مصطفى داود كاظم - قارورة عطر.. قصة قصيرة

لقطةٌ أولى

عِطرُكِ مميّز ، أعشقهُ ..
حين قالها لم يعرف أنّ أنفاسه استباحت مُدني فَتَخَضّبَتْ بها روحي فما كان منها إلاّ أنْ اصطفّت طوابير عبقٍ غير قابلٍ للنثر .. فلتعانق دموع عطري بياض روحك فـلا تُقرأ خريطة الأنفاس الاّ بالمحبة .
أَمضي ، فتعانقُ رئة الوفاء رذاذه قبل أنْ يبرد ، ويكتبني بحبرٍ معطّر بأنفاس الوصل .
لا زلتُ أذكر تغزلك بجدائل عطري التي علِقَت بين عروق أشجار ذلك الطريق الذي أُدحرج فيه من نافذة قلبي رمقَ حبّ يتندّى بين جنبيه ; فدونك قد شاخت خوافق نبضي بعد جموحها كغيماتٍ ماطرة من بين أصابع الشمس .
ذات صباح وقبل الرحيل بومضة ، أومأ لنا بالعبور قرب ممرٍّ تتشابك فيه الأشجار .. صوتُها وشهيق الناي صنوان ،مَنَحَنا الوقت ما لذّ وطاب من الحزن الرقيق ولم يعصمنا من طوفان الفراق ، رغم أنّ الهاتف كان يُدثّر اللحظات بجلال صورٍ أثقلَ ملامحها حزنٌ نبيل .. وكأنه يقول :
إلتقطوا أنفاسكم الاخيرة فللدروب غدرٌ مقيم .. فراشتان كنّا نضرب بأسواط الحب كُلّ غصنٍ مرهفٍ وسنظلّ حتى انتهاء صلاحية أجنحتنا .
لم أجد أوفى مِن الأشجار يخفّف عليّ قسوة الفِراق فـ رائحتها تُذكِّرني بلحظاتِ لقاءاتنا .. أحياناً أسمعُ حفيفها يعانق خواتيم العَبرات فيَخذُل غُصَص كل حزنٍ آت .. ويبقى لذكرى الوفاء صروحٌ مشيّدة كلّما همّ قلبُ النسيان بها منعته الذاكرة .

لقطة ثانية

اللقاء الأخير لايَكتمُ شهادته ،بينه وبين الأشجار حفيفٌ مشترك ،لكنّ أغصانها تتلوى جزعًا ثم تتدلى لتُصغي لحوارٍ هامس مكشوف الجناح ; لأنّه حديث الدقائق الأخيرة ،حديثٌ يَزُمُّ شفتيه بوجع ويُطلق العنان لعينيها لِتَسّح دمعًا صموتًا كما يفعل نهرٌ متهادٍ بجريانه .
قلتُ لها :
الفراق إلزامٌ قهريّ يرفع الفقد الى درجة اليُتْم ، لم يكن بالحسبان أنْ يصفعنا القدر بهذه السرعة ،كانَ ودادهُ مؤقتًا فاستدرجنا بمخاتلةِ تمساح إبتلعَ فريسته فَ سَحّ دمعًا باردًا يليق بغدرٍ بارد…
هل تذكرين?
كنت عندما أبحث عنك كان عطرك يُرشدني إليكِ ، كثيرًا ما تَنَفّسْتَه عند السلّم الهابط للطابق الأرضي أو في الممرات أو في إحدى غُرف المبنى، للعطر وشاية جميلة تُغنيني عن السؤال.
أرقبُ دمعةً تنتفض في عينيها وتمرق كسهمٍ جارح على صفحة خدها نازَعَتْ بريق إبتسامة جلّلها وداع مُرتقب...يُصبح المشهد ُ أكثر تعقيدا ، إبتسامة دامعة أو دمعة مبتسمة.
من تحت شجرة كبيرة كنّا نتفيأ ظلالها، إستشعرنا دفء تواصل أغصانها معنا وإذ
لم يتبقَ سوى هنيهات فانتهزت الفرصة لأبث سؤالي الى عينيها اللتين كانتا تُحسنان الإستجابة أكثر من أيّ شيء آخر:
أمس إستمعت لصوته الشجي الذي طالما أطْرَبنا وتمايلنا مع جنوح حباله الصوتيه نحو مفازات الحزن، كان يناجي عمره فيقول:
"شكرًا ياعُمُر عديتني ال……….. "
هل تعلمين لماذا أُحِبُّ صوته?
ترفع عينيها الدامعتين لتنتظر مني الجواب،
فأقول:
لأنّه يُشبهُ أحاديثنا الدافئة...
الصيف لايأتي بِسُحبٍ ماطرةٍ في آب، لكنّ المطر هنا غزير، أغرق صفحتي خديّها بانثيال الهمس الموقن من سطوة الغياب…
تفتح حقيبتها فتُخرج قارورة عطرها الممتلئة
فتقول :
تتجنبُ النساء إهداء العطر لأنّه يُومئ للفراق،
لكنني سأكسر القاعدة ،
سأهديك ماكنت تجده في الممرات وعند السّلّم متضوعًا في أيام زهونا ،ليكون بالقرب منك… لاتدعْ نفثاته تخرج من عنق الزجاجة ليخترق حاجز الفراق، ويَسمُر معك في أماسيك حتى لايُشَيّعك الصبر.




ّ

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى