كتاب كامل غريبان - الفصل الثاني : فــي ظــلـمـة الــغــابــات

This entry is part of a series of entries "غريبان (رواية) للكاتبة التونسية كاهنة عباس"
les-deux-étrangers - Copy.jpg

الفــصــل الــثــاني
فــي ظــلـمـة الــغــابــات



النجوم متفرقات، والفضاء رحب شاسع، يبدو أن الزمن في تلك الليلة قد توقف فجأة، أو هكذا خيل للسيد. ستقيه ظلمة تلك الليلة من شر قلقه، تعيد إليه حبه للمغارة وشوقه لملاحقة المدى البعيد.

مازال السكون يطارده حيث ما حل، ومازال الفراغ الرهيب يطوقه من كل وجهة وجانب، لم يبق له من ملاذ سوى أن يدخل الغابة، لن يؤذيه أحد وليس له أن يتوجس حدوث خطر بعد أن اعتاد الولوج في أعماق البحر سبق له أن اتخذ ممرا يؤدي إلى وسط الغابة، كان ذلك منذ سنين انقضت سيطوف بمداخل الغابة عله يتذكر موقعه. كلا سيدخل الغابة الآن.. وليكن ما يكون.. ليس له أن يتردد لحظة.

يزيح أغصان الأشجار المتشابكة حتى يتوضح له الطريق، ويتقدم وهو يتابع أنوار النجوم المتفرقة، أصبحت الظلمة الآن تحت غطاء الشجر الكثيف أشد وطأة، لم يعد يرى أمامه أي شيء، يتعثر، يحاول أن يمسك بأحد الأغصان الممتدة إليه حتى لا يسقط إلا أنه لم يطلها، يفقد توازنه، يوشك أن يسقط، إلا أنه يتمالك، وكأن غضبا دفينا قديما يصعد إلى صدره، فيلوح بيده في الفضاء عله يمسكه في قبضته، وهو يقول: " هذا كل ما حصلت عليه من وراء أسئلتي يا ربي، قبضة من الهواء وضياع وتشرد" فيعود إليه صدى صوته الغاضب من وراء أغصان الأشجار. ويتملكه الخوف، وهو يسمع من حين لآخر زقزقة بعض الطيور، وحشرجة سقوط الأوراق، قطعا لن يصيبه مكروه ولن يكون ضحية غبائه وقلقه، كان يحدق مليا في الأرض، خشية أن يصيبه أذى الحشرات أو الأفاعي . لم يعد الآن يسمع لغة السكون، وانقطع حبل أفكاره، وأصبح يبحث لنفسه عن منفذ من المأزق الذي وقع فيه. أي كون وحشي هذا الذي وجد فيه؟ بأية لغة سيناشد الشجر العالي كي ينقذه؟ وهل من عين ترعاه الآن لتنقذه؟هل من مجيب؟ منذ حين، عند طلوع النهار، كان متربعا قرب النهر هادئا يتأمل الوجود من حوله، ويحادث الماء، يسائله أن يتطهر من أوهامه وهواجسه. كان يتأمل السماء ويتابع حركة النهار باطمئنان عميق، وها هو الآن في قلب غابة تكاثفت أشجارها في ليل أظلم نعس تحت غطائه، كل ما دب وهب. أي مأزق وقع به؟ وما الذي دفعه إلى هذا التيه ؟ أيكون أمله في أن يجد صوتا يجيبه أو عينا ترقبه؟ لن يستسلم لليأس فعين هنا ترعاه تتابعه، عين هنا ترعاه لعلها هي التي أشارت عليه أن يتبع هذا المسلك، أن يجابه الظلمة في أقصى ذروتها لأن ذلك هو قدره، أي قدر هذا؟ أي قدر؟ أي قدر؟

وتزل قدمه ثانية، فيسقط في هوة سحيقة، ويلتوي ذراعه ثم رجلاه، ويكاد يفقد وعيه من شدة الوقعة، فيتمتم بين وعي وإغماء:" ربي لي يقين أنك تراقبني وترعاني حيث ما كنت، فأخرجني من هذه الهوة، حتى لا أهلك " ثم يأخذ منه التعب مأخذا، وتمزقه آلام رجليه الداميتين، يحاول أن يحركهما، فلا يستطيع، فيبقى هامداعاجزا عن الحركة، هنيهة من الزمن، كأنه يستسلم فجأة لعجزه وآلامه، لن يراه أحد هنا في هذه الهوة السحيقة، ولن يسمع أحد صراخه، سيهلك حتما إذا ما طلع الصباح ولم يستطع الخروج من تلك الهوة.

وانتصف الليل دون أن يكحل النوم جفنيه، فأخذته رغبة في الدعاء، عسى أن يهدأ ذلك من آلام رجليه الداميتين، فينام قليلا، ثم استفاق لينشد:

"أيها الحاضر في الغائب عني،

كنت أتبع خيطا ضئيلا من نورك،

فما اهتديت الى طريقك،

أيها الحاضر في الغائب عني،

(وهو يهمس):

هجرت البشر بعد أن يئست من كرمهم،

وحز في نفسي بؤسهم وفقرهم وجهلهم ورأيتهم يتآكلون،

حز في نفسي أن أرى مخاوفهم تصاحبهم،

كما يصاحبهم ظلهم وهم جميعا إلى الفناء سيؤولون.

إن يكن جميع الناس يا ربي على يقين من حقيقة الشر والخير ومن حقيقة وجودك،

فلم هم عابثون ولم هم مذنبون؟.

أيها الحاضر في الغائب عني،

بأية لغة أكلمك؟ أبلغتي المقصورة المبتورة المتلوية،

كيف يكون لكلامي معنى أمام قصائد ملكوتك وفي كل كيان معجزة فأين أنا منك يا ربي؟

"لمحة من ظلمتك حجبت عني الرؤية،

ولحظة من لحظات حيرتي كادت تهلكني،

فما أجداني إقدامي على المخاطر نفعا،

وما أسعفني الكلام في شيء يا ربي".

وبينما هو كذلك، إذ استمع الى حفيف الأعشاب، فخيل إليه أن خطى قادمة إلى الهوة لإنقاذه، صاح:" هل من أحد هنا"؟ فلم يجيبه غير نباح الكلاب المتشردة، حينئذ وضع رأسه بين يديه، عله ينام قليلا، إلا أن الرهبة تملكته، آستولت على كيانه، وجعلته متيقظا لكل حركة.

ويطول به الزمن، وهو يرقب ثغرات السماء التي غطتها الأشجار، عله يتبين عمق الهوة ينتظر طلوع الصباح، ويبدو له أن الزمن في تلك الآونة أصبح أعواما لا تنتهي، فيرق لحاله، وهو يلتمس جرح رجليه الداميتين، ثم يثور فجأة على خنوعه، وتأخذه الرغبة في أن يستهزئ بألمه، ألم يختر دخول الغابة ليلا دون دليل أو رفيق؟، ألم يختر أن يواجه الخطر وأن يقطع أفق السكون المحدقة به، ألم يقل منذ أيام أن الموت هو اليقين الوحيد بغية أن تتوضح له حقيقة نفسه، وهل سيتوقف الكون عن الحركة إن هو لقي حتفه في هذه الهوة؟ هل سيغير موته من مجرى الأشياء؟

أو تنتهي تجربته بأن يتحول الكون إلى وقع أقدام تقترب منه لتنقذه؟ وأن يتحول العالم إلى صبح ينتظره؟ لم تبق له سوى رغبة واحدة جامحة ليس لها حد ولا تخضع إلى أي منطق أو فكر: أن يحيا فقط، أن يحيا. يحاول الوقوف لكن ألما شديدا جعله عاجزا على أن يحرك رجله اليسرى، بينما لم تصب رجله اليمنى سوى جروح طفيفة لم تمنعه من أن يحركها، كيف سيتسلق الهوة بعد أن أصابه كسر؟

كان لا بد له أن يستجمع قواه ويحاول النهوض ولو لحظة حتى تعود إلى نفسه الطمأنينة، فيبحث في الظلام عن عصا أو عود شجرة يساعده على الوقوف، يرمي بيديه يمنة و يسرة يتلمس الأعشاب المحيطة به، فلا يحصل إلا على عود قصب جاف، ما إن أمسك به حتى انكسر، لا لن يتقدم ماشيا على كفيه وركبته محني الرأس، لن يفعل ذلك كي ينقذ حياته، فآلاف البشر الآن في مئات المدن وآلاف القرى يعانون من ويلات الفقر والمرض والحروب، بينما لم يقو أن يقضي ليلته في هذه الهوة، بعد أن سقط وكسرت له رجل. آلاف البشر الآن لا تعنيهم أسئلته في شيء، ولم يدر بخلدهم يوما أن يترقبوا مولدهم الثاني، ولا هم تساءلوا عن سبب وجودهم، آلاف بل ربما هم ملايين تمزقهم آلام أعظم، أمراض لا يرجى شفاؤها، حروب لا تنتهي، مظالم، سطو، عنف، جشع، أنين أين هو منهم الآن؟ ولم ينتظر أن يسمع صوته المنادي دون أصواتهم؟؟ ألم يختر أن يرمي بنفسه في هذه الغابة.

وتأخذه الرغبة في الدعاء ثانية فينشد قائلا :

"أيها الحاضر في الغائب عني،

رأفة بي من شكي،

فطريق الشوق إليك مضن وطويل،

وتوقي إليك بلا حدود،

رأفة بالمعذبين،

من قسوة القدر وقسوة أنفسهم،

وقسوة من حولهم عليهم،

رأفة بهم كرأفتك بالطير المهاجر،

وهو يشق الصحاوي ويخترق الريح،

ورأفتك بالزهر والنمل وأوراق الشجر،

إذا ما كتب لها أن ترمى بين الصخور والأخاليد.

وهل لصوتي أن يخترق سحرك الأبدي؟

وهل أنت إلى مصغ؟

أتكون هنا وأنت بعيد؟

أتكون في اللحظة وأنت خالق الوجود؟

فلأنني فان لا أرى بداية ولا نهاية لطريقك،

ولأنني لا أرى غير جسدي ولا أسمع غيرحسي وليست لي حاجة إلا لمنفذي،

فهل من مفر من جهلي؟ وقد عجز فكري واخترت أن أراك من هوتي حتى تكون ملاذي الأخير".

أعياه الجلوس وهو متكئ على التراب المنحدر بأسفل الهوة، وعن له أن ينزل في عمقها، وأن ينام فوضع رأسه بين حجرتين صغيرتين، مد رجليه الداميتين، وبقي ينظر إلى الظلام الذي أصبح الآن أشد سوادا، وتمتم:" فلينسنى العالم قليلا.. في هذه الهوة إن كانت ساعة موتي قد حلت، فلتكن.. ساعة رضاء" وتذكر فجأة ابنه الصغير" أيسر" في ساعته الأخير وهو يقاوم الحمى قبل أن يفارق الحياة.

وداهمته أسئلة أخرى،هل زرع أرضا ستنبت من بعده؟ هل حفر بالبحر ممرا للمدى؟ ألم تكن تلك أمنية حياته؟ هل أحب فأخلص؟ هل كان لألمه معنى؟ وإن منحت له فرصة الرجوع ثانية لقرية "ميناء"، ترى هل سيهجر البحر ليعتكف على ضفة النهر؟ كان يود أن يلقى حتفه في عمق البحار، وكان يود أن يموت يوم عصفت الريح وغرق المركبان أن يموت كما عاش بحارا لا أن تبتلعه هوة سحيقة في غابة في عزالليل بعد أن أصابه كسر برجله اليسرى، وثارت ثائرته مرة أخرى وتخيل أنه سيتحول إلى جثة هامدة رميت هناك صدفة بعد أن فارقتها الحياة، فحاول النهوض ثانية، ولكنه لم يفلح.

وينقطع حبل أفكاره على ضوء خافت ضئيل يخترق الظلمة، يرفع نظره، عله يتبين قمة الهوة، فينزاح عنه بؤسه وغضبه، ويتنفس الصعداء بعد أن أدرك أن الهوة التي سقط فيها كانت منحدرة شبيهة بربوة لم تكتمل، كان بمستطاعه أن يبلغ قمتها إلا أن الأشجار المحيطة بها كانت تحجب عنه رؤية حدودها.

فمشى على تربتها يجر رجله اليسرى جرا وهو يئن، وكان من حين إلى آخر، يتوقف ليمسك ببعض الأعشاب المنغمسة فيها حتى لا تزل قدمه فيسقط ثانية، يا لها من ليلة ليلاء ! يا لها من ليلة ليلاء !

كان كلما اجتاحه نور الفجر بتؤدة، تغلب على الكسر الذي أصاب رجله، حتى إذا ما أعياه الصعود جلس على ركبتيه محني الرأس، منكسرا و تأخذه الرغبة في الدعاء مرة أخرى، فيتمتم :

"في مذلتي وانكساري،

يزيد ذلي ووهني،

أرنو إلى القمة،

ويجذبني إلى الوراء قبري،

أرنو إلى النور،

فتباغتني الظلمة،

في مذلتي وانكساري،

أطمح إلى المستحيل،

يخيل إلي أنى أحمل،

العالم في قبضة كفي،

ويمزقني ألمي وضعفي،

وتعصف بروحي متاهات شكي،

في مذلتي وانكساري،

في مذلتي وانكساري،

ويضع رأسه على التراب هنيهة، ليسترجع أنفاسه بعد أن أعياه العطش والجوع وأنهك قواه الأرق،

فيهمس:

لي شيء منك يا ربي،

يكابر أن يكون،

يسائل الشجر،

يناجي الخلاء،

ويبحث

في أعماق البحر والجبال،

عن سر التكوين

في مذلتي وانكساري

لي شيء منك،

أيها الحاضر في الغائب عني

شيء منك يا ربي،

منه كانت مشقتي،

وكبريائي،

غضبي وتعنتي،

وشكي..

جهلي وعملي،

وجأشي،

شيء منك يطمح أن يكتمل

يطمح أن يبلغ اليقين

ليسمو،

في مذلتي وانكساري

يناجيك قلبي،

ويسائلك فكري،

أتقدم إليك،

ويصدني عنك خوفي،

وجهلي،

أيها الحاضر في الغائب عني..

ويمكث على بعد بضعة أميال من قمة الهوة جاثيا على ركبتيه يقول:

" كيف اختلفوا في معنى وجودك؟ وأنت خالق للمكان والزمان سابق لكل وجود كائن منذ الأزل..أي نفي أو تأكيد لوجودك؟ وأنت كائن منذ الأزل".

الشمس تكتسح البقاع وهي قادمة إليه، فينهض لاستقبال هالة نورها يتقدم مرفوع الرأس، غير عابئ برجله الدامية المكسورة، أصبحت المسافة التي تفصله عن مخرج الهوة قصيرة فيقول:

"جسدي الذي يحمل

وشم فنائه،

كعلامة

يروم التيه،

عساه يبدد هزيمته،

بين رقع النور،

ويثأر لجرحه،

الدامي،

ويصل السيد أخيرا إلى قمتها ، فيتجاوزها بعد مشقة ويواصل طريقه وهو يخترق الغابة متكئا على عصا التقطها من بين الاشجار، حتى إذا ما وجد نفسه قريبا من ضفة نهر النورس، دخل بيته الصغير، وأخذ قارورة الماء الموضوعة قرب فراشه، فشرب ما فيها، وأكل ما تبقى له من غلال، واستقى لينام، حين استفاق اتجه إلى النهر، فاغتسل، وخيل إليه وهو يغادر المكان أنه يزوره لأول مرة.

من الضفة الأخرى تتمشى الحاكية وهي تجر لحافها جرا وتقول:" لا منقذ من الهلاك، لا منقذ من الألم، والشيخوخة، لا مفر منها جميعا، جميع إمكانيات الخلق،تنصهر في الفراغ الأصلي حتى يستعيد العالم أنفاسه".

وكأن الدنيا تنزع عنها ثوبها القديم البالي، وترمي بالصراخ الذي يسكنها لتسعيد جمالها، فتلوح فتية فاتنة.

وفجأة تملأ السماء أسراب الطيور، سرعان ما تتعالى زقزقتها.

تقول الحاكية :" هذه الساعة المولد قد حلت، هذه حياة جديدة وهبت، سماء أخرى لم تراها، وأرض لم تزرها قط، هذه ساعة مولدك قد حلت، تذكر أن لا منقذ من الهلاك، لا منقذ من العجز والألم، والشيخوخة، تذكر أن العالم يجدد أنفاسه، من الفناء، فلا تحزن، لا تحزن".

ويلتقي السيد بالحاكية على ضفة النهر، ويهم السيد أن يتقدم نحوها، أن يناديها، لكن شيئا ما يمنعه، وبينما كانت هي واقفة تنظر إليه بصمت، إذ تبعثر الريح لحافها وتحمله إلى ضفاف النهر، فيهمس بلطف: " ها أنت سلمى". فتدير إليه ظهرها وتواصل طريقها دون أن تلتفت، فيغادر المكان.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى