميات عامل:


صباح الخير أيتها المدينة الجميلة, عروسة حلمي الجميل!
صباح الخير بائعو و بائعات الخبز و الرغيف !
أبعدوا عني روائحكم, إني ذاهب إلى طبيب الشغل,صائما كما أمرت من قبل,وإني لأحمل جوع جيل..
أمام باب المستشفى المنجمي إلتقيت بمجموعة من الرفاق القادمين من كل فج وجيع, مذعورين تجوقنا كقطيع خرفان,لا حديث يدور بينا إلا عن سلامتنا الجسدية وعن جنون الطبيب الشبح المخيف,الذي بيده الخبز وإليه المصير..ثرثرنا قليلا ثم تشجعنا قليلا كي لا يتهمنا السيد الطبيب بضعف القلب أو إرتفاع ضغط الشرايين أو فقر الدم أو بالإذمان على التدخين..إنه المصيرو ما أدراك ما المصير
عند الباب الرئيسي إستقبلنا الممرض, رجل نحيف يرتدي وزرة بيضاء , شاحب الوجه يدخن ويقحب ..يبدو وكأنه مريض هو الآخر.سألنا,هل أنتم العمال الجدد؟ أجبنا جماعة بنعم,قال إتبعوني..تبعناه.
في الطريق, كادت روائح الأدوية تزكم أنوفنا المشرعة, مررنا على أشياء كثيرة تثير الإنتباه, قطط رومية بدينة تحتل جهة المطعم, عمال معطوبون يجرون عكاكزهم ومرضى صُفر يتشمسون هنا و هناك في حديقة مصفرة الأعشاب, منهم من يدخن ومنهم من يعيد فطوره, و منهم من يقرأ الجو رتال, و آخرون يلعبون الورق تحت أشجار الكلبتوس الوارفة, كل يمارس فوضاه كما يحلو له و كأنهم على علم مسبق بأن الطبيب المدير, مشغول ..قلت في نفسي ربما صادفنا وقت الإستراحة!
إنتهى بنا المطاف إلى قاعة باردة شبه مظلمة, بها بضع نعال من بقايا جلد العجلات القديمة,حشرنا فيها ثم قال لنا الممرض : هيا اخلعوا ملابسكم, كل ملابسكم وأحذيتكم كذلك, كي تتقدموا واحدا واحدا للطبيب بكل صمت وهدوء, و لاتنسوا أن تستعملوا هذه النعال الخفيفة ,مشيرا إلى نعالهم الطبية !..فعلنا كل ما أمرنا به خائفين من شبح الطبيب
جاء دوري, تقدمت إليه. بسملت في السر وسلمت في العلن.لكنه لم يرد على سلامي, فقط تفرسني جيدا من فوق نظارته الزجاجية اللامعة ثم أشار لي بيده إلى الركن المقابل وقال:إصعد! إلتفت إلى الركن فتراءى لي سرير أبيض مرتفع شيئا ما عن سطح الأرض, توجهت إليه وامتطيت السلم ثم تمددت على ظهري وأنا أرتعش من شدة البرد,قلت سأنتظر ريثما ينتهي صاحبنا من فحص ملفي وتثبيت هويتي..
ولا زلت انتظر قدومه بكل دهشة و حذر حتى سمعت همسا خفيفا .اسمك؟ سنك؟ أجبت مستغربا من السؤال, فلان,سيدي,إثنان و عشرون سنة..ثم تساءلت في سري كيف يسألني عن إسمي و سني و ملفي جاهز بين يديه!؟ سرعان ما عدت إلى غيي وقلت حاشا أن يكون هذا الطبيب أميا, فلا شك أنه يريد فقط اختبار سمعي .. و ما هي إلى برهة حتى جاءني و بيده جهاز لامع تمتد خيوطه إلى ثقب أذنيه, وضعه على صدري وقال لي : استرخي واستنشق بطريقة طبيعية..استرخيت وما استرخيت, ثم استنشقت بطريقتي العفوية وهو ينقل الجهاز الفاحص من ضلع إلى ضلع إلى أسفل البطن, ثم أكمل الفحص بإدخال أصابعه في صرة بطني بعنف, يدلك ويهلك وكأنه يريد أن يعرف ما بمصاريني من فتات! وحين انتهى من الدلك قال: انزل, نزلت . تمشى, تمشيت .اقترب, اقتربت. أغمض عينيك, أغمضتهما.التفت إلى الحائط, التفت إلى الحائط..ثم باغتني بإنزال سترتي و قال لي: أقحب, قحبت .زد أقحب, قحبت و قحبت ..حتى تأمل خلقي جيدا, هذا الأخير الذي لم يره قط رجل من قبل..
ولازلت شارد البال أتأمل وأتساءل في سري: عن علاقة القحبة بالجهاز البولي..إلى أن سمعته يقول: افتح الباب واخرج, سالم على سلامتك..
قلت في نفسي: الحمد لله على أنه لم يكشف على عورتي كما فعل مع كثير من العمال الجدد وذلك للتأكد من سلامتها هي الأخرى!
بسرعة هرعت إلى الباب, فتحته وخرجت محمر الوجنة فرحا أبحث عن ثيابي لأستتر.وبعد أن لبستها, انتظرت قليلا إلى أن ناداني الممرض هذه المرة بإسمي قمت وتقدمت له, وكان يحمل ورقة مختومة من طرف السيد الطبيب,ناولني إياها وقال لي هل لا زلت بلا فطور؟ قلت له مشتهيا,نعم ياسيدي, لا زلت لم أفطر بعد.. ظانا أنه سيناولني بعضا من الرغيف, من مطعم المستشفى الذي تشم روائحه من بعيد لبعيد, لكنه ضرب بيمناه على كتفي وهو يناولني الورقة قائلا: مبروك على سلامتك, ناجح في كل الإختبارات وكذلك حتى في تحليل الدم والبول ..خد شهادتك واذهب لتبحث لك عن فطور..ولا تنسى أن تعود في المساء مع رفاقك إلى( بيرو مكانة ) ..
لم أفهم ما قاله بالضبط, اكتفيت بأخذ الورقة من يده وانصرفت مذهولا إلى حال سبيلي دون أن أستفسره بالظبط عن المكان المقصود, لأنه كان مدروكا ولأني كنت كذلك مهلوكا!
في المساء تبعت رفاقي الناجحين إلى ما يسمى بـ( بيرو مكانة),إنه مبنى مسيج يحوي مجموعة مكاتب مرقمة متداخلة فيما بينها تبدو عليها علامات القدم وبوادر الإهمال..
وقفت امام المبنى أتأمله وأتساءل عن معنى التسمية المفرنجة( بيرو مكانة) ؟؟ علما بأني كنت أعرف مسبقا أن كلمة( بيرو) تعني بالعربية مكتب, وكلمة مكانة بثلاث نقاط فوق الكاف كلمة عند العامة تعني ساعة..لكنني ظللت أتخبط في البحث عن مدى علاقة البيرو بالمكانة..إلى أن جاء دوري ودخلت على رجل هائم وسط حزمة من الملفات و الأوراق المغبرة, ما كدت أن أشبع فيه فضولي حتى أشار إلى كرسي أعرج وقال لي إجلس! جلست,فإذا بشعاع يبرق في وجهي بعجالة من عين آلة فوتوغرافية منقرضة النظير, ثم قال لي: قم و اتبعني إلى المكتب المجاور لأسلمك بطاقتك و رقمك التأجيري.. تبعته, انتظرت قليلا هناك إلى أن جاءني ببطاقة من الورق المقوى مغلفة بألياف من البلاستيك بها صورتي وإسمي و رقمي, تشبه إلى حد كبير شكل البطاقة الوطنية لكنها أصغر منها بكثير..سلمني إياها مرددا إسمي, فلان الفولاني حداد معلم من درجة خمسة( جوري) أي رتب, حينها أدركت مدى علاقة المكتب بالساعة وقلت في نفسي: من هنا يبدأ العد! إنه أول يوم شغل محسوب من أيام العمر وهذا هو رقمي التأجيري, يجب علي أن أحفظه عن ظهر قلب..
انصرفت وأنا أردد رقمي التأجيري الجديد, مبتهجا,
(سبعة,ثلاثة,سبعة,صفر, ستة)
يعيش هذا الرقم,يعيش..!


ـ عبد العالي أواب ــــ يتبع

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى