أحمد أمين - سكان الحارة و افراد القبيلة..

كانت حارتنا تمثل طبقات الشعب المختلفة يسكنها البائع الجوال، يظل نهارهً وشطرا من ليله متنقلا في الحارات والشوارع، ينادي على البلح في موسم البلح، والخيار في موسم الخيار. وأسرته وأقاربه يعيشون جماعات في بيت كبير عيشة بائسة تعسة، كل جماعة في حجرة.

كان يوجد بييت أرستقراطي واحد، كان ربه نائب املحكمة الشرعية العليا، وكان متقدما في السن، عظيم الجاه، وافر المال، له الخدم والحشم، يرهبه الكبير، و الصغير، وله عربة فخمة، تضرب خيولُها الأرض بأرجلها فتملأ القلوب هيبة؛ وكان كل سكان الحارة يسمونه «الشيخ» من غير حاجة إلى ذكر اسم، فالشيخ ركب، والشيخ جاء، وعند بيتً الشيخ — وكان الشيخ نعمة على الحارة، فلا تستطيع امرأة أن ترمي ماءً قذرا أمام بيتها خوفًا من الشيخ، ولا يستطيع قوم أن يرفعوا أصواتهم في السباب والنزاع خوفً من الشيخ؛ ولذلك امتازت حارتنا عن مثيلاتها وعما يجاورها بالنظافة والهدوء.
كان بين سكان الحارة رابطةٌ تشبه الرابطةَ بني أفراد القبيلة، يعتز الأولاد بحارتهم ويهتفون بها في النداء، ويكون بينهم و بين أولاد الحارة الأخرى منافرة فيحتكمون إلى القوة، ويعتزون بالناشئ الشجاع يظهر بينهم يذود عنهم، ويجلب النصر لحارتهم ويرعى سكان الحارة حق الجوار بأدق معانيه، يعودون أحدهم إذا مرض، ويهنئونه إذاَ عوفي، ويواسونه في مأتمه، ويشاركونه في أفراحه، وهم في ذلك سَواسيَة، لا يتعاظم غني لغناه، ولا يتضاءل فقري لفقره.

وفي يوم من الأيام حول سنة ١٩٠٠ رأيت الحارة قد مزقت وحفرت فيها الحفرً طولا ً وعرضا، ومدت المواسير وأدخلت في بيتنا الحنفية واستغنينا عن السقاء، وأراحنا الله من سماع النزاع حولنا، وأصبح الماء في كل طبقة من بيتنا، في أسفله وأوسطه وأعلاه، وشعرت أن البيت قد دبت فيه الحياة.
ثم رأينا الأسلاك تخرم البيت، وتخرم كل حجرة فيه وتدخل بيتنا الكهرباء، فنديرً المفتاح مرة فتضيء الحجرة، ونديره مرة فتظلم.
ثم دار الزمن دورته وإذا بعامل يأتي ليخرم البيت من جديد، وإذا بالأسلاك تمتد وآلة
صغيره تركب وجرس يدق، وإذا بالتليفون، وإذا بنا نتصل بمن في القاهرة وضواحيها.

ومن يدري ربما ستعود البيوت من غير أسلاك ولكنها وافية بالمطالب التي نستمتع بها. والتي نصبوا إليها، والتي لا يقدر أجيالنا الآن حتى على الحلم بها، ويخلق ما لا تعلمون.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى