دراسات في التراث محمد محمد الخطابي - ابْنُ الأَبَّار.. تَعَاطَى السَّيَاسَةَ فَلَقِيَ فِيهَا حَتْفَه

العديد من العلماء والشعراء تعاطوا السياسة ، فى المشرق والمغرب، وبشكل خاص فى الأندلس، نجح فيها بعضُهم ، وفشل فيها آخرون كثيرون ، والعالِم الأندلسي إبن الأبَار عالم جليل تعاطى السياسةَ ، ودسّ نفسَه في دوالييبها، وحشر أنفَه فى الشؤون العليا للدّولة فى الأندلس فى ظروف صعبة وعصيبة،كانت فيها أركان هذه الدولة تتهاوى، وتتساقط ، وينفرط عِقدها.

إنّه أبو عبد الله محمد بن عبد الله بن أبي بكر بن الأبّار القُضاعي بن الأبّار الذي وُلد فى مدينة " أوندة " الإسبانية، التي يشعر أبناؤها و سكانها اليوم بزهو كبير، وفخر عظيم لكونها كانت مرتعاً،ومقاماً، وموطناً لهذا العالم الذائع الصَيت ، توجد هذه المدينة على مقربة من مدينة بَلنِسِية، والتي عرفت حضوراً عربياً وإسلامياً متميَزاً على إمتداد الوجود الإسلامي في إسبانيا، شهدت هذه المدينة تظاهرات شتَى ولقاءات متواترة فى مختلف المناسبات حول ابن الأبَار، بمشاركة العديد من الباحثين والمستعربين الإسبان وغير الإسبان،عالجوا بالدراسة، والبحث، والتمحيص مكانته كعالم، ومؤرخ، وفقيه، وشاعر ،حيث تحفل كتبه بالأخبار، والقصص، والحكايات ،وأسماء العائلات الأندلسية الواردة فى مختلف مخطوطاته، وتآليفه التي طبَقت شهرتها الآفاق ، منها " الحلَة السيراء"، و"التكملة" باعتبارهما مصادر أساسية لمعرفة حركة علم الحديث والأدب، و علم القراءات، والمنزلة المرموقة التي كانت تحظى بها بعض الأسر، والعوائل الأندلسية في الحياة الأدبية، والفكرية،والسياسية بالأندلس في ذلك الإبَان.

مصير ابن الأبّار

كان إبن الأبَار شخصية غريبة الأطوار، فقد عاش حياةً متقلَبة ، تملأها القلاقل والمشاكل والأهوال وتقلَب الأحوال، حتى إنتهى به الأمر إلى نهايته المأساوية في تونس، التي تمثلت في قتله بأمر من المستنصر الحفصي (القرن السابع الهجري) قعصاً بالرماح وإحراق العديد من كتبه،ومؤلفاته وأوراقه .

هذا وتحفل كتب إبن الأبَار وتآليفه الكبرى بالعديد من الأخبار حول الظروف،والملابسات، التي أدت إلى سقوط مدينة بلنسية، وجهاتها، والهجرة الأندلسية التي تلت ذلك السَقوط سواء إلى إفريقيا الحفصية (تونس) أو إلى المغرب، فضلاً عن الحالة التي عاشت عليها البقيَة الإسلامية التي لم تتمكَن من الهجرة بعد أن بسطت القوات النصرانية نفوذَها على جميع أطراف وأصقاع شرقي الأندلس.

منزلة ابن الأبّار

تكمن قيمة ابن الأبَار في كونه جاء في فترة سقطت فيها الأندلس، أيَ في فترة تناثر فيها عقد الأندلس الإسلامية، وضياعها، وهي فترة صعبة سادها القلق، والحيرة، والحسرة، والجزع، واليأس لدى الكثير من المسلمين الذين أُرْغِمُوا على ترك دورهم، وأراضيهم، وممتلكاتهم، وكتبهم للنَجاة بأنفسهم، والهجرة نحو كلَ صقع، وحدب، وصوب. وقد سجَل ابن الأبَار تراثَ الأندلس خشية أن يضيع، ويظهر هذا التسجيل بالخصوص في كتبه الشهيرة المشار إليها آنفاً مثل : التكملة، والحلة السَيراء، و المُعْجم، ومؤلفات أخرى متعدَدة ذات قيمة تتاريخية، وأدبية، وتوثيقية كبرى،. إنَ وجود ابن الأبَار في القرن السابع الهجري جعله شاهداً على عصره، حيث قدَم لنا شهادات،وحكايات، وقصصاً ،وأخباراً على أسباب،ودواعي سقوط الأندلس. هذا كما يُعتبر ابن الأبار مؤرَخاً ضلَيعا لأعلام الأندلس، فهو في هذا القبيل يُعتبر كابن حيَان القرطبي(صاحب المقتبس) و ابن بسَام الشنتريني(صاحب الذخيرة فى محاسن أهل الجزيرة )، وابن الخطيب (صاحب المؤلَفات العديدة) وسواهم من شيوخ الأندلس، وفقهائه، وعلمائه . قال عنه ابن خلدون : " كان الحافظ أبو عبد الله بن الأبّار من مشيخة أهل بلنسية، وكان علاّمةً في الحديث، ولسان العرب، وبليغاً في الترسيل والشعر" .

وتُعتبر تجربة ابن الأبار المريرة علامةً على فشل العالِم إذا تعاطى السياسة، والدَليل على ذلك مأساته التراجيدية، ومحنته التي تكرَرت بغضب أبي زكرياء الحفصي، وولده المستنصر عليه أكثرَ من مرَة. والدَاعي الذي أدَى إلى إضرام نار الفتنة عليه، هو تدخَله في الأمور العليا للدَولة ودهاليزها، وبالعكس منه كان معاصره أبو المُطرف أحمد بن عمرة المخزومي على قدر كبير من الدهاء السياسي ،والحيطة والحذر، فقد إستطاع أن يشتغل بالسياسة في عدة بلاطات في الأندلس، والمغرب، وتونس ولم يقع له ما وقع لصديقه، وبلديَه ابن الأبار. ويؤكَد الباحث الصديق الدكتور محمد بن شريفة المتخصَص فى تاريخ الأندلس فى هذا المجال :" إنَ أسباب موت ابن الأبار متعدَدة، منها عدم حذره، وتدخله في ما لا يعنيه، بالإضافة إلى ما كان بينه وبين رجال البلاط مثل الوزير أبي بكر الحسين، والوزير أحمد الغسَاني من حزازات،وخلافات، ومنافسات ".

هذا وتجدر الإشارة (حسب الدكتور بنشريفة نفسه) إلى أنّ أبا زكريا يحيى بن عبد الواحد بن أبي حفص عمر الهنتاتي ـ الذي ينتمي إلى قبيلة هنتاتة ـ وهي إحدى قبائل الموحَدين القريبة من مدينة مراكش، هو الذي أسَس الدَولةَ الحفصية بتونس، وانفصل بالتالي عن الدَولة المركزية الموحَدية في مراكش.

آثار ابن الأبَار

نافت مؤلفات ابن الأبّار على الخمسين كتاباً أشهرها : " إعتاب الكتاب" (نشره صالح الأشتر بدمشق 1961)، " التكملة لكتاب الصلة " (نشر عدَة مرَات منذ طبعة كوديرا 1887 بمدريد)، " الحلة السيراء" (نشره دُوزي ليدن 1851)، " المقتضب في تُحفة القادم " (المطبعة الأميرية ـ القاهرة ـ1957)، "درر الصَمت في خبر السبط "، " المعجم في أصحاب القاضي الصَدفي" ، " إيماض البَرق في أدب الشرق "، " الغصونُ اليانعة في محاسن شعراء المائة السَابعة "، وسواها من المؤلّفات الأخرى التي تُعتبر مراجع،ومصادر، ومظانَ ذات أهمية قُصوى لا غِنىً للباحث عنها في تاريخ الأندلس المسلمة.

هذا ولإبن الأبار ديوان شعر معظمه أمداح في الحفصيين، وقد وُجد هذا الديوان في المكتبة الملكية بالرباط، وطبع بتحقيق الباحث المغربي عبد السلام الهراس من جامعة محمد بن عبد الله بفاس. وأشهر شعره، قصيدته السَينية التي يستعين ويستعطف،ويستغيث فيها باسم أهل بَلِنْسِيَة إلى الحفصيين في تونس والتي مطلعها :

أَدْرِكْ بخيلك خيل الله أَنْدَلُسَا... إنَ السَبيلَ على منجاتها دَرَسَا

هذا ومن شعره الجميل نورد الأبيات التالية :

حملت براحتها شبيهة خدّها.... تفاحةً لبست حلى الصهباءِ

ورمت إلى جهتي بها بل أومأت.... وحلِت يداً مخضوبةً بدمائي

فقنعت منها بالزهيد تعللاً...... والحبُّ يقنعُ فيه بالإيماءِ

هذا كما يتضمَن الديوان أشعاراً كثيرة يصوَر فيها غربتَه، وهَجْرَته، وإستلابَه، وحسرته، وشوقه إلى أهله، وذويه وبلده بلنسية.

وعن صلة ابن الأبّار بالمغرب، يقول الصّديق محمد بنشريفة: "إنّ الرجلَ يُعدّ غرس الموحّدين، وربيب دولتهم الأصلية، والفرعية أيّ في الأندلس وتونس". وقال إنّ تراثه الذي أُحْرِقَ في تونس ـ كما ذكر ابن خلدون، ظلَ ما بقي منه محفوظاً في المغرب بفضل الخزانة المنصورية الزيدانية الموجودة اليوم في دير الاسكوريال قرب مدريد بالدّيار الإسبانية ، وبفضل الخزائن العامة والخاصَة في المغرب، وإنَ معظمَ ما نُشر من تراث ابن الأبّار يرجع إلى مخطوطات مغربية، ومن المغاربة الذين عُنُوا بآثار ابن الأبار المؤرّخ المرّاكشي أبي عبد الله بن عبد الملك، والرحَالة السَبتي بن رشيد، وكاتب السَلطان المنصور السّعدي الذهبي أبو جمعة الماغوسي، بالإضافة إلى أسماء أخرى وافرة، فضلاً على أنَ ديوانه نُشِر لأوَل مرَة في المغرب .

الحديث عن ابن الأبار يجرَنا للحديث عن ابن عميرة الذي ولد بجزيرة " شقر " بالأندلس ودرس كابن الأبار في بلنسية، وإشتغل مع الموحَدين، وتقلَب في المناصب في المغرب، وتونس، والأندلس حتَى إنتهى به المطاف لدى المُستنصر الحفصي مثل إبن الأبّار نفسه. ومن شعر الرجلين، يقول ابن عميرة :

تذكَر عهدَ الشرق و الشرق شاسعُ.... وذابَ أسىً للبرقِ و البرقُ لامعُ

ويقول ابن الأبّار في الموضوع ذاته :

أنوح حماماً كلّما ذكر الشّرقُ.... وأبكي غماماً كلّما لَمَعَ البرقُ

والمقصود هنا بطبيعة الحال هو شرق الأندلس حيث ينتمي الرًجلان،والذي ما زال يحمل هذا الإسم حتىّ اليوم ، مثلما هناك منطقة أخري فى غرب الأندلس تُسمّى فى اللغة الإسبانية (الغَرْبِ). وكان ابن الأبار يُلقّب ابن عميرة " بالشيخ القاضي الكاتب " . وقد إشتغلا معاً في دار الإمارة فيكلّ من مدينتي بلنسية وإشبيلية. وشاء القدر أن تكون نهاية الرجلين واحدة، كما كانت بدايتهما واحدة . ولقد تبادل الرجلان خلال حياتهما كثيرا من الرسائل والأشعار، وتهاديا الأزهار، وكان ابن الأبّار رجلَ رواية، وابن عميرة رجل دراية،كما كان ابن الأبّار رجلَ علم وتأليف، وابن عميرة رجلَ إبداع وسياسة.


محمد محمد خطابي
الجمعة 03 أكتوبر 2014

* عضوالأكاديمية الإسبانية الأمريكية للآداب والعلوم – بوغوطا- كولومبيا.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى