خيرة جليل - ليلة المصلوبين على طريق النسيان.. الليلة 23 من ليالي بلا ابواب ولا نوافذ..


الليلة هي ليلة المصلوبين على طريق النسيان، وهم لا تراهم الأعين أو القلوب أو السيارات المسرعة، والحُزن عابر سبيل، إلا إن وفرنا له إقامة دائمة في قلوبنا، واحتفينا بوجوده في صدورنا، وللنوافذ روحٌ، مثلما للمنازل رائحة. فلا تنكروا ما هو معلومٌ باليقين في الوجدان ولا سبيل للتكبّر على الألم، فهو الذي يعيد إليكم آدميتكم الضائعة. تبتسم راوية وهي تأخذ نفسا عميقا، لقد حملتها الذكرى إلى عالم الطلبة بالجامعة، لتقف أمام وجه طالبة من هذه الجبال المتوسطية العالية، إنها فتيحة "النمرودة"، تطلق قهقهة بهذا الليل الهادئ، لم تكن تسْمِيتها بهذا اللقب من محض الصدفة. كانت محايدة لدرجةٍ تثير الريبة، بالفضول تقول: "هكذا تُولَدُ الإجابات والرِوايةُ أَقصَرُ مِما يظُن الروائِيُّ، إذا حَالَ بينهما مَا يكتمُ الزَمن،وكثيرون في حياتنا "عابرون في كلام عابر" كما يقول الشاعر محمود درويش". وهذه "النمرودة" واحدة من هؤلاء، كل شيء هو محض مأزق، يتكاثف فيه القهر شكليـًا وجوهريـًا وشخصيتها جمعت كل هذه المواصفات. الكتابة عنها عملية سحرية نحفظ فيها كل ورود الشوق ووعود الأمل، وسراب الخيبات، كي يتعلم منْ بَعدَنا أهمية تكرار الخطأ نفسه بإيقاعات مختلفة! كل الكلمات فيها فراشات اغتراب إرادي، يسكب في وعائها كل الشهقات التي تعيها الذاكرة المثقلة بالأفكار، ومختلف الكلمات التي أعياها الانتظار.

صوتها موسيقى يشتهيها العزف، وضحكتها حكايةٌ ذابت في رحيق التوتِ، لم أسألها يوما عن حقيقة اسمها القصير" فتيحة النمرودة" ولا عن مشاعرها حين تسمع الطالبات يتهامسن به، كي لا أفسد على نفسي متعة اكتشافي لحقيقة فتاة الزنجبيل، والتي عينيها لون عسل يجري في لوحة مكتملة السحر. كل ما نعرفه أن قلبها ليس أبيض، ولا أحمر. قلبها فقد لونه، بعد أن تعرفت على من تفرز غددهم القسوة كلما أرادوا الشفقة. لا طريق للعودة إليها. فراقها الصعب هو الغبار الوحيد الذي لا يغادر سترة روح من عاشرها. إنه السر الذي يعلمه الجميع. لأجلها يصطاد الرجال أحلامهم في المنام، ولها كلامهم وسلامهم فيما تمسح أعينهم أركان الغرفة الشبه المضيئة، بحثـًا عن المتع الناقصة. لكن في الصباح، تلملم أشياءها المبعثرة في صمت ثقيل، وهي تمد يدها النحيلة مثقلةٌ بخواتمَ براقة، لتغلق أزرار فستانها المجعد وتجمع خصلات شعرها الأشقر المترامي شلالات على خصرها. ثوبها الحريري ينظم الحكايات، ويمكر بهم جميعـًا في التفاتةٍ واحدة.كلما أوشكت على الانصراف، لا أحد يستجديها هامسـًا لتبقى معه إلى الأبد.. وما بعده! كلما تعرفتْ إلى ماء الآخرين ونقودهم، لفها الأسى بعباءة قديمة رثّة. في نهاية كل موسم دراسي ، يرحل الذين دقوا أوتادهم وماءهم عميقـًا، من دون لفتة وداع، ولو بأحضان مرتبكة. لم تعد تجرح روحَها منذ أن أطبقتْ عينيها الناعستين على حُلمها الجديد. ابتسامتُها بطاقة ضائعة، مثل عربةٍ غجرية تتهادى على دروب الحياة. ومع ذلك كان لها ذكاء علمي تحصيلي فائق إلى جانب هذا الدهاء الجنسي. تتسرب منها الأيام قبل أن تكتشف أن عمرها الحقيقي هو بعددِ تلك القصص التي نزفتها سرًا بغرف مفروشة استأجرت سرا لسرقة متعة فاحشة رجال هربوا لسويعات عن أعين زوجات تفوح من ثيابهن رائحة البصل والمطبخ لانشغالهن بالطبخ وتربية الأبناء والتنظيف .... حكايات وقصص تروي أرضـًا غريبة تدعى جزيرة الخديعة والخيانة. بعد، كل مغامرة تجمع الغيوم من فراشها وبقايا الأحلام من على وسائدهم، وتعلقها على جدار الحياة. هذه الفتاة التي من خشب العرعار، تمنتْ أن تكون عارضة أزياء، لكن معظم من صادفتْهم كانوا يفضلون أن تخلع الأزياء. المعارك الهادئة تبدأ في القلب، ولا تنتهي حتى تسيل الرغبات على جدرانها، وهي لم يعد لها لا قلب ولا جدران، فقد أوهموها فألهمتم ، حتى صاروا مثل كواكب أضاعت مدارها. تُسدل شعرها كي تخفي وشم فراشة خلف عنقها، خوفـًا عليها من حسد الراغبين في اصطيادها. كانت تعلم أنها عندما يبتهج أصحاب المتعة المختلسة ، يحتفل شعبٌ كامل تحت جلدهم فتفيض جيوبهم سخاء خارج ميزانيتهم اليومية، فكانت تتساءل عن كيف يدبرون عجز ميزانية بيوتهم حين يحدث هذا الطفح الفجائي تحت جلودهم؟

اليوم التقت راوية بسيدة منقبة تطوف بين أروقة السوق الممتاز مثل غراب تائه أو طيف شبح ضائع. مدت يدها لتأخذ علبة حليب مركز من إحدى الرفوف فأسقطت بعض العلب، هرعت راوية لتساعدها فأحست وكأنها تعرف نبرة صوتها حين شكرتها. رفعت عينيها إليها فظنت السيدة أنها تعرفت عليها فأنزلت النقاب على وجهها، ابتسمت السيدتين لبعضهما وبادرت السيدة الشبح:

  • أشكرك عزيزتي ، لم تغير من مظهرك السنون.

    بارتباك واضح أجابتها راوية:

  • آه انك أنت يا فتيحة سررت لرؤيتك.

  • نعم إني أنا فتيحة النمرودة ، اتمميها، إني لا اخجل من هذا الاسم، أتتذكرين بالسنة النهائية بالجامعة، حين خبأتني بدولاب ثيابك بالحي الجامعي حين اقتحمت غرفتك عارية ليلا لما طاردني الطلبة داخل الحرم الجامعي حين ترصدوني وأنا أمارس الحب مع المكلف بالشؤون الطلابية بوقت الديمومة بمكتبه ؟ إنها أنا يا راوية. منذ ذلك الحين وأنا منقبة، لقد التحقت بالعاصمة وأنهيت دراستي العليا وعملت معيدة وتدرجت إلى أن أصبحت أستاذة جامعية. تزوجت زميلي بالعمل وخضنا التجربة السياسية وهو يعلم من أنا. تزوج خادمتنا باسم التعدد في الدين وبمباركتي لأنها العذراء العفيفة وأنا في نظره لم أكن إلا تلك العاهرة التائبة. ناضلنا إلى جانبه، إلى أن أصبح وزيرا. عشنا على البساطة ليخوننا مع مُدَلِّكَة طبية متبرجة بفنادق خمسة نجوم، لنتفاجئ بعد الضجة الإعلامية إنها زوجته الثالثة بالفاتحة. ومرت الفضيحة في طي النسيان، وها أنا بتقاعد نسبي اعمل مرشدة دينية متطوعة تاركة الجمل بما حمل ، تذكري بأن لا الجمال ولا المال ولا الزوج ولا الأبناء قد يستطعون ترميم ما انكسر ذات يوم بقلبك، تذكري انك لن تستطيعي العيش بسلام وأنت تجرين وراءك سلاسل الماضي مثقلة بالخيبة والاحتقار والكراهية والفقر والاستغلال....ولا المناصب ولا الألقاب ولا الشهرة قادرة على محو بصمات العار على جبينك، بعد عمر طويل وجهد كبير تحس انك سجنت بعنق قارورة قذرة حين كنت تحاول الانسلاخ من جلدك الأصلي لينمو لك جلد جديد، فتدرك في وقت جد متأخر أنك انجرفت بعيدا عن المسار الصحيح منذ زمن بعيد حين كانت الذئاب تصفق لك بكل صفاقة، لم أكن اطمح إلا أن أكون عارضة أزياء مغمورة تطوف أرجاء المعمور، ربما هذا الحلم لم يكن يليق بفتاة من شريحتي، فتاة قادمة من جزء من ارض غير نافعة ، من قبيلة سجنها الزمان في عصور جليدية تأبى أن تلتحق بركب الوطن."

    من هول المفاجئة سقطت باقي العلب من يد راوية لتنصرف السيدة إلى حال سبيلها مسرعة وهي تعيد النقاب على وجهها. أبعد خمسة وثلاثين سنة يمكن أن يكون هذا اللقاء على غير موعد؟

    في هذه الليلة أحست راوية أنها فعلا سجنت بعنق قارورة زجاج عطر الذكرى الضيق، وهي تحاول فقط المرور من زمن ليلة باردة وطويلة إلى صباح يوم هادئ لا يشبه باقي الأيام.




















عن الكاتب
خيرة جليل
https://www.facebook.com/khira.jalil
https://www.facebook.com/KhiraJalilArt/
https://www.facebook.com/KlmtWmny/
https://www.facebook.com/%D9%85%D9%86%D8%AA%D8%AF%DB%8C-%D8%A3%D8%AC%D9%86%D8%AD%D8%A9-%D8%A7%D9%84%D9%81%D9%86-%D9%84%D9%84%D8%B3%D9%84%D8%A7%D9%85-%D9%88%D8%A7%D9%84%D8%A7%D8%A8%D8%AF%D8%A7%D8%B9-%D9%88%D8%A7%D9%84%D8%AA%D9%86%D9%85%DB%8C%D8%A9-101273344766649/

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى