قسطنطين زريق - الوعي القومي..

مقدمة ونقد: زريق وكيف لا يجب أن يكون الوعي القومي!

نمرره على سبيل العلم والخبر، وللتعريف بأشكال مختلفة من الفكر القومي حتى لو لم نوافق على مضمونها جميعاً.

المادة أدناه للأستاذ الكبير قسطنطين زريق مقتطفة من كتابه “معنى الوعي القومي” الذي أثار ضجة ونقداً كبيرين عند صدوره عام 1960، خاصة في أوساط القوميين اليساريين، وعلى رأسهم الأستاذ رئيف خوري الذي كتب نقداً لاذعاً لكتاب زريق، وآخرين.

ولو قيض لنا أن نغير عنوان كتاب زريق، لاخترنا ” كيف لا يجب أن يكون الوعي القومي”، أو “الوعي القومي في قبضة التغريب”، ونمرره مقتطفات منه هنا كنموذج أو كتمرين ذهني لما يجب تجاوزه وتخطيه في تراث الفكر القومي العربي.

الأستاذ زريق من أبرز رموز الفكر القومي في أواسط القرن العشرين، ولا يجوز اختزاله في هذا النص الوحيد، ومن هنا أهمية ما يقدمه هنا كنموذجٍ لا بد من التوقف عنده.

المادة أدناه مهمة لأنها تعتبر، في عز فترة المد القومي، عام 1960، أن الوعي القومي الحقيقي غائب، وأن الغالب هو الاشتغال بالأمور العامة للأمة بشكل سطحي، وتسعى المادة بالتالي لاقتراح منهج لتعميم الوعي القومي وتعميقه. وخلاصتها أن الوعي القومي لا يقوم إلا إذا تضمن: أ – معرفةً وفهماً واضحاً لأصول العروبة وجذورها، ب – وتقدير متزن لقوى الحاضر وعوامله، ج – تبنياً لرسالة حضارية تقدمها العروبة للبشرية.

وفي المادة نقاط مهمة كثيرة، فضلاً عن كونها بالأساس دعوةً مخلصةً لتعميق الوعي القومي وتعميمه، لكنها تقع بالمقابل في مطبات ومنزلقات خطيرة، وأخرى ثانوية، وهو ما دفع أكثر من كاتب ومفكر قومي لنقدها كما سبقت الإشارة.

ولعل أخطر ما فيها أنها تدعو عملياً لتبني التنظيم الغربي للاقتصاد، دون تدقيق أو تمييز، والنتيجة هنا طبعاً هي الترويج للرأسمالية كنظام، أو ما يسمى عادة “اقتصاد السوق”، وهو ما يعني فعلياً الدعوة للتبعية الاقتصادية، لأن هذا ما يعنيه فعلياً تطبيق النموذج الغربي في الاقتصاد في دول العالم الثالث. ولو اقتصر الأمر على طرح ضرورة دراسة التجربة الغربية، وغيرها، لكان في الأمر وجهة نظر!

كما تدعو المادة عملياً لتبني الفلسفة الغربية بتياراتها المختلفة، ولتبني المنطلقات المشتركة لتلك التيارات، ولدمجها في نسيج الشخصية العربية. فالأستاذ زريق يبدو أنه منبهر بكل شيء غربي، ويريدنا أن نعتبر ذلك رافداً من روافد الوعي القومي العربي، يوازي عنده ضرورة التغلغل في جذور العروبة التاريخية!!!

ومن الواضح أننا لا ننتقد دعوة الأستاذ زريق لتبني المنهج العقلاني، والمنهج العلمي في التحليل، ولا نرفض الاستفادة من تجربة الغرب في هذا المجال، ومن تجربة غيره، ومنها تجربتنا نحن، دوماً على ضوء مصلحة الأمة، وعلى أرضية التأصيل، لا على أرضية فقدان الهوية، لكن الأستاذ زريق يدعونا صراحة لتبني الغرب، في نظامه الاقتصادي وفي فلسفته وثقافته!! فكيف يكون هذا مشروعاً قومياً عربياً!! بل هو مشروع تغريبي، والقوميون العرب لا ينغلقون على تجارب الشعوب، لكنهم لا يدعون لتبني النظام الاقتصادي الغربي… وفي عز فترة الحرب الباردة، والصراع مع حركات التحرر الوطني في العالم، فإن هذا الموقف ينم عن معنى واصطفاف سياسي محدد…

ولعل نزعة زريق لتغريب الدعوة القومية العربية في كتاب “معنى الوعي القومي” تظهر بشكل غير مباشر في حديثه عن ضرورة فهم جذور العروبة، والتاريخ العربي، والجهاد العربي، الخ…، وهو ما لا نختلف معه فيه، دون أن يذكر الوعاء الإسلامي للعروبة مرة واحدة!! فكيف يريدنا أن نعود لتاريخ العروبة ومعارك العرب الخ… دون أن يذكر الإسلام في نفس السياق؟!

وما كنا لأن نمرر هذه المادة لولا أنها تستحق القراءة. إليكم ما يقوله مثلاً عن قصة التطرف والغلو: “الخطر عندنا ليس في الغلو والإفراط، بل في التفريط والنقصان، وليست مصيبتنا حب السيطرة وفرض السلطان، بل خور العزم وضعف الإيمان”. لكن من ناحية المنهج، نجد أسلوب الأستاذ زريق في المادة أدناه وعظياً إرشادياً، ونكاد نتخيل ونحن نقرأها مدرساً في الكتاتيب من أواسط القرن التاسع عشر، بالرغم من العديد من الإضاءات الجيدة والنقاط الموفقة الواردة فيها. ولعل زريق يؤسس في هذه المادة لنشوء مدرسة القوميين الرسميين، المرتبطين بالأنظمة، الداعين للقومية المتغنين بها، لكن دوماً على أرضية موقف سياسي مخترق أو حمال أوجه في أحسن الأحوال.

القومية العربية نهج ثوري، وموقف حي مرتبط بالحركة السياسية على الأرض، وخطابها كما نجده عند مفكريها ورموزها الكبار خطاب حيوي متفاعل، لا خطاب جامد ومقدد ومنمق على النمط العثماني…

الأستاذ زريق لديه أشياء مهمة يقولها، وليس وعاءً فارغاً على الإطلاق، ومنه مثلاً: “فليس من المعقول أن الأمة العربية التي أنزلتها الأقدار في هذا الموقع الممتاز من الكرة الأرضية… أن لا تكون لها مزية معينة تنفرد بها عن غيرها من الأمم، ويدٌ خاصة تسديها إلى التمدن البشري… كما أن العرب استطاعوا في العصور الغابرة أن يهضموا مدنيات اليونان والرومان والفرس والهند، ويمتصوها بعقولهم النشيطة ونفوسهم الظمأى ثم يخرجوها إلى العالم وحدة منسجمة غنية المادة باهرة اللون، كذلك ستكون مهمة العرب في الأعصر الآتية أن يتشربوا علم الغرب ويجمعوا إليه العناصر المختلفة التي تنشأ في الغرب والشرق كرد فعلٍ له، ويؤلفوا بينها كلها في وحدة جديدة تكون عنوان الحياة المقبلة يفيض بها العرب على العالم كما فاضوا عليه بمدنيتهم الباهرة في القرون الماضية”.

لكنه عندما يعود للحديث عن ضرورة تفعيل دور المرأة العربية، نجده يقدمها كصديقة أو كزوجة أو كأم، أي من خلال أهميتها بالنسبة للرجل، لا بصفتها المستقلة كإنسان، ليعود من ثم لأسلوب الوعظ والإرشاد من فوق.. فالشروط الضرورية لتعميق الوعي القومي العربي عنده غير متحققة بالصيغة التي يطالب بها زريق العرب عند أي شعب من الشعوب، إلا على شكل مشاعر قومية وبديهيات سياسية، قد لا يستطيع المواطن العادي، في الأعم الأغلب أن يقدم لها تبريراً فلسفياً أو فكرياً بالشكل الذي يطالب به الأستاذ زريق. وفي الواقع فإن ما يطالب به زريق أما أن يكون موجهاً نحو النخبة، أو أن يكون مشروعاً تربوياً لدولة قومية، أو لحركة قومية متمددة على الأقل، وفيما يختص بالقسم غير المتعلق بالغرب في هذا المشروع، فإنه مشروع لا بأس به ويجب أخذه بعين الاعتبار.

ونترك الحكم النهائي لكم.

أخوكم إبراهيم علوش

الوعي القومي

قسطنطين زريق

لم يبقَ خافياً على أيٍ ممن ينظر في حالة الأمة العربية أنها تجتاز اليوم دوراً من أشد أدوار حياتها دقةً وأعظمها خطراً، وأنها تتخبط في فوضى فكرية بعيدة المدى بليغة الأثر. فكلنا يشعر بالتيارات المختلفة التي تتقاذفنا، وبالنزعات المتباينة التي تتجاذب نواحي حياتنا، وكلنا يحس هذا الهيجان الفكري والعاطفي الذي طغى علينا، والذي وزعنا فرقاً متنازعة وأحزاباً متناحرة لا تعرف لها هدفاً بيناً أو غاية صريحة.

في مثل هذا الموقف الدقيق يترتب على مفكري الأمة وقادة نفوسها أن يواجهوا هذه الفوضى بعقلٍ هادئٍ وقلبٍ مطمئن، ويعمدوا إلى تحليل عواملها والكشف عن منابعها ومصادرها الخفية، وأن يتطلعوا من خلال أمواجها المتلاطمة إلى الأفق البعيد ليتبينوا قبس نورٍ يهتدون به وشاطئاً أميناً يقودون الأمة إليه. ذلك هو واجبهم وتلك رسالتهم، فإن لم يقوموا بالواجب ويؤدوا الرسالة، بل ألهتهم الأطماع الشخصية والغايات الصغرى، جنوا على أمتهم جناية لا تغتفر، وسجل عليهم التاريخ تقصيراً، أي تقصير.

ويتبين لي أن العامل الأكبر في هذه الفوضى الصاخبة التي تجتاحنا هو فقداننا الشعور القومي الصحيح الذي يوحّد جهودنا، وينظم قوانا الروحية ويفيض على نفوسنا صفاءً وركوناً واطمئناناً. ولقد يعجب البعض من هذا القول، إذ يلتفت حواليه فيرى شؤون الأمة العامة على كل لسانٍ يتحدث بها الكبير والصغير والغني والفقير، ويُسمع أسماء قادة الأمة وزعمائها تتردد في المجالس الخاصة والمحافل العامة، ويُلمس في جو البلاد اهتزازات وتيارات مفعمة بمظاهر القوة والحياة. أفننكر بعد هذا كله الشعور القومي، وسريانه في قلوب الأمة ونفوسها؟

الحق أن كثيراً من هذا الذي نرى ونسمع ونلمس لا يبلغ قرارة النفس، ولا يكيِّف صورة الحياة. فإذا استثنينا من تدفعه إلى هذا الاهتمام في الشؤون العامة غايات وأطماع دنيوية – وهم كما يعلم الجميع، كثيرون – وجدنا أن القلة الباقية موزعةٌ بين فريقٍ أكبر يتخذ المسائل الوطنية والقومية ملهاةً يملأ بها فراغه ويسري بها عن نفسه عندما يفرغ من عمله الخاص، فيجلس إلى صحبه ويبادلهم الأحاديث الجدية أو غير الجدية يتناول بها هذا أو ذاك من الشخصيات، أو هذه أو تلك من مشاكل البلاد، ويوهم نفسه وصحبه أنه يؤدي بذلك واجبه الوطني ويلتحق بصفوف العاملين في حقل القومية الصحيحة، وبين فريقٍ أصغر تلتهب في نفسه عاطفة وطنية صادقة، لكن هذه العاطفة لم تخرج من حيز الشعور إلى حيز العقل، فتراه مدفوعاً بشتى الانفعالات النفسية والتأثيرات العاطفية تقذف به ذات اليمين وذات اليسار، دون أمنٍ أو استقرار.

وغني عن البيان أن هؤلاء جميعاً، بالرغم مما يُحدثون من جلبةٍ وضجيج، لا يؤلفون إلا قسماً صغيراً من الأمة. أما السواد الأعظم فلا يتحسس بشيء من هذا، وإن رفع صوته أو مدّ يده، فمن دافع خارجي وقتي لا عن قوة داخلية دائمة. وغني عن البيان أيضاً أن هذه العوامل المختلفة التي تحرك من يتحرك منا – سواء أكانت المصلحة الشخصية، أم التلهي الفارغ الذي نملاً به حياةً أفرغ منه، أن العاطفة الوطنية الجامحة – لا يمكن أن تكون أساساً متيناً يُبنى عليه كيان الأمة ويُشاد صرحها الجديد. ولا يمكننا أن نقيم أن نقيم هذا الأساس إلا إذا خلُصت عاطفتُنا الوطنية من أدران المادة، وارتفعت إلى حيز العقل، فأصبحت شعوراً يدعمه الفكر، أو بالأحرى فكراً يذكيه الشعور، وسرت في جوانب النفس كلها، فملأتها “وعياً” قومياً.

هذا الوعي القومي الذي يعرف ما يريد ويسير إليه بعزمٍ صادقٍ مطمئن، الذي يدري من أين أتى وإلى أين يسير، الذي لا يسمح لأية مصلحة خاصة أو عاطفة آنية أن تحيد به عن هدفه الأوحد وغايته القصوى، هذا الشعور الذي أصبح فكراً، وهذا الفكر الذي اكتسب بالشعور حياة، هذا الوعي القومي العاقل المتنبه لم تعمر به بعد إلا أنفس قليلة من هذه الأمة العربية، ولم يتصل تياره إلا بفئة ضئيلة متفرقة، مع أنه منبع كل نهضة قومية صحيحة، ولن تستطيع أمة أن تحقق آمالها وتبلغ غاياتها إلا عندما يسود هذا الوعي نفوس أبنائها – أو على الأقل نفوس القادة منهم – ويشيع في جوانبها فهماً ودراية ونوراً.

فلنتساءل إذن: على ماذا يقوم هذا الوعي القومي، ومن أي المصادر يفيض؟

يقوم الوعي القومي أولاً على معرفة ماضي الأمة معرفةً صحيحة، وفهم العوامل الطبيعية والتاريخية التي كونتها حتى جعلتها في حالتها الحاضرة والكشف عن مصادر قواها الروحية الخاصة التي تمتاز بها عن غيرها من الأمم. فالعربي الواعي قومياً يعرف من أين أتى، وكيف تحدرت أمته، ومن أي الجذور نبتت حياته الحاضرة. يضع يده على أصل الجنس العربي، ويتابعه في شيوعه من الجزيرة إلى ما حولها من البلدان، ويسايره في سيادته على الأجناس الأخرى وامتزاجه بها، وفي ما تكوّن من هذا الامتزاج من أمة مختلطة الدم والجنس، موحدة في ما هو أهم من هذا كثيراً في الارتباط القومي، ألا وهو: اللغة، التقاليد، الجهاد الماضي، والمصالح الحاضرة والمقبلة. وهو يعرف، مع هذا كله، ما يقوله العلماء الحديثون عن معنى “الجنس”، وعن مقدار ما للوراثة من جهة والمحيط من جهة أخرى من أثر في تكوينه، وعن نوع علاقته بالقومية، وعن الحركات السياسية والمذاهب الاجتماعية والفكرية التي أثارتها مشاكل “الجنس” في الشرق والغرب. (المقصود ب”الجنس” هنا هو العِرْق طبعا – الناسخ).

وينظر، بعد الجنس، في اللغة، فيعرف من أين نشأت وكيف انتشرت ويفهم ميزاتها على غيرها من اللغات، والقوى الخاصة التي جعلتها تسود سيادة تامة على هذه الأقطار الشاسعة. فلكل لغةٍ نبوغٌ خاص وميزاتٌ تنفرد بها عن غيرها من اللغات. واللغة العربية، من بين اللغات جميعاً، قد أظهرت حيوية بالغة في دقة انتظامها، وفي سعة انتشارها، وفي مرونتها التي جعلتها أداة صالحة لنقل شتى العلوم الآداب، وهذا كله مما يهيب بنا إلى فهم سر هذه الحيوية وفهم القوى الخاصة التي تمثلها لغتنا، كي نستغل هذه القوى في تنظيم حاضرنا وبناء مستقبلنا.

غير أن اللغة العربية ليست سوى مظهر من مظاهر الثقافة. والوعي القومي يتطلب أن يكون لنا فهم صحيح لجوهر الثقافة العربية: فنعرف البذور التي تكونت منها، والمظاهر المختلفة – من علم ٍ وأدبٍ وفن – التي تجلت فيها، والخصائص التي امتازت بها، والرسالة التي أدتها إلى العالم والدور الذي مثلته في تكوين التمدن الحديث. وليس من شك في غنى الثقافة العربية، وشمولها، وتشعب مناحيها. فلا بد أن يكون وراء هذه الميزات قوىً روحيةً خاصة، ومنابع حياة فياضة، وقد وجب علينا أن نكشف عنها ونسبر غورها لندرك حقيقة هذه الثقافة التي ورثناها عن السلف، والتي تكوّن اليوم القسم الأهم والأبرز من شخصيتنا.

وأخيراً يتطلب الوعي القومي الملتفت إلى الماضي أن نلمس روح تاريخنا، ونتصل بالعوامل التي كوّنت هذا التاريخ. فلقد جاهد العرب في ماضيهم جهاداً حسناً في شتى نواحي الحياة، ففتحوا آفاقاً واسعة في ميادين السياسة والاقتصاد والعلم، ثم عادوا فانطووا على أنفسهم وتقلص ظلهم. وإنه لمن الخطورة بمكان أن نعرف حقيقة العوامل التي تأثروا بها في الحالتين جميعاً. ويهمنا بصورة خاصة أن ندرك القوى الداخلية الفاعلة في نفوس العرب وقلوبهم وأرواحهم، لأن الظروف والأحوال الخارجية – على أهميتها في تكييف التاريخ وتسييره – ليست شيئاً إزاء القوى الداخلية التي تجيش في صدور الأمة، فَلَكَم من أمةٍ خلناها تنهار بغزوة شعبٍ غريبٍ كانت في الواقع قد تفسخت داخلياً وتهدمت في الباطن قبل أن تتهدم ظاهراً، ولَكَم من أمةٍ أخرى أحاطت بها الأحداث والكوارث، فلم تطفئ روحها ولم تمحُ شخصيتها.

وصفوة القول، إن الأمة العربية لها شخصية خاصة تنفرد بها عما سواها من الأمم: شخصية مؤلفة من عناصر مختلفة – أهمها اللغة والثقافة، والتاريخ المشترك – قد تحدرت جميعها من أصول الماضي، فأول واجب قومي يترتب علينا هو فهم هذه العناصر فهماً يكشف لنا عن روحها ويوضح لنا جوهرها، كي نعرف حقاً من نحن، وكيف تكوّنا.

ومن الواضح أن هذا الوعي القومي الذي أصِف بعيد كل البعد عما نردده كثيراً من التغني بمآثر السلف والإشادة بفضل الأجداد، عما يتفجر في صدورنا من الاعتزاز العاطفي بالماضي المجيد والتاريخ الزاهر، فهو قد بلغ درجة أبعد من هذا الاعتزاز أو ذاك التغني لأنه قد تخطى حدود الشعور والعاطفة ودخل حيز الفهم والمعرفة. ولست أقصد من هذا أن أضع من قدر العاطفة والشعور في الجهاد القومي، ولكنني لست أراهما كافيين لبلوغ الغاية التي نرجو، إلا إذا اقترنا بالإدراك الواسع والفهم الدقيق. فالفرنسي الواعي قومياً يعرف بوضوح ودقة مزايا لغته ونبوغها الخاص ومقامها بين غيرها من اللغات، ومثله الألماني الذي ينشر أمامك خصائص ثقافته والأيادي التي لها على غيرها من الثقافات، والإنكليزي الذي يعرض لك تاريخ أمته فيشير، بفهمٍ وإدراك، إلى الدور العظيم الذي مثلته وإلى الروح التي تجلت فيها في مختلف الأدوار. أما نحن العرب فكم بيننا من يعرف معرفة صحيحة من نحن، وكيف تكوّنا، وما هي حقيقة شخصيتنا وجوهر روحنا؟ كم بيننا، بكلمة أخرى، من تفتح في نفسه الوعي القومي الملتفت إلى الماضي؟

على أن ماضي الأمة وتاريخها الغابر ليسا في الواقع إلا الجذور التي نبتت منها غرسة الحاضر، وإذا كان من المهم أن نلمس الروح المتغلغلة فيهما، فلكي ندرك إدراكاً صحيحاً ما تولد عن هذه الروح من مظاهر حياتنا الحديثة. فالوعي القومي الكامل يتطلب منا، إذن، أن ننظر في الحاضر نظراً مدركاً، وأن ننفذ بأبصارنا وراء الحوادث الآنية التي نتخبط فيها والمظاهر السطحية التي تستهوينا إلى لب حياتنا الحاضرة وجوهرها كي نفهم حقيقة معناها ووجهة سيرها. ولما كانت هذه الحياة الحاضرة وليدة عاملين رئيسيين يتفاعلان في ما بينهما تفاعلاً شديداً هما الشخصية العربية كما تكوّنت عن محيط هذه البلاد الطبيعي وميراثها الاجتماعي والثقافي، والحضارة الغربية السائدة على المجتمع الحديث، فقد وجب أن يحيط إدراكنا بكلٍ منهما إحاطة كاملة صحيحة.

أما الشخصية الداخلية للأمة العربية فقلَّ بيننا من وقف على كنهها وقدّرها حق قدرها، وندر منا من وضع يده من جهة على منابع قوتها ومصادر حيويتها ، ومن أحس من جهة أخرى بمواطن ضعفها وعوامل تفككها وتراخيها. ففي هذه الملايين من البشر الذين يؤلفون الأمة العربية قوى جسدية وعقلية وروحية لا يستهان بها قد أورثهم إياها محيطهم وتاريخهم. ولا تزال أكثر هذه القوى في حالة الكمون، لم تظهر بعد ولم تتحقق قابلياتها، بل مدخرة في الأجسام والعقول الأرواح. فعلينا أن ننفذ إلى منابع هذه القوى، حتى نستطيع استغلالها في خلق حياتنا الجديدة. كم في عقول الشبيبة العربية، مثلاً، من ذكاءٍ فطريٍ يبقى مخزوناً لا يستفيد ولا يفيد لانعدام وسائل بعثه في محيطنا، أو يُهدر على التافه من الأمور فيذهب ضياعاً دون أن يكون له أثر في البناء القومي، حتى إذا أتيح له أن يتعرض لمؤثرات الحياة الحديثة في الغرب تفتحت مواهبه وتجلت قواه، كما يبدو في هذا الإنتاج الباهر الذي ولّده المهاجرون العرب في مختلف ميادين السياسة والاقتصاد والاجتماع والثقافة. وكم في صدور أفراد هذه الأمة من إيمان وتضحية وإخلاص لا تجد لنفسها مجرى سامياً نبيلاً تتدفق فيه، فتفيض على المعتقدات البالية والخرافات السقيمة وتحييها في النفوس الظمأى، أو تضيع بين أحجار المادة وصخورها وتختلط بأدرانها وأنجاسها، فينقلب جمالها قبحاً ونفعها ضرراً وإثماً. هذه قليل من كثير من هذه القوى المدخرة في شخصيتنا، التي يترتب علينا قدرها وقياسها، والإيمان بها إيماناً مبنياً على الدرس العميق الواضح- لا على مجرد الشعور السطحي الغامض – لأن فيها أملنا، وعليها اعتمادنا، وإليها مردّنا ومصيرنا.

كذلك يفرض علينا الوعي القومي الرشيد أن نحس إحساس فهمٍ وإدراكٍ بعوامل الضعف في الشخصية العربية الحاضرة وبالمشاكل العديدة المتشابكة المتولدة عنها، وأن نجابه هذه العوامل والمشاكل مجابهة واقعية صريحة لا عوج فيها ولا التواء. ففي البلدان العربية جهلٌ متفشٍ وفقرٍ سارٍ، وتفسخٌ عقلي أخلاقيٌ لا يعلم إلا الله حده ومداه. وفيها مشاكل اقتصادية واجتماعية وروحية متشابكة النواحي مستعصية الحل، فليس من الخير في شيء أن نتهرب من هذه الأمراض والمشاكل إلى عالم الخيال الفارغ، ونخدع أنفسنا بالظاهر من الأمور خوفاً من مجابهة الباطن. ليس من الخير في شيء أن نشيح بوجهنا عن الجهل والتعصب حين نعلم علماً أكيداً في صميم نفوسنا ما يغشى محيطنا من جهلٍ ذريعٍ وتعصبٍ شنيع. وليس من الخير في شيء أن تبهرنا أنوار الجهاد الوطني فتعمي بصائرنا عما يتفشى في مجموعنا من جراثيم المادة القتالة والأطماع المفسدة، أو أن تملأ آذاننا الأصوات الداعية إلى التضامن والاتحاد، فتصمها عن سماع صرير التمزق وقرقعة الانقسام. لا! وإنما الخير أن نواجه هذه المشاكل مواجهة جرأة وصراحة، وأن نعرف قدرها ونقيس مداها كي نعد العدة الوافية لحلها والتغلب عليها. ونحن إذا فعلنا ذلك، أمكننا لا أن نزيل هذه العقبات الجسام من طريقنا فحسب، بل أن نجعل منها مصادر حياة جديدة تبعثها في نفوسنا ونشاط متحفز تحييه في قلوبنا فينقلب ضعفنا المستمد منها قوة، وتراخينا الناشئ عنها تضامناً واتحاداً. وجملة القول أن الوعي القومي يزن الأمور بموازينها الصحيحة، ويضعها في مواضعها المختصة بها، وينظر إلى كل ما في شخصية الأمة الداخلية من منابع قوة أو مواطن ضعف نظرةً واقعية يخترق بها إلى صميمها ويجلو حقيقتها.

أما العامل الثاني الذي تنشأ عن تفاعله وشخصيتنا الداخلية الحياة العربية الحديثة فهو: “الغرب” بكل ما تنطوي عليه هذه الكلمة من قوى وعوامل غزيرة متشابكة. ولست أعني بالغرب بلاد أوروبا وأمريكا وشعوبها فحسب، بل كل بلد أو شعب قَبِل هذه الحضارة الحديثة التي نشأت في الغرب وتأثر بها تأثراً عميقاً واسعاً: فاليابان الشرقية أقرب فعلاً إلى أوروبا منها إلى أكثر مناطق آسيا. وما من أحدٍ ينكر أن العوامل والقوى التي يمثلها الغرب هي العنصر السائد في عصرنا هذا. وسواء أأردنا أم لم نرد فالغرب محيط بنا من جميع جوانبنا، آخذ علينا كل سبيل من سبل حياتنا، وسواء أشئنا أم لم نشأ فهذا العنصر المندفع بقوة لا تُقدَّر سوف يفرض نفسه علينا ويعمل على تكوين مستقبلنا. فحريٌ بنا، إذن، أن نفهمه حق فهمه، وندرك كنهه، ونعرف ماهيته، كي نحسن مجابهته ويكون اتصال روحنا بروحه على نورٍ وهدى وبصيرة لا بفعل الصدف الطارئة والأحوال المسيرة.

وإني لأخشى كثيراً أن سواد هذه الأمة الأعظم لم يفهم الغرب بعد فهماً صحيحاً، ولم يصل بإدراكه إلى لبه ومتفجر حياته، بل لا يزال مأخوذاً بمظاهره الخارجية وأنواره الخلابة. فالغرب في نظرنا هو ما يحيط بنا من سيارات سريعة الجري، وملاهٍ باهرة النور، وأدوات عجيبة الصنع، وإذا تقدمنا درجة أخرى في وعينا وإدراكنا، أحسسنا بما يفيض عنه من جيوشٍ في زمن الحرب، ومن نظمٍ وعهودٍ في زمن السلم، أو لمسنا نتفاً متفرقة ونواحي فرعية مما ينتج عقله من أدب وعلم. وأنا أزعم أن هذه كلها ليست جوهر الغرب، بل هي مظاهر خارجية نقف عندها فتلهينا عن القوة الحقيقية التي تفعل فيها وتحركها. فوراء هذا جميعاً نظام اقتصادي متشابك خلفته الثورة الصناعية الحديثة، يرمي إلى استغلال موارد الطبيعة ومواهب الإنسان وقابلية الآلة الحديثة في سبيل زيادة الإنتاج وتنظيمه. فكلما زاد إنتاج الأمة وانتظم، توافر غناها وفاضت ثروتها وتمكنت من أن تفرض نفسها على الأمم الأخرى. وما دامت موارد الأمة غير مستغلة استغلالاً تاماً، وسبل إنتاجها غير موجهة توجيها قومياً، فلا يمكن أن يكون لها صوتٌ مسموعٌ أو يدٌ مدبرةٌ.

وكل ما في الغرب اليوم من معامل ومعاهد وأنظمة حكومية، وما يطغى عليه من أزماتٍ اقتصادية وتيارات اجتماعية وثقافية، إنما هو – في أكثره – وليد هذا النظام الاقتصادي المتشعب المعقد. ومهما قال الناس في أخطاء هذا النظام ومراكز ضعفه، ومهما تذمروا من تضارب عناصره وتطاحن أجزائه ومما يجره على العالم من فوضى وارتباك، فليس من شكٍ في أنه سيبقى في جوهره – أي في ما يرمي إليه من استغلال موارد الطبيعة واستخدام الآلة إلى أقصى حد ممكن – النظام السائد في المستقبل، وأن لا سبيل إلى الرجوع إلى ما كان عليه السلف، أو ما يدعو إليه بعض المصلحين، من أنظمة اقتصادية بسيطة فطرية.

ونحن إذا أدركنا النظام الاقتصادي الحديث على حقيقته، وميزنا حسناته من سيئاته، أمكننا أن ندخله في حياتنا على نور هذا الإدراك والتمييز، واستفدنا من اختبار الغرب الواسع، فتجنبنا ما أصاب الغرب منه من مضارٍ وآلام، وقطعنا في سنوات ما توصل إليه الغرب في أجيال. ولعل أبرز ما يمتاز به هذا النظام الاقتصادي هو التنظيم الدقيق الذي يؤلف بين جميع أجزائه، ويسري في جميع نواحيه، فيوحدها ويربطها ربطاً متيناً كارتباط أجزاء هذه الأدوات العجيبة التي يطلع علينا بها الغرب حيناً بعد حين. هذا التنظيم الذي ينبعث من معامل الغرب ومصانعه قد ساد الحياة الغربية في جميع مظاهرها، فسرى إلى النفوس وكيّف العقول، بحيث أصبح جزءاً من شخصية الغربي يتجلى في شتى نواحي حياته السياسية والاجتماعية والثقافية. وما من أحدٍ يلقي نظرةً على الحياة العربية الحديثة إلا ويلحظ أن روح التنظيم الصحيح لم تتسرب بعد إلى نفوسنا، ولم تختلط بلحمنا ودمنا، ولعلها لن تبلغ هذا الحد إلا عندما يسود حياتنا هذا النظام الاقتصادي المتماسك الأركان المتصل الحلقات الذي يكيف حضارة الغرب الحديث.

ووراء اقتصاد الغرب، علم الغرب. ولست أعني بالعلم هذه المعلومات المتفرقة التي نستمدها من الكتب المدرسية أو المؤلفات السطحية فنطلي بها عقولنا، ونصبغ نفوسنا، ونعتز بها في زهوٍ واعتزاز، وإنما أعني تلك الطريقة في التفكير، وذلك الأسلوب في التحليل الذي يثبت في العقل ويشيع في النفس عندما يعاني المرء التدريب العلمي الصحيح: أعني البحث الدائم عن الحقيقة، والشك اليقظ في ما لا يوافق العقل، والاستنتاج الصحيح والمنطق السليم. أعني التواضع النفسي الذي يقدر ضآلة المعلوم بالنسبة إلى المجهول، والاتزان العقلي الذي يقيس الأمور بمقاييسها الصحيحة، والاطمئنان الروحي الذي يفيض على النفس من سعيها الحثيث إلى الحقيقة وإشراقها بها.

ويخيل إلي أنه لا يزال بيننا وبين هذه المزايا العلمية الصحيحة خطى واسعة ومراحل بعيدة، وأنه يحسن بما أن نُقبل على علم الغرب بقلوب متواضعة ونفوس ظمأى ونروي عقولنا من منابعه النقية. وإن كنت أخشى شيئاً فهو هذا الطغيان الأدبي الذي يسود حياتنا العقلية، والذي يحمل لنا شتات أسماء الأدباء في الغرب، وفتات آرائهم ومذاهبهم فنتهالك عليها ونتجادل ونختصم فيها، ونلهو بها عن القوى العقلية الكبرى التي تهيمن على الحياة الحاضرة: وهي قوة العلم المنصرفة إلى مجابهة مشاكل الإنسان في الطبيعة والاجتماع. ومن الخطأ الفاضح أن يشكو بعضنا من كثرة العلم ووفرة المتعلمين، ويتذمر من الأزمة الاجتماعية والفكرية الناشئة عن ذلك. فما كانت كثرة العلم الخالص، وتفشي المعلومات الخارجية السطحية التي تذهلنا عن الروح العلمية الصحيحة. ولعلنا لم نكن في يومٍ من الأيام أحوج إلى أن نعي هذه الروح العلمية وعياً رشيداً، وندرك مقامها في حاضرنا ومستقبلنا، منا في هذا العصر الحديث.

ووراء علم الغرب، فلسفة الغرب. وفي الفلسفة تجتمع شتى التيارات الفكرية والعاطفية وتتجه كلها نحو هدف واحد في نسق واحد. وقد ظهرت في تاريخ الغرب عقول جبارة جمعت هذه التيارات، ودفعتها موحدةً في مجارٍ غزيرةٍ فاضت على الحياة الغربية فكيفتها ولونتها بألوان خاصة. وليس من شكٍ في أن هذه العقول تختلف فيما بينها وأن ألوان فلسفتها يتباين بعضها عن بعض، وليس من شكٍ في أن المجاري التي تدفقت فيها تباعدت وتنافرت أحياناً كثيرة، ولكن وراءها كلها اتفاقاً جوهرياً ووحدة روحية ومنبعاً أصلياً يمدها جميعاً. وهذا ما يجعل عامة الغربيين ينظرون إلى العالم نظرات متشابهة، ويقدرون قيم الحياة بمقادير متقاربة، يختلفون بها عما سواهم من الشعوب التي لا تعيش في جوهم ولا تصدر عن فلسفتهم. وإني لأعتقد اعتقاداً مكيناً أنا لن نستطيع أن نفهم الغرب على حقيقته، ما لم نفهم أفلاطون وأرسطو وأغسطين وأكويناس وديكارت وكانط وهيغل ونيتشه وسواهم من قادة الفكر الذين فرضوا عقولهم على الغرب ووجهوا تياراته الفكرية وجهتها الخاصة. ولنذكر هنا أيضاً ما تبين لنا في أمر العلم من أن المعلومات الفلسفية شيء، والفلسفة – كنظرة عقلية وهيئة نفسية – شيء أخر، وأن فهم الفلسفة الغربية الذي ننشد هو تلك المعرفة التي تخترق بها أذهاننا إلى قلب التفكير الفلسفي، وتلتهب بالروح الفلسفية المنبعثة منه.

النظام الاقتصادي، ومن ورائه العلم، ومن ورائهما الفلسفة: تلك هي، في نظري، العناصر الأساسية التي تتألف منها حقيقة “الغرب”. وخليق بمن أشرقت نفسه بالوعي القومي الواضح أن يفهم هذه العناصر الثلاثة فهماً صحيحاً، فيلمس بذلك روح الحضارة الغربية المتدفقة علينا. فإذا جمع هذا الفهم إلى إدراك شخصية الأمة الداخلية، في مناحي قوتها وضعفها، نظر نظرةً صائبةً إلى الحياة العربية الحاضرة المتكونة من تفاعل هذين العاملين العظيمين.

على أن الوعي القومي لا يكتمل إلا إذا تقدم من فهم ماضي الأمة وإدراك حاضرها إلى تقدير مستقبلها وتصوير مصيرها. فالأمة التي لا تعرف معرفة يقينية واضحة الغاية التي تسير إليها، ولا تنظم وسائلها لبلوغ هذه الغاية، مقضيٌ عليه بالفشل والخسران في ميدان هذه الحياة، ومقدر لها أن تذهب وتبيد دون أن تخلف وراءها أثراً في سجل التاريخ. ونحن إذا أنعمنا النظر في هذه المسألة الخطيرة في حياتنا القومية وجدنا أن الغاية القصوى لأية أمة من الأمم إنما هي الرسالة التي تؤديها هذه الأمة للثقافة الإنسانية والتمدن العام. فالأمة التي لا تشعر أن لها رسالةً في هذه الحياة لا تستحق هذا الاسم، بل لا يمكنها مطلقاً أن تبلغ مستوى الأمة الصحيح إذ لا يكون ثمة مبرر لوجودها أو غاية لكيانها. وما الاستقلال والوحدة في واقع الحال سوى وسائل لبلوغ هذه الغاية الأخيرة. فإذا نحن طلبناهما واندفعنا وراءهما اندفاع المستميت فلأنهما يحققان لنا الوسائل ويفتحان أمامنا السبل لأداء رسالتنا وتبليغ دعوتنا.

وخليق بالأمة العربية أن يكون لها رسالة رفيعة بين الأمم. وخليق بكل عربي أن يشعر بأن محيط أمته الطبيعي وتاريخها الخاص قد أهّلاها لمهمة لم تتوفر شروطها لأية أمة أخرى، وأن القوة المدبرة وراء هذا الكون قد أعدت العرب لأمرٍ لا يستطيع أي شعب آخر أن يقوم به دونهم. ذلك هو الشعور الذي يمتلك الألماني عندما يحدثك عن أمته وعن مستقبلها فجميع عناصر حياته: – العلم، الفن، الأدب، القوة الحربية، والتنظيم الاقتصادي – كلها تكتسب قوة جديدة وتصطبغ بألوان زاهية، وتأتلف في صورة واحدة هي الرسالة التي حَفِظَ القدر للأمة الألمانية – ولها وحدها – امتياز تأديتها، بل واجب هذه التأدية. ومثل هذه العقيدة تملأ نفس الإنكليزي والفرنسي والياباني وكل من يطمح إلى أن يكون لأمته مقامٌ على الأرض وذكرٌ في التاريخ.

وليس بخافٍ أن هذا الشعور برسالة قومية قد يبلغ في أحيان كثيرة حد التطرف، وأن الأمم قد تتخذه ستاراً لأطماعها المادية ولأغراضها في السيادة والتغلب – كما فعلت الدول الغربية في تاريخها الاستعماري ولا تزال، وكما فعلت اليابان – غير أن الخطر عندنا ليس في الغلو والإفراط، بل في التفريط والنقصان، وليست مصيبتنا حب السيطرة وفرض السلطان، بل خور العزم وضعف الإيمان. ونحن إذا فكرنا وشعرنا برسالة قومية كبرى اكتسب جهادنا في سبيل الحرية والاستقلال معنى جديداً، واكتسى سعينا إلى الوحدة والسيادة حياة بهية، واستمددنا من هذه الغاية القصوى التي نضعها نصب أعيننا قوة مضاعفة وهمة مزدوجة لبلوغ الوحدة وتحقيق الاستقلال.

وليس هذا الذي أقوله عن رسالة الأمة العربية مجرد شعورٍ وهميٍ يتسلط على النفس ويسري في القلب، وإنما هو إيمان مبني على المقارنة والاستنتاج. فليس من المعقول أن الأمة العربية التي أنزلتها الأقدار في هذا الموقع الممتاز من الكرة الأرضية، والتي تفتحت مواهبها في العصور الغابرة عن مآثر باهرة في شتى نواحي الحياة – أقول ليس من المعقول أن أمةً كهذه لا تكون لها مزية معينة تنفرد بها عن غيرها من الأمم، ويدٌ خاصة تسديها إلى التمدن البشري. أما إذا أردنا تحديد هذه الرسالة بالضبط، ومعرفة ماهيتها الحقيقية، فقد وجب علينا أن نقوم بدروس عميقة وتأملات بعيدة، تتناول المحيط الطبيعي، والأصول الجنسية، والتطور الاجتماعي، والتراث الثقافي، وتتعمق دون هذه المظاهر كلها إلى روح الأمة وشخصيتها.

ومن النقص الشائن أن قادتنا ومفكرينا لم يقوموا بعد بهذه المهمة الخطيرة في حياتنا القومية، ولم يرسموا لنا رسالتنا الخاصة بصورة لا يشوبها غموض أو إبهام. ولكن لعلنا لا نعدو الحق إذا قلنا أن عمل الأمة العربية سيكون في المستقبل كما كان في الماضي: كما أن العرب استطاعوا في العصور الغابرة أن يهضموا مدنيات اليونان والرومان والفرس والهند، ويمتصوها بعقولهم النشيطة ونفوسهم الظمأى ثم يخرجوها إلى العالم وحدة منسجمة غنية المادة باهرة اللون، كذلك ستكون مهمة العرب في الأعصر الآتية أن يتشربوا علم الغرب ويجمعوا إليه العناصر المختلفة التي تنشأ في الغرب والشرق كرد فعلٍ له، ويؤلفوا بينها كلها في وحدة جديدة تكون عنوان الحياة المقبلة يفيض بها العرب على العالم كما فاضوا عليه بمدنيتهم الباهرة في القرون الماضية.

ولكن، سواء أكانت هذه رسالتنا الحقيقية أم لا، فحسبنا أن نعتقد أن لنا رسالة ما، وأن نؤمن أنها أعدت لنا وأننا أُعددنا لها، وحسب قادة الفكر بيننا أن ينصرفوا لإيضاح هذه الرسالة، وتبيين هذه الغاية، فيفتحوا أمامنا الطرق ويمهدوا لنا السبل والوسائل.

كفي بما تقدم تصويراً لما أقصد من الوعي القومي الذي قلت أنه القوة العظمى التي نحتاج إليها في هذه المرحلة الخطيرة من حياتنا. وقد تبين أن هذا التنبيه العاقل يقوم عليه أركان ثلاثة: فهم صحيح لماضي الذي تحدرت منه شخصيتها، وتقدير متزن لقوى الحاضر وعوامله، وإيمان متين بهدف الغد ورسالة المستقبل. وقد تبين لنا، ولا شك: أن هذا الوعي القومي لا يمت بصلة إلى الاهتمام الفاتر بالسياسات المحلية الذي طغى علينا وأفسد حياتنا، بل هو أرفع منه وأسمى، وبقدر ما يمتلك النفس ويسود العقل يخف هذا الهيجان الذي نتخبط فيه وتهدأ الحمّى التي تثور في جسمنا وننظر إلى الأمور نظرة قومية كبرى، لا نظرة محلية ضيقة. ولربّ معترضٍ يقول أن هذا الوعي القومي غير متيسر لأفراد الأمة جميعاً، وإنّا إذا نظرنا إلى الأمم المتيقظة في الغرب والشرق وجدنا أن عامتها قلما تبلغ هذا الإدراك العميق الشامل الذي وصفنا. والجواب عن ذلك أن الاختلاف واقع في الدرجة لا في النوع، وإن سواد الأمم الحية قد بلغ من هذا الإدراك حداً أبعد كثيراً مما بلغه سواد أمتنا، وقد يكون أبعد مما وصل إليه قادتنا وأولياء أمورنا.

والمهم في أمر هذا الوعي القومي أن إيقاظه في النفس ليس من اختصاص قادة السياسة وأرباب الحكم فحسب، بل إن كل فرد من أفراد الأمة يستطيع أن يساهم في هذا الإيقاظ أياً كان عمله أو شأنه. فمجال العمل فيه مفتوحٌ أمام الموظف في مكتبه، والصانع في معمله، والصحافي في جريدته، والمعلم في مدرسته، بل أمام كل من تقربه طبيعة عمله إلى نفوس مواطنيه وتربطه بهم. ومن هنا استطعنا أن نقدر مبلغ ما يمكننا تحقيقه من هذا القبيل، لو أن جميع المنتبهين المدركين بيننا تعاونوا على هذا العمل الإحيائي كل من ناحيته، إذن لتفتحت نفوس هذه الأمة بأسرع مدى وتنبهت عقولها بأيسر زمن.

وأراني مدفوعاً هنا إلى أن أشير إشارة خاصة إلى الدور العظيم الذي تمثله المرأة في هذا الحقل الخصيب. فالمرأة- صديقة للرجل، أو زوجة له، أو أماً له ولأولاده – قوة لا تقدر في تكييف حياة الأمة وإيقاظ نفسها. وفي كل طور من أطوار حياتنا فرصٌ لا تعد ولا تحصى تنكشف لها فيها عقول أفراد الأمة وأرواحهم. ولربّ شرارةٍ واحدةٍ من نفسها المتقدة تكفي لتنبيه أعظم القوى في تك العقول ولبعث أشد التيارات في هذه الأرواح.

ولكن كيف يمكن المرأة العربية أن تساهم في إيقاظ الوعي القومي، إن لم تكن هي نفسها قد أحرزته وامتلأت نفسها به؟ وكيف يمكن الأمة العربية أن تبلغ هدفها وتحقق غاياتها إذا كان نصفها الأفضل منطفئ النفس، خامد الروح؟ لقد سمعنا كثيراً في المحافل النسائية وسواها عن قضية المرأة، وعن المرأة العربية بوجهٍ خاص، ولست أريد الآن أن أعيد ما اعتدنا ترديده من أقوال وآراء في هذا الموضوع. وإنما هو يقين متمكن من نفسي، واقتناع شديدٌ يلح علي في أن أجاهر بما يخالجني، وأؤكد بكل ما استطيع من قوة مقام المرأة العربية في تنبيه هذا الوعي القومي: سواء بما تحيي في النفوس من ماضي الأمة أو بما توجه إليه العقول من حاضرها، أو بما ترسم من غايتها في مستقبلها. ولعل الدور الذي تمثله في هذه الناحية الأخيرة – أي في رسم الغاية وإيضاح الرسالة – أشد أعمالها خطراً وأعمقها أثراً.

هذا هو الواجب الأسمى الملقى على عاتق المرأة العربية. وهذا ما يجب أن تفهمه نساؤنا، بل ما يجب أن يفهمه أيضاً رجالنا: لأن نهضة المرأة العربية التي تؤهلها للقيام بهذا العمل القومي الخطير منوطة بالرجال والنساء معاً، وإن كان مبعثها الأول والأخير هو النساء أنفسهن.

في موقعٍ ممتازٍ من الكرة الأرضية، وعلى ملتقى الطرق بين الشرق والغرب، وفي وسط مجاري الثقافة والمدنية، تحيا أمة قد تشربت عصارة ماضيها، وتقبلت وحي تاريخها وأدركت كنه حاضرها، وعرفت جوهر العالم الذي فيها والعالم الذي حولها، وتطلعت إلى مستقبلها بنظرٍ ممدودٍ أبداً إلى الأمام، وقوة مستمدة من هدف منصوب وخطة مرسومة. أمة قد اخترقتها أشعة الحرية فلم تقف عند المادة والجسد، بل أضاءت العقول وأنارت الأرواح. أمة قد علمت أن السيادة الحقة هي سيادتها على نفسها الصادرة عن فهمها سبب وجودها وماهية كيانها. أمة قد امتلأت قلوب أفرادها بإيمانٍ كل حبةٍ منه تنقل الجبال، وعلا جباه رجالها ونسائها ضياء كل قبس منه يهدي الأجيال. أمة يكفينا في وصفها أن نقول: قد سرى في نفسها الوعي القومي الكامل. هذا ما تريد الأمة العربية أن تكون. بل هذا ما سوف تكون.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى