عبد النبي دشين - لقطتان ماكيت

اللقطة رقم 1

بكلتا راحتيه تحسس وجهه, فتح الصنبور, لم يتدفق الماء, اقترب من المرآة وتأكد من ضرورة التخلص من الشعيرات النابتة في فوضى على مساحة وجه الذي تحسسه بكلتا راحتيه قبل أن تؤكد المرآة ما أقرته كلتا راحتيه. لم يتدفق الماء والصنبور مفتوحا مازال كخ كخ... كاخ كاخ... قاه قاه... كاخاقاه...

بكلتا يديه أغلق أذنيه وتراجع مذعورا, والوجه الشاخص في المرآة مكخقها لا يزال, بلهجة آمرة طلب منه أن يعود الى مكانه، مفزعا لبى الأمر.

- سخيف ! ألهذا يخفيك وجهك؟ لماذا تنظر الى نفسك بهذه الطريفة البلهاء؟

- هل حقا أنظر الى نفسي بهذه الطريقة ؟ ! لم أنعت قبل هذه اللحظة بالسخافة, أنا لست سخيفا.

- ماذا تقول, أقول ماذا؟ لا شيء إذن فكر بصوت مسموع لأتأكد من أنك لست سخيفا ولا خائفا, أنا ليست كذلك, أذكر أنني مرة واحدة أصابني الفرق يوم احدودب الزمن ودحرجني, فانسلت من بين أصابعي طفولة استعارها مني الآخرون إنني في انتظارك خذ المفتاح وادخل, مددت يدي الى المفتاح الذي أعلقه على المسمار الحامل للمرآة, ثبته في الوسط فبرز قفل صدئ انتزعته تحول الى حفنة رماد, بسطت راحتي فبعثرته الريح الصماء التي لم تقو على تحريك غصن الشجرة المعدنية, لمست جذعها, انحنى الغصن مثقلا برمانة كساها لون بني فاقع لبم اقطفها, تجاوزت الشجرة واستقبلني مقعد يطل على مساحة معوشبة، جلست شدني صبية يرقصون علة نغمات موسيقى لا أسمعها, حاولت أن أعرف مصدرها ... كاخ كاخ... قاه كاخ قاه... عادت الكخقهة من جديد, تقدم مني الصبية يخملون وجهي الفاعز فاه مكخقها حاول أن يعانقني امتنعت, قمت من على الكرسي , ووقفت منتصبا, التفت الى الشجرة المعدنية التي تقرفصت مستكنهة ما سيحدث, تأملته تأملني, تراجع خطوتين الى الوراء وأدركت أنني ملاحق, أطلقت ساقي للريح العرجاء والصبية يقذفونني بحبات المظ، انحنيت قليلا بعدما وصلت الى إطار المرآة التي انغلقت بمجرد أن قفزت، مكثت برهة على الأرض، أحاول استرداد أنفاسي متثاقلا نهضت، تذكرت بأنني لم أغلق الصنبور، ما إن هممت بلمسه حتى تدفق حروفا, تأملت وجهي في المرآة هلعت للتشوهات التي لحقته, كالمأخوذ اقترب من المرآة وابتعد...

- طرقات على الباب جعلتني أرتعد مثل عصفور مبلل, فتحت الباب واجهني صبي مد يده لمصافحتي, لم ينتظر أن أرد على المصافحة, أعطاني باليد الأخرى رمانة وغادرني, أغلقت الباب خك خك كاخ قاه كاخ... كاخ... آ...خ...خ... كان رجع الكخقهة بخفت كلما ابتعدت خطوات الصبي عن الباب, دفعت بوجهي صوب المرآة، خطوت الى الوراء كان بيني وبين الباب مقدار خطوة ونصف ثم رميت المرآة بالرمانة, لم يحدث الانشراح أي صوت، أسرعت الى تأمل وجهي كخقهت, لم يعد للتشوهات, أثر, وحدها الشعيرات نابتة على مساحته, بكلتا راحتي تحسست وجهي, فتحت الصنبور... ثم أغلقت . وخرجت...

اللقطة رقم 1 مكرر:

على مساحة متربة:

كان يقود سيارته بسرعة جنونية –كما يقولون- يريد أن يدرك القطار المتجه الى المدنة التي سترحل اليها جاكلين، بعد أن أطلع على الورقة التي وضعنها فوق مكتبه: وداعا سأرحل على الساعة, ورحلت جاكلين، ولم يتمكن بسرعته الجنونية أن... أشعل سيجارة ونفث الحسرة والأسى، مخذولا جر قدميه الى أن غادر المحطة.

على رصيف مزدحم:

كان يسير تائها خائبا –كما تقول القصص- وجاكلين تنغرس في الأضلع مشتهاة كحبة عنب في الشتاة, مر بجانب المطعم الذي شهد لقاءهما الول في الشتاء الماضي، من خلف الزجاج وقف يتأمل الطاولة التي تجمع عجوزين، يبدو أنهما يحتفلان بذكرى لقائهما الأول، بعد أن عاشا أفراح الأولاد والأحفاد وتفرغا للتلذذ بهذا العمر الجميل، تماما بنفس الشكل كانت تجلس قبالته جاكلين وكانت إشراقة وجهها تمنح الشمعة التي تتوسطهما اتقادا وبهاء، تخلص من عقب سيجارته, منكسرا جرته قدماه الى أن غادر الشارع.

بيني وبينه خطوة:

اندهشت عندما اقترب مني أشار بأصبعه في وجهي فأيقنت أنه يعنيني أنا بالذات.

- أنت تعرف بأنني لا أحب الثرثرة, وقد تتبعت ذلك وكنت شاهدا على ما وقع, فلماذا رحلت جاكلين؟

- أنا لم أغوها ولم أدفعها لتتخلى عنك, فقط كنت أشرح موقفي من تصرفاتك معها وأنتما بجانب البحر كما أنني... كنت أقرأ في تعبير وجهه علامات الجدية, حاولت أن استعيد اللحظات التي جمعته بها علني أضع يدي على ما يمكن أن يبل غلته ويبدد حبل السؤال الجاثم على صدره, ولما لم أجد وضعت يدي على قلبي, في حين قد تحرك هو بطريقة متقنة وأمرني بألا ألتفت وأن على مرافقته.

- مرنا بأزقة ضيقة مظلمة، وقد كان الزقاق الأخير يفضي الى ساحة كساها اللعاع يتوسطها موسيقى أعمى يعزف على الأكارديون تحيط به آلات موسيقية مطروحة في فوضى, والى جانبه كان يجلس رسام بترت ذراعه اليمنى يضع اللمسات على لوحة تنطق ملامحها باسم جاكلين, حيث يبدو الشعر منسدرا والعينان دعجاوين، تفرست في هذه التقاسيم ولم أتمالك نفسي فصلقت في الخواء: جاك...ل...ي...ن...ن…

أشرت الى الوجه فرحا كطفل استعاد لعبته، غير أن فرحي تبدد بعد أن قرنت جاكلين حاجبيها البلجاوين وافتر ثغرها الشتيت, التفت اليه, وجدنه منتصبا ورائي يراقبني في صمت, دس يده في جيب سترته الجلدية, وبخفة أشهر مسدسه مصوبا إياه في اتجاه اللوحة وانبعثت من الفوهة ست نوطات موسيقية, ثم غاب وجه جاكلين وحده إطار اللوحة ظل مثبتا في مكانه والنوطات تتراقص وسطه, اقترب الأعمى في وضعية المايسترو, وأخذت أنامله تداعب الأكارديون نغما شجيا.

ثبت مسدسه على كتفي, ووجدتني قد نفزت من مقعدي ارتفاع الأصوات جعلت خطواتي مرتبكة مرتطمة بالمقاعد, أضيئت القاعة, كاانت الاتهامات متباينة حاولت أن أؤكد لهم بأنني لم أجعله يغادر اللقطة’ بل هو الذي أرغمني على اقتحامها, غير أنهم لم يعبأوا بكلامي, وعلا صفيرعم مطالبا بمتابعة الفرجة وأن هذا التوقف قد أفسد عليهم لذة الاندماج...

رأرأت عيناي, فتبينت المخرج وبقوة دفعت الباب وهرولت, وإذ أحسست بابتعادي مسافة عن قاعة السينما, توقفت لأجد بعض المتفرجين قابعين في أماكنهم وبإشارات منهم عرفت بأنهم قد عجزوا عن إمساكي, تابعن سيري وأمام واجهة مقشدة توقفت, كانت الشابة تجلس قبالته تبتسم بغنج, من غير أن أثير انتباه أي أحد، استأنفت سيري, وبسرعة غير اعتيادية رقيت درجات سلم العمارة, فتحت باب شقتي, أخذت الورقة المطروحة أرضا: لن أرحل كما أخبرتك بالأمس الى... وعلى الساعة... سأعود بعد قليل.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى