إبراهيم درغوثي - ما لم يقله الأصفهاني في كتاب الأغاني.. قصة قصيرة

عندما عرضتُ عليه شهادتي الجامعية، كنتُ فخورة بنفسي، مزهوة بها كطاووس من طواويس ملوك
بلاد فارس القديمة. و كان رأسي يناطح السحاب ويحتك بزرقة السماء...
إجازة في اللغة والآداب العربية، أبليت كثيرا من سراويل الدجين للحصول عليها، فعلقت النسخة الأصلية
منها في صدر بيتنا ،وأقام لها والدي الأفراح والليالي الملاح. لكنني رأيت الرجل ينظر إلى الورقة
بقرف ولا مبالاة.
تأمل "صناجة العرب" شهادتي مدة من وراء زجاج نظارتيه، ثم ردها لي وهو يهمهم باحتقار :
- أما هذه فما عادت تنفع في شيء...
ثم أضاف، وغليونه يتحرك بنزق تحت شاربه الكث:
- هزي يا نواعم شعرك الحرير،
خلي الشعر الناعم مع الهوا يطير...
هذا ما احتاجه يا آنستي، أما ما بقي فلا يعنيني ...
يا رب السماء، ماذا يفيد إذن في هذا العالم الذي صار لا يقدر الشهائد العليا؟
ظللت أتمتم بهذه الجملة إلى سمعته يرد:
- فنانات كثيرات أنزلتهن من الجبل، لا يعرفن القراءة والكتابة وحولتهن بقدرة قادر إلى سيدات في
مجتمع المخمل....
هل سمعت بمجتمع سيدات المخمل يا آنستي؟
يعني سيدات في المجتمع الراقي الذي لا يدخله إلا من ولد ليلة القدر.
أنا صانع النجوم يا آنستي. بمقدوري أن أحولك بين ليلة وضحاها إلى فنانة كبيرة.فهل تقبلين؟
ويزيد في الضحك والانبساط. وأنا أتضاءل وانسحق تحت ثقل شهادتي الجامعية التي ما عادت تصلح إلا
للتعليق على الجدران …
ويسقط ثقل الشهادة على بدني، فيدكني دكا ويحولني إلى ذبابة في مزبلة. ذبابة جاءت تتسول الشهرة
وتظن أن بيدها مفاتيح السماء وهي تحمل على عاتقها ورقة ممهورة بخاتم الوزارة العالية.
ومن وراء ذهولي وحيرتي ، رأيت الرجل يعود إلى الضحك بصخب وهو يخبط برجليه على الزربية
الكبيرة التي كانت تغطي أرضية الغرفة الباذخة في جمالها وثرائها.
حين رآني أنظر إلى رجليه تخبطان عليها ، قال:
- هذه هدية من بلاد فارس وصلتني عن طريق باريس. إكرامية من واحدة من اللاتي حدثتك عنهن.
واحدة كانت تمسح شعرها المقمل بالزيت، وتسكن في زريبة مع الحيوانات المنزلية، ولا تعرف من
اللباس إلا الروبافيكا، ومن الأكل سوى الكسكسي المطبوخ في الماء. ولا تذوق اللحم إلا يوم عيد
الإضحى. والآن، يا حلوتي،ما عادت تلبس إلا الممهور من طرف أرباب الماركات العالمية، و لا تأكل
إلا بالشوكة والسكين. ولا تشرب إلا في الكريسطال.
ويعود إلى الضحك بصخب، فأعود إلى التضاؤل حد الذوبان، إلى أن قال:
- سمعت من مدير دار الثقافة التي كانت تغني مع كورالها، في قرية نائية، منزوية على سفح جبل، أن
لها صوتا عذبا شبيه بهسيس النسمة فوق الزهور وبترانيم الأطيار في صباحات الصيف الباكرة.و أكد
لي في سهرة شراب وعربدة أحيتها على شرفنا مغنية عجوز بمناسبة صدور ألبومها الجديد الذي لحنت
أغانيه ، أنها طينة خام. جمالها وحشي خارج من الغابة البكر ونفسها أحلى من المسك. كأنها حورية من
حوريات الجنة. فقررت أن أراها لأسمع صوتها وأتمتع بمغناها. فاتفقت مع مدير دار الثقافة على السفر
لبلادها والدخول في شعاب الغابة ووهادها، علنا نظفر بهذه الريم ونسعد بهذا النعيم
وكان ما كان. زرنا القرية فعرفت هذه الفتاة التي سيكون لها شأن مذكور على كر الأيام والدهور.
والغريب في الأمر أنها كانت خجولة في تلك الأيام وهي تقف أمامي في ثوبها القطني الخفيف منتعلة
حذاء أسود، كاد لونه يغيب تحت غبار الطريق. فعرفت أنني سأصنع بها العجب في عالم الغناء
والطرب وأنها ستكون أحلى من أسمهان وأغنج من صبوحات القيان.
دعوتها للالتحاق بنا لعاصمة البلاد، فوافقت دون الرجوع لرأي ولي أمرها. فزدت اقتناعا بأنها اللقطة
التي ظللت أبحث عنها طول العمر في عالم الجان والبشر. ولهذا حديث يطول يا بنت الناس...
وزاد وهو يطوح برأسه ذات اليمين وذات الشمال كما الأعمى الذي فقد بصره وبصيرته:
- هي امرأة قادمة من زمن آخر، من زمن ضارب في القدم . ذاك الذي عاشه البشر في مغاور، وعلى
الأشجار. تثيرك من أول نظرة بعينيها عيون المها، وبقدها المياس، يا قدها المياس يا عمري...
وسألني وهو يلف جسدي بنظرة خاطفة إن كنت أعرف صاحب هذه الأغنية؟
فقلت له : لا
فقال : هي للعندليب الأسمر، عبد الحليم حافظ. غناها جماعة قبله، ولكنني مغرم بها بصوت حليم.
وبدأ ينشد مغمض العينين :
قدك المياس يا عمري...
يا غصين البان كاليسر...
أنت أحلى الناس في نظري...
جل من سواك يا قمري...
وطلب مني أن أغني معه ديو، قال، حتى أجرب نبرات صوتك وحلاوته وطلاوته، وإن كان سيطرب
السلاطين أم لا، لأن نجاح الفنان في الإطراب يا ستي...
ثم استدرك ، ذهبنا بعيدا ونسينا صاحبتنا الفنانة التي أخرجتها من مغاور الجبل وأسكننا في أفخر الفلل،
فباعتني بفلس ونسيت البارحة والأمس.
ثم نظر ناحيتي مسكونا بالريبة والتوجس:
- أنت أيضا يا دنانير تريدين أن تصبحي فنانة كبيرة وتطيري حتى السماء السابعة، ادفعي الثمن
وستنالين مرغوبك.
ورأيت في عينيه غيمة حزن مليئة بالمطر فيها دموع جافة حد اليباس.
و رأيت داخل الغيمة بروق تنذر بانفجار مطر مدمرة، فوقفت وأنا أعتذر:
- سأعود مرة أخرى.
ومددت يدي أريد لملمة حقيبتي : مرآتي الصغيرة وإصبع أحمر شفاه وملقط شعر و... أشياء أخرى
لا لزوم لذكرها ...
كان وهو يفرغ محتويات الحقيبة الصغيرة فوق طاولة صغيرة وسط الصالون أول ما جلست عنده يتأوه
ويطلب المعذرة لأن من عاداته السيئة كما قال ،أنه لا يطيق أن يرى حقيبة يد نسوية مغلقه. وأنه يخاف
هذه الحقائب بعدما حاولت فنانة معروفة جدا في الوسط الفني اغتياله ذات مرة بواسطة سكين كانت
تدسها في حقيبة يدها.
وقام متجها نحو الباب وهو يسرع في خطوه، فتبعته، ولم أدر إن كان مد لي يده للمصافحة أم لا. فقد
سمعت وراء ظهري اصطفاق الباب، ورأيت فوانيس الشارع تملأ ليل المدينة بالأنوار...
ومرت أيام إلى أن يئست من الالتقاء به مرة أخرى، فبدأت في البحث عن ممر جديد وشخص فريد
يوصلني لبغيتي ومنى قلبي في اقتحام عالم الفن وتوابعه وزوابعه. لكن جاءت منه البشارة قبل أن أتأكد
من الخسارة ، فقد كنت بين اليقظة والنوم عندما وصلتني منه رسالة قصيرة على هاتفي المحمول تنادي
وتقول:
" دنانير، ستصل تاكسي بعد قليل أمام بيتك. لقد دفعت للسائق معلوم نقلك ذهابا وإيابا. رجاء لا تتأخري،
ولا تتركي رجل السيارة يطيل في انتظاره".
كان الليل قد توسط، وكنت في فراشي على وشك النوم. وهاهو رجل الحكاية يدعوني للمثول بين يديه.
ويرجوني في القدوم إليه. فما عساني أفعل؟ وهل أرفض أم أقبل ؟
ظللت بين الرجاء والتمني والرفض والقبول إلى أن صرخ زمور سيارة أمام بيتي، فهز قلبي ووحدتي.
فقمت واقفة لأصلح من شأني وألبي نداء من دعاني.
مرت بنا السيارة في شوارع خالية إلا من قطط ترعى في القمامة وسكارى آخر الليل يغادرون الحانات
وحدانا وزرافات. والرجل الجالس أمام المقود يحرك إبرة الراديو ولا يصبر على محطة إذاعية واحدة.
كان قلقا كأن الريح تحته، أو كمن فقد اليقين. وكنت على وشك الصراخ أن عد بي إلى بيتي حين أوقف
السيارة أمام باب قصر منيف، فأسرع خادم ليفسح له في الطريق. وسمعت نباح كلاب ضخمة.
ورأيتها تقفز في أقفاصها المنتصبة قريبا من الباب الكبير . ثلاثة كلاب من نوع البيلدوغ
سوداء مرقطة بالأبيض كأنها شياطين مردة بعيونها التي تقدح شررا وبأصواتها الخارجة
من سراديب الجحيم.
تركني سائق التاكسي واقفة أمام الباب الداخلي وذهب في حال سبيله وأصوات الكلاب المزمجرة تهز
المكان وتزعج سكون الحديقة الكبيرة الهادئة في سباتها حتى خرج لي من حيث لا أدري رجل قصير
القامة ذو جسم ضئيل مدسوس في مئزر أحمر به أزرار مذهبة وشرائط ملونة، كأنه واحد من الأقزام
السبعة، فحياني وهدأ من روعي بابتسامة زرعها على شفتيه وهو يقول:
- لا تخافي، هذه روبوهات على شكل كلاب مبرمجة لتقفز و تنبح كلما فتح الباب الخارجي للقصر.
وغمز بعينه. ومسح ابتسامته من على شفتيه، واستدار وهو يطلب مني أن أتبعه.
قادني في ممرات ودهاليز مضاءة بنور خافت كالذي يهتدي به السراق أو يستنير بضوئه العياق، إلى أن
وصلنا أمام باب مكتب مغلق، فنقر عليه بإصبعه وهو يهمهم :
- افتح يا سمسم أبوابك نحن الأقزام...
وظل واقفا حتى جاءنا صوت من الداخل يطلب منا الولوج، فدفعني بيديه الصغيرتين دفعا لطيفا إلى
الداخل وولى الأدبار هاربا من الديار.
وفاجأني هروبه، فالتفت ورائي. رأيت الرجل يسير على عجلتين صغيرتين مدسوستان تحت المئزر
الطويل، تئزان و تصران صريرا لطيفا على جليز الممر. فتذكرت كلامه عن كلاب الباب وامتلأ قلبي
بالعذاب، لكن صوتا مطمئنا ناداني من وراء طاولة تكدست فوقها عشرات الكتب والمجلات والجرائد،
فقصدت الصوت القادم من وسط غمامة من الضباب وأنا أهتز من الخوف والاضطراب.
عندما اعتادت عينانا النظر في المكان، عرفت صاحبي، صناجة العرب وفنان الغناء والطرب الذي كنت التقيته في داره يوم جئته أعرض عليه شهادتي العلمية راجية منه أن يفسح لي في مجالسته وأن يرغبني في مؤانسته. لكن صوته فقط ظل على حاله بينما تغيرت هيئته وشكله فقد رأيت وراء الطاولة رجلا آخر غابت عنه الأناقة وهو يلبس ثياب الفاقة. فزاد استغرابي واشتد خوفي وعذابي وندمت عن استماعي لصوت القلب وتركي لما قاله العقل عندما وصلتني الدعوة فلبيتها دون تفكير ووافقت عليها دون تدبير.
وقام الرجل يستقبلني بالود ويفرش في طريقي الورد، هاشا باشا كأنني نزلت له من السماء السابعة. فأحسست بالاطمئنان وكف قلبي عن الوجيب والخفقان. وبدون مقدمات قال، وابتسامة رائقة تزين وجهه العريض :
- سأحتاجك يا دنانير، فلا تبخلي علينا بما كسبت من علم ومعرفة وأنت صاحبة الشهادة السنية المدموغة بخاتم الوزارة العلية.لقد تقادم العهد على ما اختاره العرب من أصوات مائة وقد رغبت في إكمال كتابي بأصوات جديدة في الغناء لم يعرفها ابن سريج ولا الموصلي، ولم تغنها حبابة ولا علوية. أريد أن أضيف إلى الكتاب مائة صوت جديد مما أطرب العرب بعد والواثق والمعتز والراشد والرشيد.
وزاد استغرابي وأنا أتابع حركات الرجل وهو يفتح كتابا ويغلق آخر ويمد يده إلى مجلة أو جريدة يتصفحها دقيقة ثم يرمي بها أرضا ليعود لكتاب جديد ومجلة حديثة، فقلت له:
- أنا يا سيدي تنقصني الدراية بأرباب الغناء ورباته. لقد جئتك لتعلمني الإطراب لا لأحدثك عن المغنين
والأصحاب.
فقال دون أن يلتفت لحديثي:
- لا عليك. سنتعاون.
وبدأ يسرد على مسامعي أسماء المطربين والمطربات، الأحياء منهم والأموات. وهو يطلب رأيي في كل
واحد وواحدة كأنني بالفن عليمة و بعوالم الغناء فهيمة:
- ما رأيك في أم كلثوم؟
سأختار لها الصوت الذي تقول فيه:
هذه ليلتي وحلم حياتي
بين ماض من الزمان وآت
الهوى أنت كله والأماني
فاملأ الكأس بالغرام وهات.
ويحضن عوده ويبدأ بالترنم بهذا اللحن بصوت أعذب من بلابل الربيع وأرق من شحارير الوديان
والينابيع ، وأنا أدق على خشب الطاولة بيدي وأوقع الأنغام برجلي.
وعبد الوهاب. آه... وآه.. من عبد الوهاب. صوته لذيذ أحلى من شراب النبيذ، وترديداته وتنهيداته تعيد
للشيخ شبابه و تشرع للسرور أبوابه وتحرك للهناء أسبابه.
واحتضن العود ومرر عليه أنامله فأنت وحنت حنين للوالدة للمولود. وشدا فأجاد وأطرب:
يا ضفاف النيــــل بالله ويا خضر الروابى
هل رأيتن على النهر فتى غض الاهــاب
أسمر الجبهة كالخمرة فى النور المــذاب
سابحا في زورق من صنع أحلام الشباب.
إن يكن مر وحيا من بعيـــد أو قـــــريب
فصفيه وأعيدي وصــــفه فهــو حبيبى

******
يــــــا حبـــيبى هــــــــذه ليــــــــلة حبي
آه لو شـــــــاركتنى أفــــــــــــراح قلبي...
والتفت صوبي وقال :
- تعرفين. لن أؤرخ هذه المرة للشعراء كما فعلت في الكتاب القديم، بل سأذكر بالمغنين والمطربين. سأحدث عن أحوالهم وأذكر أفعالهم. فهم فرسان هذا الزمن الذين استقامت لهم الدنيا بمالها وجمالها
فاحتضنتهم الدور الفاخرة والنزل العامرة وهلل لهم الصغير والكبير والداب على الحصير.
وقال كلاما كثيرا وأنا بين اليقظة والمنام. تارة أصحو فأجاريه في الغناء وطورا أغفو فلا أفيق إلا وهو يهمزني بريشة العود في فخذي مذكرا بفناني عصره ومن سبقهم :
عبد الحليم حافظ وفيروز ونجاة الصغيرة وأسمهان و وردة الجزائرية وحبيبة مسيكة وعبدالهادي بالخياط و ماجدة الرومي وسميرة بن سعيد و علية التونسية ونبيل شعيل وعمرو دياب ومحمد عبدو
وكاظم الساهر وغيرهم ممن لا أعرف له ذكرا ولم يخطر على بال إلى أن قال:
- سنبدأ بهؤلاء. نختار من بعض أغانيهم التي أطربت السماع و أهاجت الأطماع ونحبر سيرهم الزكية ومناقبهم العلية ثم نعود للبحث عما جادت به قرائح الشعراء وأنامل الملحنين من أنغام خالدة على كر الدهور ومر الأزمنة والمواقيت.
وأخرج من تحت الطاولة أجهزة تسجيل راح يفرغ فيها ما وثقه من أغان وهو يتمايل في طرب.
وأنا أتابع حركاته وسكناته وكأنني في عالم مسحور.
وظللنا على هذه الحال مدة لا يعرف مقدارها الا العلي القدير، فقد كنا في مكان لا علم لي فيه على تقدير الساعة إلا أنه كان في كل مرة يأمر لي وله بما لذ وطاب من المأكل والشراب ويرشدني إلى الكنيف إذا رغبت في قضاء الحاجة.
وأعود فأجده في حالة من الوجد القصوى. يترنم بالألحان وينادي لحضوره الفانة والفنان. فتجيئه الأغاني طائعة مطيعة فيملأ بها استماراته ويرتب من بينها خياراته. إلى أن صاح:
- الآن استوى كتاب الأغاني الجديدة في نسخة فريدة ستزين مجالس الطرب والأنس وليالي الجواري الخنس.
وقام ، فمشى وأمرني فمشيت وراءه إلى أن أوقفني أمام جدار انفتح فيه باب عندما اقتربنا منه. واجتزنا الباب، فتبعته وأنا كالنائمة إلى أن دخلنا حديقة فسيحة تزدهي بالأشجار والأزهار فقطعناها حتى وصلنا فسطاطا كبيرا في وسطه دكة ضخمة فرشت بالزرابي والطنافس والأرائك يجلس عليها فريقان : على اليمين غلمان كأنهم اللؤلؤ والمرجان، وعلى الشمال جوار حسان قاصرات الطرف كأنهن الدررالمتلألئة في السماء الزاهرة، وهم يلعبون بمهارة بالأرغن الرومي والدف والطبل والطنبور والعود والناي والبربط والرباب. فترتفع من بين أصابعهم موسيقى عذبة تأسر القلب وتسعد اللب.
قلت مشدوهة :
- يا الله... لهذه الألحان حلاوة وطلاوة السنفونيات العصرية.
فرد علي:
- نحن لا نعرف هذه التوصيفات لموسيقانا. نحن نتعامل مع هذه الآلات كما نتعامل مع القلوب، فتطيعنا طاعة الحبيب للحبيب.
وقادني من يدي فأجلسني في صدر المجلس وهو يقول:
- جئتكم الليلة بدنانير المغنية، وصفق فخرجت من وراء ستار من الحرير سبع جوار حسان بدأن بالرقص والتمايل مصحوبات بالدق على الطنبور والتصفيق والتصفير المنغم الفتان.
وأنا في حيرة من أمري أدير الرأس ذات اليمين وذات الشمال وأميس ميس الريم أمام هذا السحر الحلال .إلى قال غننا يا دنانير لحن ابن محرز في شعر نصيب:
أهاج هواك المنزل المتقادم؟
نعم ، وبه ممن شجاك معالم.
ولم أدر كيف انساب اللحن من حلقي ،نغم كالماء السلسبيل . وكنت كلما جودت في الغناء زاد الطرب
وتسارع رقص الجواري وهن يتمايلن ويتطوحن حولي كما أغصان البان تحت نسائم الربيع الفتان حتى
وقعن على الأرض من الإعياء و التعب.
وأنا أعيد الغناء وأجيد ولا أكل ولا أمل. والرجل يصفق بيديه ويضرب الأرض برجليه ويقول:
- سأصنع منك نجمة نجوم السماء يا دنانير.
و يأمر لي بشراب له طعم العسل، كلما رشفت منه سرى في بدني كدبيب النمل. فيزداد تنغيمي للغنوة
وتطريبي للحضور...
وفجأة صفق بطريقة خاصة فقام الحضور والتفوا بي وصاروا يدورون حولي دوران الخذروف وأنا
أدور معهم حتى أغمي علي.
حين أفقت وجدتني في بيتي وناقوس هاتفي الجوال يقرع قرعا عنيفا فمددت يدي لأسكته لما اعتراني من
دوار وأنا أفتح عيني. لكن الهاتف عاد يناديني . يصمت لحظة ثم يعود للنداء .
حين استجبت له، سمعت صوت الأستاذ، صناجة العرب يصيح:
- أين كنت يا امرأة؟ ظللنا ثلاثة أيام نبحث عنك ولا نجد لك أثرا حتى كدت أعلم الشرطة عن غيابك؟
لم استوعب حديث الرجل، ولم أقدر مقصده وأنا بين اليقظة والنوم فسألته أن يطلبني بعد ساعة، وأغلقت الهاتف وعدت للنوم فقد كان رأسي أثقل من جبل وهو يحط بكلكله على جسدي المتعب.
يومها لم أدر إن كان الهاتف قد عاد للرنين أم لا لأنني لم أفق من النوم إلا بعد منتصف النهار.ظللت نائمة ولم أفق إلا عندما حرك ذاك الرجل الصغير ذو الرداء الأحمر الذي استقبلني أمام القصر، أرنبة أنفي بإصبعين من حرير وعندما تأكد من أنني فتحت عيني، ابتسم في وجهي وقال لي سلاما ثم رفرف قرب سقف البيت بجناحين من نور، وطار من خلال فتحة صغيرة في الشباك.
فقمت لأرد عليه السلام وأستفسره عن سر العجلتين المركبتين تحت سرواله ولكنه ذاب كما يذوب السكر
في كأس ماء.
تثاءبت وتمطيت ونظرت إلى وجهي في مرآة صغيرة مثبتة أمامي على الجدار وهتفت لنفسي بافتخار:
تبارك الذي صورك فأحسن التصوير: عينا غزالة برية وسط وجه أسمر في لون القمح يموج فوقه شعر
أسود كريش الغراب وصدر عامر بالحياة فماذا تركت لبقية النساء يا بنت الحلال؟
وضحكت وأنا أبحثت تحت السرير عن حذاء أمتطيه لأذهب للحمام، فواعجبي ، وجدت كندرة بديعة ما
كانت في يوم من الأيام على ملك يميني. كندرة من الجلد مطرزة بخيوط من الذهب والفضة ومرصعة
بأحجار كريمة تخطف الألباب. بهرني نورها وجمالها فبقيت أتأمل في حسنها حينا من الوقت وأنا
أتساءل كيف وصلت هذه التحفة إلى هنا ومن أوصلها إلى بيت نومي؟
وتركتها إلى حين تحت إلحاح الحاجة لأعود إليها مرة أخرى، وذهبت إلى الحمام حافية القدمين أقفز
كالعصفور وأنشد في حبور.
لما عدت لأرتب سريري، وجدت على الملاءة قرب المخدة، ذات اليمين وذات الشمال، قرطين من اللؤلؤ
يخلبان الأبصار. فبقيت يدي معلقة في الهواء وهزت دقات قلبي صدري حتى كاد ينفجر. وأصابتني بهتة
ما بعدها بهتة، فجلست على الحافة غير مصدقة بصري وما يرى.
وعندما تداركت أمري، التقطت القرطين وفحصتهما فحصا جيدا ثم وضعتهما مع الكندرة في صندوق
صغير أحكمت إغلاقه وذهبت إلى المطبخ أحضر لنفسي قهوة سوداء. قلت ، لعلها تعيد لي توازني وترد
عن رأسي هذا الطنين الذي كاد يهلكني.
ترشفت القهوة على مهل وأنا أسترجع ما وقع لي منذ أن استعدت وعيي، فعادت لي ذكرى الهاتف
وصناجة العرب الذي كان يسألني عن غيبتي وأنا بين اليقظة والنوم، فزاد استغرابي وكبرت حيرتي
وازداد الطنين داخل طبلة أدني ولم أجد لي من حل إلا العودة للفراش لعلي أفهم ما جرى لي اليوم.
لعلي أستوعب استغراب وسخرية رجل الموسيقى حين عدت فاتصلت به للرد على رقم هاتفه المسجل
على جهازي، فقال لي :
- كفى هذرا يا امرأة، أنا لم أرك منذ مدة طويلة.لم أرك منذ أن غادرتني مغضبة، فقلت لك أنت لا
تعرفين الكذب لذلك سأجعل منك نجمة نجوم الطرب في كل بلاد العرب.
ثم أضاف وهو يضحك ضحكته التي حفظتها عن ظهر قلب:
- على كل دعينا من هذه الحديث.لقد اتصلت بك لأدعوك للاستعداد للمشاركة في كاستينغ برنامج
" عالم النجوم ". سنصور بعد شهر في الأستوديو بروفات لهواة الغناء من الشباب والشابات
فلا تضيعي هذه الفرصة
وتعالي لأصنع منك بعدها العجب العجاب.
استلقيت على السرير وشغلت مسجلا وضعت في قلبه شريطا لأغاني فيروز. تركت القلب يدق
وأغمضت عيني فجاء الصوت حلوا ، لذيذا ، ميلنكوليكيا هز بدني حد الارتعاش، فأغفيت وطرت على
بساط الريح أبو الجنحين. ونسيت الدنيا وما فيها والنغم الساحر يسري في كياني سيريان السم في اللديغ.
يا شقيق الروح من جسدي
أهوى بي منك أم ألم
أيها الضبي الذي شردا
تركتني مقلتاك سدى
زعموا أني أراك غدا
وأظن الموت دون غدي
أين مني اليوم ما زعموا
أدن شيئا أيها القمر
كاد يمحو نورك الخفر
أدلال منك أم حذر
يا نسيم الروح من بلدي
خبر الأحباب كيف هم...
هل طالت غفوتي؟
هل طال طيراني في ملكوت الرب مع هذا الصوت الخارج من مسام السماء ؟
فظللت هائمة في ملكوت الرب إلى أن عادت الأسئلة الحارقة تدق على رأسي بعنف:
هل أصدق رجل الموسيقى وهو يقول:
- طلبناك حتى كدنا نيأس من وجودك.
هل أسكت عما اكتشفت تحت السرير وفوق الملاءة ؟
ومن أوصل تلك الأشياء الثمينة تحت سريري وفوقه ؟
ألم أكن عنده كل هذه الأيام والليالي؟
أليس هو من كان يسجل أغاني فناني عصر النهضة العربية في قصره؟
أليس هو من جعلني أغني ذاك الدور الجميل لابن محرز في شعر نصيب؟
يا رب العرش العظيم ونون وما يسطرون وكن فيكون...
أكاد أجن فمن يعيد لعقلي صوابه ...؟

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى