عباس محمود العقاد - فرانسواز ساجان في النقد الأدبي

يقول السيد «حسنين خليل» — من أرباب المعاشات — في رسالته:

«قرأتُ كتابًا حديثًا لأديب شاعر معروف بشَرَف النفس وكرم الأخلاق، ألَّفَه عن رحلة له إلى دمشق في مهرجان الشعر، والكتاب بقسميه: النثري والشعري، يستهدف تمجيدَ القومية العربية وتوثيقَ الروابط بين شطري الجمهورية، ووفاءً صادقًا لإخواننا بالشمال ولمدينتهم الخالدة. ولكن شَدَّ ما أدهشني أن قرأت كلامًا لبعضهم تناول المؤلفَ بنقد جارح عنيف حتى بلغ من غيظه — كما قال — أنه مزَّق الكتاب … والآن أسأل سيادتكم: أين أمانة النقد وشرف القلم؟ وكيف تختلف الآراء في فروع الأشياء بل في أصولها إلى هذا الحد؟ … فأرجو التكرُّم بالتعقيب على ذلك في يومياتكم القيمة، ولسيادتكم شكري العميق.»

***

نعم … تختلف الآراء أوسعَ اختلاف كما قال السيد «حسنين خليل»، ولكن الرأي الذي لا يجوز لصاحبه أن يُبْدِيَه هو استنكار كتاب من الكتب باسم العرف والتقاليد والآداب مع الصياح الذي يخترق أطباق الجو إعجابًا «بالواقعية» المكشوفة، بل الواقعية العارية في كل ما يقذفه إلينا الغرب من اعترافات المتيَّمِين والمتيمات، الواقعين والواقعات، والمتقدمين والمتقدمات، الذين يخلفون البنين والبنات في كلِّ سطر من الأسطر، وكلِّ صفحة من الصفحات.

تُرَى لو كان الكتاب من قلم «ساجان» أو ماجان، أو ذات قرين من الجان حيث كان — وتبسَّطت فيه على هواها شرحًا لما اعتراها في دنياها، وجهرًا بخفايا الرحلات والمآزق، في أعطاف الطريق وأعماق الزوارق — أكان القارئ يسمع من هؤلاء الغيورين على العرف المسكين، صيحةً غيرَ صيحة التهليل مع التلحين … لذلك الفن المتين …! وتلك الحرية الواقعية المستقبلية الأبدية، وهذه الحياة الارتعاشية الانتعاشية التي يتغنَّى بها «هوه وهيه» من أبناء تلك المدرسة الخفية أو العلنية؟

فتش عن «المذهب إياه» يا سيد حسنين ولا تزد عليه … فإنك إن عرفت المذهب وعرفت ما يذهبون إليه؛ فلا عليك بعدها ممن يقول ومما يقال، ولا يَعنيك من ينتحلون الغيرةَ على العرف هذا الانتحالَ، وكلهم من أولاد الحلال …

الفارسية والتركية
«… وأيهما تفضِّل للمتخصِّصين في اللغة العربية وآدابها؛ أن يدرسوا اللغة الفارسية أو التركية؟ ولماذا؟ أرجو الإجابة في يومياتك، وشكرًا.»

ماهر محمود البقري، طالب بآداب الإسكندرية
إن دراسة الفارسية ودراسة التركية مطلبان مختلفان لا يطلبهما المتخصص في اللغة العربية أو في غيرها من اللغات لغرض واحد، فلا يُغْنِي مطلب منهما عن مطلب، ولا يتيسَّر ترجيح لغة منهما على الأخرى إلا إذا عرفت الغاية من دراستها غير الاطلاع على آدابها والتوسع في ثقافتها.

فاللغة الفارسية إحدى اللغات الهندية الجرمانية، وأقربها إلى أصول هذه الشعبة الكبيرة من لغات العالم، ولا غنى عنها لمن يريد الاستقصاء في تحقيق جذورها وقواعدها، والإحاطة بالفوارق بينها وبين اللغات السامية في تركيب الجمل وتصريف الكلمات. وفائدتها للمتخصِّص في اللغة العربية أنها أقدم اللغات الهندية الجرمانية التي كُتبت بالحروف العربية — الآرامية — قبل الإسلام وبعده، وأنها مصدر مئاتٍ من المفردات التي دخلت في لغة العرب منذ أيام الجاهلية الأولى. وللعربية فيها آثار هامة ظهرت في شعرها ونثرها، كما ظهرت آثارها هي في أساليب العربية التي نقلتها من البساطة إلى التفخيم والتنميق، على عهد العباسيين ومَنْ تلاهم من دول المشرق إلى أواخر القرن العاشر للهجرة.

أما التركية فهي فرع من شعبة أخرى بينها وبين الشعبة الهندية الجرمانية وبين الشعبة السامية خلاف أصيل.

فهي من فروع الشعبة الطورانية التي تحسب من لغات النحت كثيرًا، كما تحسب قليلًا من لغات الاشتقاق، وعلاقتها بالعربية حديثة — ولكنها علاقة طويلة — بدأت قبل عهد الترك العثمانيين، ولا تزال بقاياها شائعة في الكلمات والعبارات التي تداولناها قرونًا متوالية، ولا سيما في لغة الدواوين. وأنفع مزاياها للمتخصص في اللغة العربية أنها كُتبت قديمًا بحروفها، وكُتبت حديثًا بالحروف اللاتينية، فلا يجد الباحث في موضوع الكتابة مثالًا أصلحَ منها للتيقُّن من الصواب والخطأ في الدعوة إلى الكتابة بالحروف اللاتينية؛ لأنها تدل دلالة واضحة على مواضع النقص في استخدام هذه الحروف لكتابة لغة تقوم على الاشتقاق كلُغتنا؛ ويتغيَّر معنى الكلمة فيها بحركة على الحروف لا تمثلها الأبجدية اللاتينية إلا بحروف المد الطويل.

وأعتقد أن العارف بالفارسية لا يصعب عليه أن يتعلَّم التركية، ولا تكلِّفه من الجهد ما يتكلَّفه في لغة غيرها، فمن أجاد الفارسية ففي وسعه أن يُضِيف إليها التركية كأنه يتوسع في دراسة واحدة، فلا يفوته الغرض من اللغتين.

ثروة لغوية
«عندما كنتُ أتصفَّح أحد الدواوين العصرية، عَنَّتْ لي بعض كلمات ليس عندي لها مدلول؛ الأولى: كلمة «يوتوبيا» في قصيدة «أسطورة عينين»:

عينان أم عوالم شاسعةْ؟
وبؤبؤ أم دعوة للرحيلْ؟
باب إلى يوتوبيا الضائعةْ
ومعبد ينهى إلى المستحيلْ.
والكلمة الثانية: «مدوزا» في مقطع آخر من القصيدة نفسها:

وأنها كما روى آخرون:
بقية من أعين آفلةْ
عينا «مدوزا» أفرغ الساحرونْ
ما فيها من قوة قاتلةْ.
فهل هما اسمان لمكان، أو لشخص، أم ماذا؟ وهل يجوز استعمال هذه الكلمات في الشعر العربي؟»

محمد محمود مصطفى
كلمة «يوتوبيا» يونانية معناها: «حيث لا حيث»، وضعها الحكيم الإنجليزي توماس مور ليُسمِّيَ بها المجتمع المثالي، الذي يتخيَّله ويتمنَّى أن تصير المجتمعات الإنسانية إلى مثله، وتُقَابِلُها في العربية كلمة المدينة الفاضلة التي اختارها فيلسوفنا الفارابي ترجمةً لجمهورية أفلاطون. وأوفق من ذلك أن ندلَّ عليها بكلمة «طوبى» من الآية الكريمة: (الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ طُوبَى لَهُمْ وَحُسْنُ مَآبٍ)؛ لأنها تدل على أطيب حال يَئُوب إليه الإنسان.

أما «المدوزا» فهي مخلوق أسطوريٌّ عند اليونان يمثِّلونه في صورة أنثى ذاتِ جناحين وجِلْدٍ كجلد الحية، لا يثبت على نظرتها أحد من الأحياء، فمن قابلته بنظرها هلك وضاعت عليه سبيل النجاة.

ولا حرج من استخدام هذه الكلمات في الشعر العربي؛ لأن كلمات كثيرة من قبيلها وردت في الكلام العربي الفصيح؛ كالفردوس بمعنى الجنة، و«الفقنس» من الطيور الأسطورية، والنوروز بمعنى اليوم الجديد.

إلا أن الشاعر العربي يستطيع أن يُعَرِّبَها بكلمة تؤدِّي معناها في صيغة عربية، ويستطيع — إن لم يتيسَّر له التعريب — أن يفسِّرها ويذكر مناسبتها في مصدرها الأول؛ لأنها ليست من كلمات اللغة التي يعرفها المتكلِّمون بها من أبنائها بغير اطِّلاع على قصتها في الأساطير الموروثة والملاحم القديمة، وقد يَجهَلُها اليوناني الحديث — بل يجهلها اليوناني القديم — إن لم يكن له اطلاع على أساطير قومه وقصائد الشعراء المقتبسين منها. ويشبه ذلك في لغتنا كلامَ المتقدِّمين عن العنقاء وعن جوف الفَرَا، وغيرهما من مضارب الأمثال السائرة، فإنها لا تُعْرَف بغير الوقوف على تلك الأمثال في مناسباتها.

وعندنا أن اتساع اللغة العربية لهذه التعبيرات ومواضع الاستشهاد بها ثروةٌ حسنة تضاف إليها، ولا تمسُّها في مادتها ولا في قواعدها.


عباس محمود العقاد

جريدة الأخبار
١٢ أكتوبر ١٩٥٩

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى