أنطوني ساماراكيس Antonis Samarakis - الفارسُ الأشقر.. ت: د. نعـيم عطـيّة

ذات مساء في يناير الماضي دخل صيدلية ليلية واشترى علبة من الحبوب المسهلة، فقد كان يعاني من امساك مزمن في السنوات الأخيرة. ثم ذهب ليأخذ الأتوبيس إلى بيته.

وجد صفًا طويلا من المنتظرين في المحطة. ظل ينتظرُ صابرًا، وفي النهاية أمكنه الصعود. في العربة وقف. كان قصيرًا، على قدر البدانة، ذا بطن تندمج قليلا. وفي نوفمبر الماضي بلغ السابعة والأربعين.

بجواره كان ثمة من يضغط عليه. وبعد قليل نهضت سيدة، ونزلت، فجلس هو من مكانها. عندئذ وجد مجلة "عالم الأولاد" وهي مجلة من مجلات الأطفال. كانت أول مرة تقع عينه فيها على هذه المجلة. لم يكن له شأن بمجلات الأطفال من قبل.

ألقى نظرة على الغلاف الملون. كان يصور راعيًا من رعاة البقر يقفز بجواده الأبيض. وقد كتب تحت الصورة: تابعوا قصتنا الجديدة "مغامرة في الغرب القصي" التي تبدأ في هذا العدد. المجلة تصدر كل سبت، كما هو مكتوب على الغلاف. وكان هذا عددها الأخير، ولم تُفض صفحاته بعد. لم يكن يدري ماذا يفعل به، فليس له أولاد. أربعة عشر عامًا مضت على زواجه، والسبب عقمٌ أصاب امرأته. وفي الديوان الذي يشغل به وظيفة صغيرة منذ ثماني عشرة سنة، كان موضع سخرية زملائه لأنه لم ينجب أولادًا.

تلفت عله يجد طفلا يعطيه المجلة، ولكنه لم يرَ من حوله سوى كبار. فكر أن يعطيها لولد من أقربائه، لابن بنت عمه، وهو صبي عفريت في الحادية عشرة من عمره، يقطن في جيرته.

كانت ثمة رائحة عطنة في الأتوبيس..

وعندما وصل إلى بيته، دخل إلى غرفته الصغيرة التي كان ينفرد بها إلى جوار غرفة الأكل. بغرفته مكتب صغير ومكتبة وحاملان صفت على رفوفهما الكتب. لم يكن الطعام قد أُعدَّ بعد وكانت زوجته بالمطبخ، تطهو مكرونة باللحم المفروم. ذهب إلى غرفته الصغيرة حتى يجهز الطعام. كان قد ترك المجلة على أحد الأرفف.

بسط صفحات جريدته. أحس وجعا بساقه اليسرى. كان يعاني من الروماتيزم. سوف يطلب من زوجته أن تدلكه عندما يصبح الجو رطبًا، أو يصعد سلمًا، تنتابه الآلام.

مضى زهاء أسبوع على ذلك. الوقت ليل، بعد العشاء لم تكن به رغبة في النوم. أغلق على نفسه باب غرفته وفتح مجلدًا من مجلدات الموسوعة.

كانت زوجته قد أعدت له قدحًا من القهوة ثم مضى إلى سريره ورقد.

قرأ عشر دقائق. انتابه الضجر. نهض، طاف بأرجاء البيت، أشعل سيبجارة. وفي النهاية، قرر أن يذهب لينام. وعندئذ لمح "عالم الأولاد" التي كان قد نسيها على الرف، فكر في أن يقتل بعض الوقت.

كانت الساعة الحادية عشرة إلا ثلث تقريبًا عندما أمسك بالمجلة، وكانت الساعة الواحدة والنصف عندما تركها.

أجهز عليها كلها. قرأ القصتين الطويلتين "مغامرة في الغرب القصي" و "سنتان في الغابة" وهذه الأخيرة كانت تنشر في حلقات منذ أعداد سابقة. وقرأ القصص، وحكاية "عروس الخريف" التي كانت موجهة إلى أولاد أصغر سنا، وصفحة "الذكاء" وفض الكلمات المتقاطعة، وحل الفوازير، وعثر على "الصورة الخفية" التي اقتضت منه بعض الجهد والوقت، ركبه الإصرار ووفق إلى الحل في النهاية. كانت الصورة أرنبًا صغيرًا تبحث عنه أمه. وقرأ صفحة "أصدقاؤنا الصغار" التي تنشر قطعًا أدبية للقراء الصغار. كما قرأ صفحة "أصدقاءنا الصغار فيما بينهم" حيث يتراسل الأولاد تحت العديد من الأسماء المستعارة ويتبادلون شتى الدعابات. وفي النهاية، وضع المجلة في درج من أدراج مكتبه وذهب لينام. استلقى إلى جوار امرأته التي رقدت على ظهرها فاغرة الفم.

حلم تلك الليلة حلمًا. رأى نفسه راعيا من رعاة البقر يمتطى جواده الأبيض ويجري في مرج من مروج الغرب القصي. وبينما هو ماض في قفزه هذا، استدار على الجنب الآخر وسقط على زوجته دون أن يصحو من نومه. على أن المراة استيقظت معتقدة أن زوجها قد اشتاق إلى بعض المداعبات التي كفّا عنها مؤخرًا. وإذ رأته غارقًا في سباته؛ استدارت على الجنب الآخر وعاودت نومها.

ثمة شيء حدث بداخله منذ تلك الليلة. أمر ما قد تغير..

يوم السبت من كل أسبوع، صار يشتري "عالم الأولاد" وفي اللحظة التي يشتريها من الكشك يلقي نظرات متلصصة حوله، فقد كان يداخله إحساس بأنه إنما يفعل شيئًا مخالفًا للقانون. وفي الليلة ذاتها بعد العشاء، يغلق على نفسه غرفته الصغيرة ويقرأ المجلة. لم يصارح بالأمر أحدًا. ومن في إمكانه أن يحس به!

كان يغلق على الأعداد درجًا من أدراج مكتبه.

ثمة شيء حدث في أعماقه.. وهو يقرأ "عالم الأولاد" عثر من جديد على عالم الأولاد. عالم جد مختلف عن عالم الكبار.

في الديوان كف عن تنكيس الرأس. من قبل، عندما كان يرى انحرافًا أو خطأ لم يكن يفتح فمه بالكلام خوفًا وتعودًا على تقبل كل شيء بلا احتجاج. أما الآن، فقد أصبح مختلفًا. بل وفي ذات مرة دعته إلى مكتبها إحدى الشخصيات البارزة بالوزارة. إحدى الرياسات الكبيرة، ومضت تضغط عليه حتى يأتي تصرفًا في اختصاصه مخالفًا للقانون، أن يقيد طلبًا بتاريخ سابق، ولكنه لم يرفض ذلك فحسب، بل وخبط مكتب الرئيس بقبضته بشدة حتى أن قدح القهوة دُلقَ ولَطّخَ بعض الأوراق. أسقط في يد الرئيس. لم يكن يتوقع ذلك قط.

لاحظت زوجته ما طرأ عليه من تغيّر. لاحظت أنه يعتني بنفسه. اشترى ربطتي عنق جديدتين. تبدل حاله. قلقت. شكت في أن تكون امرأة أخرى قد دخلت حياته. لكن مالبث أن هدأ بالها وقد لمست رقته البالغة معها. اعتقدت أن حبه القديم لها قد أزهر من جديد.

ومن ناحية أخرى، فقد شُفيَ من الامساك الذي كان يعانيه..

أرسل ذات مرة إلى المجلة قطعة من الشعر المنثور كان قد كتبها "تأملات في الخريف" هذا هو العنوان الذي أعطاه لمقطوعته. بعث بها إلى صفحة "أصدقاؤنا الصغار يكتبون" احتاج بطبيعة الحال أن يتخذ لنفسه اسمًا مستعارًا. فكر في كثير من الأسماء، وفي النهاية اختار "الفارس الأشقر" كان أسمر اللون ومنذ صغره وهو يحسد الشقر، ويتمنى أن يكون أشقر.

نشرت المجلة مقطوعته النثرية الشعرية. وكم كانت فرحته كبيرة ثم نشرت له مقطوعة أخرى. وبعد ذلك رفضت له مقطوعة ثالثة. وردت عليه المجلة بقولها "الموضوع الذي اخترته يا صديقنا الصغير أعلى من سنك. انتظر حتى تكبر قليلا وعاود من جديد".

هكذا كانت الأمور عندما قرأ –بعد شهرين ونصف تقريبًا على الليلة الأولى التي قضاها مع "عالم الأولاد"- قرأ في العدد الأخير من المجلة بصفحة "أصدقاؤنا الصغار فيما بينهم" الخبر الآتي:

(اعتزمنا أن نقيم أمسية موسيقية أدبية. ولذلك فإننا نرجو من أصحاب الأسماء الآتية من أصداقئنا المعروفين لدينا وغير المعروفين أن يشرفونا بالحضور: كارمن، ماريا ستيورات، إغرامبيللي، ذو القناع الحديدي، نابليون، الفارس الحزين، الفارس الأشقر...).

وتوالت أيضًا بعض الأسماء المستعارة الأخرى. ثم أردفت الدعوة تقول "أننا في انتظارهم جميعا ونهيب بهم ألا يتخلفوا عن الحضور، يوم الجمعة الثاني من أبريل الساعة السابعة مساء، 145 شارع النصر، الدور الثاني.
بيرنيس –ملكة سبأ- القرصان الأسود- بوسيدون- شيطان الموج".

لا شك أن الأولاد سيحزنون عندما ينتظم عقدهم بغير "الفارس الأشقر". هذا ما فكر فيه، ولكن لم يكن بالإمكان غير ذلك.

صاح في السائق "145 شارع النصر. بأقصى سرعة في مقدورك سأنقذك ضعف ما يسجله العداد".

كاد يحدث تصادم مرتين بسبب السرعة، لكن الأمر الوحيد الذي كان يعنيه أن يصل إلى هناك بأقصر وقت تأخر. كانت الساعة السابعة وعشرين دقيقة. والدعوة قد حدد لها السابعة.

كيف انصرف عن الديوان! كيف ترك كل شيء، الأوراق والمحبرة والريشة وأدراج مكتبة مفتوحة، كل شيء على حاله. ونزل يقفز السلم درجتين درجتين. قابله رئيس المستخدمين لحظة انصرافه. قال له ما معناه أنه يؤخذ لمغادرته مكتبه على هذا النحو دون إذن، فلم يعره التفاتًا.

كانت قد أمسكت به قبضة جبارة، قبضة جبارة للغاية، استولت عليه قوة انفتحت بداخله فجأة، بينما كان هناك في مكتبه، يوم الجمعة بعد الظهر حيث ميعاد العمل من الخامسة إلى الثامنة مساء، وأرغمته تلك القوة المستحوذة على أن يترك كل شيء وينصرف.

السيارة تقترب الآن. كان يجب أن يأخذ معه شيئًا. فليس بالإمكان أن يذهب إلى الحفل خالي اليدين. يجب أن يأخذ معه شيئًا. حلوى، زهور... هناك محل لبيع الأزهار، في شارعهم. نزل من التاكسي. اشترى باقة من الورد، ورد أحمر.

وصل. دقَّ جرس الباب الخارجي للعمارة وهو يحمل باقته. كان قلبه يدق بسرعة فائقة وبقوة. عاليًا، في الدور الثالث، نوافذ مضاءة. وندت أنغام معزوفة على الأكورديون.

فتح باب العمارة. دخل. سلم خشبي حلزوني، ارتقى الدرجات بسرعة. لم يعد لأوجاعه الروماتيزيمة وجود. راح عنه.

عند قمة السلم ولدان وبنت. في حوالي الرابعة عشرة أو الخامسة عشرة من العمر. وقف على الدرجة قبل الأخيرة. وقال:

- الفارس الأشقر.
قال ذلك كما لو كان يعرفهم بنفسه.
سأله أحد الولدين، أطولهما قامة:
- لن يحضر؟
وسأل الآخر:
- ماذا؟ لن يحضر؟
عاد الأول يسأل:
- أهو مريض؟
قالت البنت:
- يا خسارة! كنت أتوق كثيرًا إلى التعرف به.

نظر إلى الأولاد الثلاثة صامتًا. لم يكن بإمكانه أن يقول كلمة..

فجأة، وبحركة مباغتة وضع باقة الزهور، الورود الحمراء بين ذراعي الفتاة، استدار، ونزل السلم مسرعًا، مسرعًا، خرج، ومن النوافذ العالية بالدور الثالث سمع الأكورديون يعزف لحنًا مرحًا، مضى في ظلمة الليل، خاوي اليدين الآن، خاوي الصدر أيضًا.



* من مجموعة "مطلوب أمل" للكاتب اليوناني معاصر أندوني ساماراكي

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى