فرانز فانون Frantz Fanon - مزالق الوعي القومي (اجزء أول).. ترجمة: أبكر آدم إسماعيل

يعلمنا التاريخ بوضوح أن المعركة ضد الاستعمار لا تجري منذ بداياتها على أسس القومية. ولفترة طويلة جدا، يكرس المستعمَر طاقاته لإزالة بعض أشكال التعسف المحددة: العمل القسري، العقاب البدني، عدم المساواة في الأجور، تقييد الحقوق السياسية، إلخ. هذا الكفاح من أجل الديمقراطية ضد اضطهاد البشر سيتجاوز ببطء التباسات نزعة اليبرالية نحو العالمية ليخرج كمطلب قومي، ولو بطريقة شاقة في بعض الأحيان. ويحدث أن عدم استعداد الطبقات المتعلمة، وعدم وجود روابط عملية بينها وبين الجماهير، وكسلها، أو قل، جبنها، في اللحظة الحاسمة للنضال سيؤدي إلى أحداث مؤسفة. .

إذا لم يكن الوعي القومي تبلورا كاملا للآمال العميقة للشعب بأكمله، وإذا لم يكن النتيجة المباشرة والأكثر وضوحاً لتعبئة الشعب، فإنه لن يكون بأي حال سوى صدفة فارغة، وعبورا خاما هشاً لما كان يجب أن يكون. إن التصدعات التي نجدها في هذا الوعي تفسر بشكل كافٍ السهولة التي يتم تمرير العرق فوق الأمة، وتفضيل القبيلة على الدولة عند التعامل مع الدول المستقلة حديثا. هذه الصدوع في الصرح تُظهر عمليات التراجع والتحامل الضارة بالجهد الوطني والوحدة الوطنية. سوف نرى أن مثل هذه الخطوات الرجعية مع كل نقاط الضعف والمخاطر الجدية التي تنطوي عليها هي النتيجة التاريخية لعجز الطبقة الوسطى الوطنية عن ترشيد الفعل الشعبي، أي عدم أهليتها لرؤية أسباب هذا الفعل.

إن هذا الضعف التقليدي في الوعي القومي الذي يكاد يكون خَلقياً بالنسبة للبلدان المتخلفة، ليس فقط نتيجة تشويه النظام الكولونيالي للشعب المستعمَر. إنه أيضاً نتيجة الكسل الفكري للطبقة الوسطى الوطنية، ولفقرها الروحي، وأيضا نتيجة للقالب الكوزموبوليتاني (الكوني) العميق الذي تم تكوين عقلها فيه.

إن الطبقة الوسطى الوطنية التي تتولى السلطة مع نهاية النظام الاستعماري هي طبقة وسطى غير مكتملة النمو. فهي لا تملك عمليا أي قوة اقتصادية، ولا يمكن مقارنتها بأي حال من الأحوال مع البرجوازية في البلد الأم التي تأمل أن تحل محلها. بسبب نرجسيتها، فإن الطبقة الوسطى الوطنية يمكن اقناعها بسهولة بأنها يمكن أن تكون المستفيدة من إحلالها محل الطبقة الوسطى في البلد الأم. لكن الاستقلال سيضعها في مواقف حرجة مما يؤدي إلى ظهور ردود أفعال كارثية داخل صفوفها، الأمر الذي يجبرها على طلب المساعدة بطريقة محمومة من الدولة الاستعمارية السابقة.

في الواقع، تتميز الفئات الجامعية وطبقات التجار التي تشكل الجزء الأكثر استنارة في الدولة الجديدة بصغر عددها وتتمركز في العاصمة، وتكاد تنحصر نوعية الأنشطة التي تنخرط فيها في الأعمال التجارية، والزراعة، و المهن الحرة. ولا يوجد رجال مال ولا رجال صناعة داخل هذه الطبقة الوسطى الوطنية. البرجوازية الوطنية في البلدان المتخلفة لا تشارك في الإنتاج، ولا في الاختراع، ولا البناء، ولا العمل؛ إنها تدخل بكاملها في أنشطة الوساطة. ويبدو أن جوهر مهنتها هو أن تبقى جزءا من عملية الاستغلال. إن نفسية البرجوازية الوطنية هي نفسية رجل الأعمال، وليست نفسية قائد الصناعة. صحيح أن جشع المستوطنين ونظام الحظر الذي أنشأه الاستعمار لم يترك لها أي خيار آخر.

في ظل النظام الاستعماري، يستحيل ظهور الطبقة الوسطى التي تراكم رأس المال. الآن، على وجه التحديد، يبدو أن المهنة التاريخية للطبقة الوسطى الوطنية الحقيقية في بلد متخلف هي أن تنكر طبيعتها الخاصة بها كبرجوازية، أي كأداة للرأسمالية، أن تجعل من نفسها خادماً لرأس المال الثوري الذي هو الشعب.

في بلد متخلف، يجب على الطبقة الوسطى الوطنية الأصيلة أن تعتبر أن واجبها الملزم هو خيانة المصير الموضوع لها، وأن تدخل نفسها في مدرسة الشعب: وبعبارة أخرى أن تضع في يد الشعب رأس المال الفكري والتقني الذي تمتلكه. رأس المال الذي اكتسبته من خلال ذهابها إلى الجامعات الاستعمارية. ولكن المؤسف أنه في كثير من الأحيان لا تتبع الطبقة الوسطى الوطنية هذا المسار البطولي والإيجابي والمثمر والعادل. بدلاً من ذلك، تختفي وروحها مليئة بالاطمئان في الطرق الصادمة – صادمة لأنها معادية للوطنية – كبرجوازية تقليدية، كبرجوازية تتسم بالغباء والوضاعة، ككل برجوازية.
إن هدف الأحزاب الوطنية منذ فترة معينة هو، كما رأينا، كان وطنيًا بشكل صارم. إنها تحشد الناس بشعارات الاستقلال، أما ما تبقى فتتركه للأحداث المستقبلية. عندما تتم مساءلة مثل هذه الأحزاب عن البرنامج الاقتصادي للدولة التي تطالب بها، أو عن طبيعة النظام الذي تسعى لإقامته، فلا تكون قادرة على الإجابة، لأنها، على وجه التحديد، تجهل تماماً اقتصاد بلدها.

لقد تطور هذا الاقتصاد دائمًا خارج حدود معرفة هذه الأحزاب الوطنية. فهي ليس لديها ما هو أكثر من معارف تقريبية ونظرية بالموارد الفعلية والمحتملة للودائع السائلة والجامدة في بلادها. وبالتالي لا يمكنها التحدث عن هذه الموارد إلا على مستوى عام ومجرد. بعد الاستقلال، هذه الطبقة المتوسطة المتخلفة، منخفضة العدد وبلا رأس مال، والتي ترفض اتباع مسار الثورة، ستنحدر إلى مستوى بائس من الركود. إنها غير قادرة على إطلاق العنان لعبقريتها، التي تتباكى بأنها كانت مكبلة بواسطة الاستعمار. إن هشاشة مواردها وقلة أفراد طبقتها الإدارية تجبرها على البقاء لسنوات محصورة في اقتصاد حرفي. من وجهة نظرها، والتي هي حتما محدودة للغاية، الاقتصاد الوطني هو اقتصاد قائم على ما يمكن تسميته بالمنتجات المحلية. سيتم إلقاء خطب طويلة حول الطبقة الحرفية.

ولأن الطبقات الوسطى تجد أنه من المستحيل إنشاء مصانع تزيد الأرباح لنفسها وللبلد ككل، فإنها ستحيط الطبقة الحرفية بعطف شوفيني تماشيا مع الوعي الجديد بالكرامة الوطنية، وفي نفس الوقت تستفيد من هذه الطبقة الحرفية التي تجلب لها الكثير من المال. هذه العبادة للمنتجات المحلية وهذا العجز عن إيجاد أنظمة جديدة للإدارة سوف يتجليان بنفس القدر من خلال تعثر الطبقة الوسطى الوطنية في طرق الإنتاج الزراعي التي كانت تتميز بها الفترة الاستعمارية.

إن الاقتصاد الوطني في فترة الاستقلال لا يتم وضعه على أسس جديدة. إذ أنه لا يزال يهتم بحصاد الفول السوداني، بمحصول الكاكاو ومنتجات الزيتون. وبنفس الطريقة، لا يوجد تغيير في تسويق المنتجات الأساسية، ولا يتم إنشاء أي صناعة في البلاد. إننا نذهب في طريق إرسال المواد الخام. أننا نصبح مزارعي أروبا الصغار، الذين يتخصصون في المنتجات غير مكتملة التصنيع.

ومع ذلك، فإن الطبقة الوسطى الوطنية تطالب باستمرار بتأميم الاقتصاد والقطاعات التجارية. هذا لأن التأميم، من وجهة نظرها، لا يعني وضع الاقتصاد كله في خدمة الأمة والبت في تلبية احتياجات الأمة. بالنسبة لها، لا يعني التأميم حكم الدولة فيما يتعلق بالعلاقات الاجتماعية الجديدة التي تقرر تشجيع نموها. بالنسبة لها، يعني التأميم بكل بساطة نقل ملكية هذه الامتيازات غير العادلة التي هي إرث من الحقبة الاستعمارية إلى أيدي أهل البلد.

بما أن الطبقة الوسطى لا تملك ما يكفي من الموارد المادية أو الموارد الفكرية (نقصد بالموارد الفكرية المهندسين والفنيين)، فإنها تحصر مطالبها في تولي مكاتب الأعمال والبيوتات التجارية التي كان يشغلها المستوطنون في السابق.

تحل البرجوازية الوطنية في المساحة التي كان يحتلها سابقا المستوطنون الأوروبيون: الأطباء والمحامون والتجار ووكلاء الشركات التجارية والوكلاء العموميون ووكلاء النقل. وترى أن كرامة البلد ورفاهيتها تقتضيان احتلال كل هذه المناصب. من الآن فصاعدا سوف تصر هذه البرجوازية الوطنية على أن جميع الشركات الأجنبية الكبرى يجب أن تمر عبر أيديها، سواء كانت هذه الشركات ترغب في الحفاظ على علاقاتها مع البلاد، أو استباحتها. وتكتشف الطبقة الوسطى الوطنية مهمتها التاريخية: مهمة الوسيط.

إذا نظرنا إليها بعيونها، فإن مهمة هذه الطبقة البرجوازية الوطنية لا علاقة لها بتغيير أحوال الأمة. هي تتألف، من الناحية المبدئية، من كونها خط النقل الذي يصل بين الأمة والرأسمالية التي تتخفى اليوم، مضطرة، وراء قناع الاستعمار الجديد. سوف تكون البرجوازية الوطنية راضية تمامًا عن دور وكيل رجل الأعمال البورجوازي الغربي، وستلعب دورها هذا دون أية عُقد وبطريقة تجعلها تحس بأنها عزيزة مكرمة. لكن هذا الدور المربح نفسه، هذه الوظيفة الرخيصة، هذه الوضاعة في التوقعات وهذا الغياب لكل طموح يرمز إلى عجز الطبقة الوسطى الوطنية عن القيام بالدور التاريخي للبرجوازية.

إن الدور التاريخي، الذي يوجد في جميع البرجوازيات الوطنية، والذي يتمثل في الجانب الديناميكي والرائد، وخصائص المخترع ومكتشف العوالم الجديدة، هذا الدور غائب هنا بشكل مؤسف. في البلدان المستعمَرة، تسود روح التساهل في قلب البرجوازية. وذلك لأن البرجوازية الوطنية تتماهى مع البرجوازية الغربية، التي تعلمت منها دروسها. إنها تتبع البرجوازية الغربية على طول طريقها في الانحطاط والتفسُّخ دون أن تحاكيها في مراحلها الأولى التي كانت تتميز بالاستكشاف والاختراع، وهي المراحل التي تعتبر من مقتنيات تلك البورجوازية الغربية الإيجابية على كل حال. في بداياتها، تتماهى البرجوازية الوطنية للبلدان المستعمَرة مع انحطاط برجوازية الغرب. يجب أن لا نفكر في أنها تقفز إلى الأمام. هي في الواقع تبدأ من النهاية. إنه بالفعل خرف قبل معرفة النضارة أو الجسارة أو الرغبة في النجاح التي تميز الشباب.

وفي طريقها نحو الانحطاط، ستجد البرجوازية الوطنية الكثير من المساعدة من جانب البرجوازيات الغربية، التي يأتي أفرادها كسائحين باحثين عن الغرائبية، ولصيد الحيوانات الكبيرة، وللكازينوهات. وتنظم البرجوازية الوطنية مراكز الراحة والاسترخاء ومنتجعات المتعة لتلبية رغبات البرجوازية الغربية. يُعطى هذا النشاط اسم السياحة، وبهذه المناسبة سيتم بناء هذه الأشياء كصناعة وطنية. إذا كانت هناك حاجة إلى دليل على التحول في نهاية المطاف لعناصر معينة من البورجوازية المحلية السابقة إلى منظمي حفلات لنظرائهم الغربيين، فيجدر بنا إلقاء نظرة على ما حدث في أمريكا اللاتينية. الكازينوهات في هافانا والمكسيك، وشواطئ ريو، والفتيات البرازيليات والمكسيكيات الصغيرات، من عمر ثلاثة عشر عاماً، وموانئ أكابولكو وكوباكابانا – كل هذه الأشياء هي وصمة في جبين هذه الطبقة الوسطى الوطنية. لأنها خالية من الأفكار، لأنها تعيش من أجل نفسها وتنزع نفسها عن الشعب، مقوضة بعجزها الوراثي عن التفكير في مشاكل الأمة ككل، كما تُرى، هذه المشاكل، من وجهة نظر هذه الأمة ككل، لن يكون للطبقة الوسطى الوطنية ما هو أفضل من القيام بدور المدير للشركات الغربية، وستقوم عمليا بجعل بلادها بيت دعارة لأوروبا.

ومرة أخرى يجب أن نبقي أمامنا المثال المؤسف لبعض جمهوريات أمريكا اللاتينية. إن كبار رجال البنوك والتكنوقراطيين ورجال الأعمال الكبار في الولايات المتحدة ما عليهم إلا أن يتقدموا إلى طائرة ليجدوا أنفسهم منجرفين هناك في مناخ شبه استوائي، لمدة أسبوع أو عشرة أيام من الرفاهية في الفساد الذيذ الذي تقوم “المحميات” بـ”الاحتفاظ” به لهم.

يتطابق سلوك مُلاك الأرض الوطنيين مع سلوك الطبقة الوسطى في المدن. لقد طالب كبار المزارعين، بمجرد إعلان الاستقلال، بتأميم الإنتاج الزراعي. من خلال ممارسات التخطيط المتعددة تمكنوا من إجراء مسح شامل للمزارع التي كانت مملوكة للمستوطنين في السابق، هكذا ليعززوا قبضتهم على المنطقة. لكنهم لا يحاولون إدخال أساليب زراعية جديدة، ولا القيام بزراعة أكثر كثافة، ولا دمج نظمهم الزراعية في اقتصاد وطني حقيقي.

في الواقع، سوف يصر مُلاك الأرض على أن تمنحهم الدولة من الامتيازات والتسهيلات أكثر بمئات المرات مما كان يتمتع به المستوطنون الأجانب في الأزمنة السابقة. سيتم تكثيف وشرعنة استغلال العمال الزراعيين. وباستخدام اثنين أو ثلاثة شعارات، فإن هؤلاء الاستعماريون الجدد سيطلبون قدراً هائلاً من العمل من العمال الزراعيين، وذلك باسم الجهد الوطني بالطبع.

لن يكون هناك تحديث للزراعة ولا تخطيط للتنمية ولا مبادرة. لأن المبادرة تجعل هؤلاء الناس في حالة من الذعر لأنها تنطوي على الحد الأدنى من المخاطرة، وتزعزع بشكل تام هذه البرجوازية المترنّحة والمترددة، والمرتبطة بالأرض، والتي تنزلق تدريجياً أكثر فأكثر في الخطوط التي وضعها الاستعمار. في المناطق التي يكون فيها الحال كذلك، فإن الجهود الوحيدة المبذولة لتحسين الأمور تتحملها الحكومة؛ تأمرهم وتشجعهم وتمولهم. إن برجوازية الأرض ترفض أن تأخذ أدنى مخاطرة، وتظل معارضة لأي مغامرة وأية مخاطر. فهي ليس لديها نية للبناء على الرمال. إنها تطلب استثمارات مضمونة وعوائد سريعة.

فالأرباح الضخمة، ضخمة إذا أخذنا بعين الاعتبار حجم الدخل القومي، التي تجنيها لا تقوم بإعادة استثمارها أبداً. إن عقلية كنز المال هي المهيمنة في سيكولوجية هؤلاء الملاك أصحاب الأرض. في بعض الأحيان، لا سيما في السنوات التي تلت الاستقلال مباشرة، لا تتردد البرجوازية في استثمار الأرباح التي تحققها من ترابها المحلي في البنوك الأجنبية. من ناحية أخرى، يتم إنفاق مبالغ كبيرة في التفاخر: في السيارات والمنازل الريفية وفي كل تلك الأشياء التي وصفها الاقتصاديون بشكل عادل بأنها من سمات البورجوازية المتخلفة.

لقد قلنا إن البرجوازية المحلية التي تصل إلى السلطة تستخدم عدوانيتها الطبقية لاحتكار المواقع التي كان يحتفظ بها الأجانب في السابق. في غداة الاستقلال، في الواقع، تهاجم هذه البرجوازية بعنف الشخصيات الاستعمارية: المحامون، التجار، ملاك الأرض، الأطباء، وكبار موظفي الخدمة المدنية. ستقاتل بمرارة وحتى النهاية ضد هؤلاء الناس “الذين يهينون كرامتنا كأمة.” إنها ترفع عاليا فكرة توطين وأفرقة الطبقات الحاكمة. والحقيقة هي أن مثل هذا العمل سيصبح مشوبا أكثر بالعنصرية، حتى تضع البرجوازية المشكلة بصراحة على طاولة الحكومة بقولها “هذه المناصب يجب أن تكون لنا.” ولن تتوقف عن الزمجرة حتى تسيطر على كل شيء.

الطبقة العاملة في المدن، جماهير العاطلين عن العمل، الحرفيين الصغار والحرفيين من جانبهم يصطفون وراء هذا الموقف القومي. ولكن لكيما نكون عادلين، يجب أن نقول، إنهم يتبعون خطوات البرجوازية فحسب. إذا دخلت البرجوازية الوطنية في منافسة مع الأوروبيين، يبدأ الحرفيون وأصحاب الصنائع القتال ضد الأفارقة غير الوطنيين. في ساحل العاج، كانت الاضطرابات المعادية للداهوميين (من داهومي وهي الآن بنين) وضد الفولتيين (من فولتا العليا وهي الآن بوركينا فاسو) هي في الواقع أعمال شغب عنصرية. يصبح الداهوميين والفولتيين، الذين يسيطرون على الجزء الأكبر من التجارة الصغيرة، هم بمجرد إعلان الاستقلال، موضوع مظاهر عدائية من جانب شعب ساحل العاج. لقد انتقلنا من القومية إلى القومية المتطرفة، إلى الشوفينية، وأخيرا إلى العنصرية. هؤلاء الأجانب مدعوون إلى المغادرة؛ تحترق محلاتهم، وتدمر أكشاكهم في الشوارع، وفي الواقع فإن حكومة ساحل العاج تطلب منهم الذهاب، لكيما تُرضي مواطنيها. في السنغال هناك المظاهرات المناهضة للسودانيين (الماليين الآن) التي نادت بها الكلمات التالية من السيد مامادو ديا:
والحقيقة هي أن الشعب السنغالي لم يتبنى الأحجية المالية إلا اتباعا لزعمائه. إن ارتباطه بمالي ليس له أي أهمية أخرى غير ذلك التصرف الجديد للإيمان بالتوجهات السياسية للأخيرة. فالبلاد السنغالية لم تكن أقل واقعية، في الواقع كان الأمر أكثر من ذلك من حيث أن وجود السودانيين في داكار كان واضحا جدًا لا تخطئه العين. هذه الحقيقة هي التي تفسر أنه، بعيدا عن الأسف، أن تفكك الاتحاد الفيدرالي كان محل ترحيب من كتلة الشعب ولم تكن هناك يد مرفوعة للمحافظة عليه.
(Mamadou Dia, Nations africaines et solidarité mondial, p. 140.)

وبينما قفزت بعض قطاعات السنغاليين على الفرصة التي منحها لهم قادتهم للتخلص من السودانيين، الذين يعيقونهم في المسائل التجارية أو في المناصب الإدارية، فإن الكونغوليين، الذين وقفوا بقوة وجرؤوا على الإيمان بالخروج الجماعي للبلجيكيين، قرروا ممارسة الضغط على السنغاليين الذين استقروا في ليوبولدفيل وإليزابيثفيل وحملهم على الرحيل.

وكما نرى، فإن الآلية متطابقة في الحالتين من الظروف. إذا كان الأوروبيون يعيقون طريق المثقفين والبرجوازية التجارية للأمة الفتية، فإن المنافسة بالنسبة الجماهير في المدن يتم تمثيلها بشكل أساسي من قبل الأفارقة المنتمين لأمة أخرى. في ساحل العاج هؤلاء المنافسون هم من داهومي (بنين الآن). في غانا هم النيجيريين. في السنغال، هم السودانيون (الماليين).

وإذا كانت البورجوازية تطالب بطبقة حاكمة تتكون حصراً من الزنوج أو العرب فإن ذلك لا ينبع من حركة تأميم حقيقية، وإنما يتوافق فقط مع القلق من أجل وضع يد البرجوازية على السلطة التي كان يمسك بها الأجنبي حتى ذلك الوقت، وعلى مستوى الجماهير يتم تقديم نفس المطالب، مع حصر مفهوم الزنوج أو العرب ضمن حدود إقليمية معينة. وبين التأكيدات المدوية لوحدة القارة وسلوك الجماهير التي تأخذ الإلهام من قادتها، يمكن تتبع العديد من المواقف المختلفة. إننا نلاحظ وجود تأرجح دائم بين الوحدة الأفريقية، التي تتلاشى بشكل أسرع فأسرع نحو غياهب النسيان، والعودة المفجعة إلى الشوفينية في أشد أشكالها مرارة وبغضاً.

يقول مامادو ديا: على الجانب السنغالي، فإن القادة الذين كانوا منظرين رئيسيين للوحدة الأفريقية، والذين ضحوا عدة مرات بمنظماتهم السياسية المحلية ومواقعهم الشخصية لأجل هذه الفكرة، هم، وإن كان الأمر قد تم بحسن نية، مسؤولين بقدر لا يمكن إنكاره. خطأهم – وخطأنا، تم تحت ذريعة محاربة “البلقنة،” التي لم تأخذ في الاعتبار حقيقة الأقلمة في فترة ما قبل الاستعمار. خطأنا هو أنا لم نعط ما يكفي من الاهتمام في تحليلاتنا لهذه الظاهرة، التي هي ثمرة الاستعمار إن أردت، ولكن أيضا هناك حقيقة اجتماعية لا توجد نظرية وحدة، مهما كانت جديرة بالثناء أو جاذبة، بإمكانها إلغاء حقيقة هذه الظاهرة. لقد سمحنا لأنفسنا بأن يتم إغرائنا بالسراب: تلك البنية التي هي الأكثر إرضاءً لأذهاننا. لقد قمنا باحلال مثاليتنا بشكل خاطئ لتكون بديلا عن الواقع، لقد آمنا بما فيه الكفاية بأن إدانة الأقلمة، ونتيجتها الطبيعية، القومية الجزئية، والحصول على أفضل ما في كل منهما، هو ضمان لنجاح مهمتنا الخيالية.

(Mamadou Dia, op. cit.)

ليس هناك فارق كبير بين شوفينية السنغاليين وقبلية اليولوف. في الواقع، في كل مكان فشلت فيه البرجوازية الوطنية في اختراق الشعب ككل، لتنويره، والنظر في جميع المشاكل التي لها الأولوية بالنسبة له – هو فشل بسبب موقف البرجوازية القائم على فقدان الثقة وهشاشة معتقداتها السياسية – في كل مكان أظهرت فيه البورجوازية الوطنية نفسها عاجزة عن توسيع رؤيتها للعالم بما فيه الكفاية، نلاحظ تراجعًا نحو المواقف القبلية القديمة، وغضبًا ومرضًا في القلب، نتصور أن الشعور العرقي في أكثر أشكاله تفاقمًا هو الانتصار. وحيث أن الشعار الوحيد للبرجوازية هو “استبدال الأجنبي،” ولأنها تسرع في كل مسيرة من مسيرات الحياة لتأمين العدالة لنفسها وتولي المناصب التي أخلاها الأجنبي، فإن “صغار الناس” في الأمة – سائقي سيارات الأجرة وبائعي الكعك وماسحي الأحذية – سيكونون على نفس القدر من السرعة في الإصرار على عودة الداهوميين إلى بلدهم، أو حتى الذهاب إلى أبعد من ذلك، ومطالبة الفولبيين وبويلز بالعودة إلى أدغالهم أو جبالهم.

من وجهة النظر هذه يجب علينا تفسير حقيقة أنه في الدول المستقلة الشابة، تنتصر الفدرالية هنا وهناك. نحن نعلم أن الهيمنة الاستعمارية تميز بعض المناطق بالامتيازات. لا يتم دمج اقتصاد المستعمرة في اقتصاد الأمة ككل. ما زال يتم تنظيم هذا الاقتصاد ليُكمِّل اقتصادات الدول الأم المختلفة. من الصعب أن نجد حالات يستغل فيها الاستعمار البلد المستعمر ككل. هو يساهم في تسليط الضوء على الموارد الطبيعية التي يستخرجها والصادرات التي تلبي احتياجات صناعات البلد الأم، مما يسمح لبعض قطاعات المستعمرة بأن تصبح غنية نسبياً. لكن بقية المستعمرة تتبع طريق التخلف والفقر، أو تغرق فيه بشكل أعمق.

بعد الاستقلال مباشرة، يدرك المواطنون الذين يعيشون في المناطق الأكثر ازدهارا حظوتهم، ويُظهرون رد فعل أساسي وعميق في رفضهم إطعام المواطنين الآخرين. المناطق الغنية بالفول السوداني والكاكاو والماس تأتي إلى الواجهة، وتهيمن على البانوراما الفارغة التي تقدمها بقية البلاد. إن مواطني هذه المناطق الغنية ينظرون إلى الآخرين بكراهية، ويجدون فيهم الحسد والطمع، والدوافع المميتة. العداوات القديمة التي كانت موجودة قبل الاستعمار، الكراهية العرقية القديمة، تأتي إلى السطح. يرفض البالوباس Balubas إطعام اللولواس Luluas؛ كاتانغا تجعل من نفسها دولة؛ وألبرت كالوندي يتوج نفسه ملكاً لجنوب كاساي.

إن الوحدة الأفريقية، ذلك الشعار الغامض، تلك الصيغة التي عشقها وارتبط بها رجال ونساء إفريقيا بحماس، والتي أدت قيمتها العملية إلى جلب ضغط هائل على الاستعمار، إن هذه الوحدة الإفريقية تخلع القناع، وتتهاوى إلى الإقليمية الكامنة داخل الصدفة الجوفاء للقومية نفسها. إن البرجوازية الوطنية، بما أنها كانت تقف للدفاع عن مصالحها المباشرة، ولا ترى أبعد من نهاية أنفها، تكشف أنها عاجزة ببساطة عن تحقيق الوحدة الوطنية، أو بناء الأمة على أساس مستقر ومثمر. الجبهة الوطنية التي أجبرت الاستعمار على الانسحاب تتشقق، وتُبدِّد النصر الذي اكتسبته.

إن هذه المعركة التي لا ترحم بين الأعراق والقبائل، وهذا الحِرص العدواني لشغل الوظائف التي تُركت شاغرة بسبب رحيل الأجنبي، ستؤدي بنفس القدر إلى إثارة العداوات الدينية. في المناطق الريفية والأدغال، ستُظهر التقاليد البسيطة والديانات المحلية والطوائف المارابوتية حيوية جديدة وتستعيد مرة أخرى جولتها في الإقصاء الديني. في المدن الكبيرة، على مستوى الطبقات الإدارية، سنلاحظ سيطرة الدينين العظيمين، الإسلام والكاثوليكية.

إن الاستعمار، الذي اهتز من أسسه ذاتها بميلاد الوحدة الأفريقية، بدأ يستعيد توازنه ويحاول الآن أن يكسر هذه الإرادة في الوحدة باستخدام كل نقاط ضعف الحركة. الاستعمار سيحرك الشعوب الأفريقية من خلال الكشف عن وجود عداوات “روحية.” في السنغال، تنشر صحيفة نيو أفريكا أسبوعاً بعد أسبوع الكراهية للإسلام وللعرب. فاللبنانيون، الذين في أيديهم الجزء الأكبر من المؤسسات التجارية الصغيرة على الساحل الغربي، يتم تمييزهم من أجل عزلهم وطنيا. يرى المبشرون أنه من المناسب تذكير الجماهير بأنه قبل فترة طويلة من ظهور الاستعمار الأوروبي كانت الإمبراطوريات الأفريقية العظيمة قد تعطلت بسبب الغزو العربي. لا يوجد تردد في القول إن الاحتلال العربي هو الذي مهد الطريق أمام الاستعمار الأوروبي. يتم الحديث عن الإمبريالية العربية بشكل عام، ويتم إدانة الإمبريالية الثقافية للإسلام. المسلمون عادة ما يتم إبعادهم عن الوظائف الأكثر أهمية. في المناطق الأخرى، يحدث العكس، حيث يُعتبر المسيحيون الأصليون هم الأعداء الواعين والموضوعيين للاستقلال الوطني.

فالاستعمار يسحب كل وتر دون خجل، ولا يكتفي إلا بإيقاع النزاع بين هؤلاء الأفارقة الذين كانوا يتظاهرون بالأمس ضد المستوطنين. تتشكل فكرة مذبحة يوم القديس بارتولوميو في عقول معينة، ويضحك المدافعون عن الاستعمار داخل أنفسهم بشكل ساخر عندما يسمعون إعلانات رائعة عن الوحدة الأفريقية. داخل البلد الواحد، يقوم الدين بتقسيم الناس إلى مجتمعات روحية مختلفة، كل منها يمضي في التصلب بفعل الاستعمار وأدواته. تبرز أحداث غير متوقعة هنا وهناك. في المناطق التي تسود فيها الكاثوليكية أو البروتستانتية، نرى المنتمين للأقليات المسلمة يرمون أنفسهم بحماس منقطع النظير في إخلاصهم لدينهم. يتم إحياء أيام الأعياد الإسلامية، ويدافع الدين الإسلامي عن نفسه في كل صغيرة وكبيرة ضد السيادة المطلقة للعقيدة الكاثوليكية. ويقال إن وزراء الدولة يقولون لبعض الأفراد إنهم إذا لم يكونوا راضين فما عليهم إلا الذهاب إلى القاهرة. أحيانا تقوم البروتستانتية الأمريكية بزراعة تحيزاتها المعادية للكاثوليكية في أرض أفريقيا، وتحافظ على التنافس القبلي من خلال الدين.

إذا أخذنا القارة ككل، فقد يكون هذا التوتر الديني مسؤولاً عن إحياء الشعور العرقي الأكثر شيوعًا. تم تقسيم أفريقيا إلى سوداء وبيضاء، والأسماء التي استبدلت بها – إفريقيا جنوب الصحراء، وإفريقيا شمال الصحراء – لم تستطع إخفاء هذه العنصرية الكامنة. هنا، تم التأكيد على أن أفريقيا البيضاء لديها تقاليد ثقافية عمرها ألف عام. أنها من منطقة البحر الأبيض المتوسط، وأنها امتداد لأوروبا، وأنها تشارك في الحضارة اليونانية اللاتينية. وينظر إلى أفريقيا السوداء على أنها منطقة خاملة ووحشية وغير متحضرة، في كلمة واحدة، همجية. هناك، على مدار اليوم، قد تسمع ملاحظات غير سارة حول النساء المحجبات، وتعدد الزوجات، والازدراء المفترض لدى العرب للجنس الأنثوي. كل هذه الملاحظات تذكرنا بالقدرات العدوانية لتلك الأصوات التي غالبا ما يتم سماعها من شفاه المستوطنين.

إن البرجوازية الوطنية، في كل من هاتين المنطقتين الكبيرتين، التي استوعبت بالكامل الفكر الاستعماري في أكثر أشكاله فسادا، تتسلم من الأوروبيين، وتؤسس في القارة فلسفة عنصرية ضارة جدا بمستقبل أفريقيا. من خلال كسلها وتقليدها الأعمى، فإنها تشجع على زراعة العنصرية وتشدُّدها الذي كان سمة العهد الاستعماري. وبالتالي ليس من المثير للدهشة أن تسمع في بلد يسمي نفسه أفريقيًا تصريحات ليست أكثر أو أقل من عنصرية، وأن تلاحظ وجود سلوك أبوي يعطيك انطباعا مريرا بأنك في باريس أو بروكسل أو لندن.

في بعض المناطق في أفريقيا، فإن الأفكار البشعة المستمدة من الثقافة الغربية التي تروج لها الأبوية فيما يتعلق بالسود بأنهم محصنون ضد المنطق والعلوم تقف عارية تماما. في بعض الأحيان، يمكن أن يتم التأكد من أن الأقليات السوداء محاصرة بنوع من شبه العبودية، مما يبرر الحذر، أو بعبارة أخرى فقدان الثقة، الذي تشعر به بلدان إفريقيا السوداء فيما يتعلق ببلدان أفريقيا البيضاء. من الشائع جدا أن يسمع مواطن من أفريقيا السوداء أن يُنادى “يا زنجي” من قبل الأطفال عندما يمشي في شوارع مدينة كبيرة في أفريقيا البيضاء، أو يجد أن موظفي الخدمة المدنية يخاطبونه بطراح لغوي إنجليزي (Pidgin English) (كناية عن أنه عبد).

نعم، للأسف لا يجهل أحد أن الطلاب من أفريقيا السوداء الذين يلتحقون بالمدارس الثانوية شمال الصحراء يسمعون زملاءهم يسألون عما إذا كان في بلدهم منازل، وإذا كانوا يعرفون ما هي الكهرباء، أو إذا كانوا يمارسون أكل لحوم البشر في عائلاتهم. نعم، لسوء الحظ، ليس من غير المعروف أنه في مناطق معينة شمال الصحراء الكبرى يلتقي الأفارقة القادمون من دول جنوب الصحراء بمواطنين يطالبونهم بمصاحبتهم “إلى أي مكان على الإطلاق بشرط مقابلة الزنوج.” في موازاة ذلك، في بعض دول أفريقيا السوداء الشابة يحمل أعضاء برلمانيون، أو حتى وزراء، دون أي أثر للفكاهة فكرة أن الخطر ليس على الإطلاق في إعادة احتلال بلدهم من قبل الاستعمار، بل الخطر كل الخطر في غزو ” هؤلاء المخربين العرب القادمين من الشمال” في نهاية المطاف.

كما نرى، فإن إفلاس البرجوازيين ليس واضحاً فقط في المجال الاقتصادي. لقد وصلوا إلى السلطة باسم القومية الضيقة وتمثيل عرقٍ ما. وسوف يثبتون أنهم غير قادرين على تنفيذ برنامج بحد أدنى من المحتوى الإنساني، على الرغم من الإعلانات التي تبدو جيدة التي لا معنى لها لأن المتحدثين يتحدثون بموضة عبارات غير مسؤولة تأتي مباشرة من الدراسات الأوروبية حول الأخلاق والفلسفة السياسية. عندما تكون البرجوازية قوية، عندما تستطيع ترتيب كل شيء وكل شخص يخدم قوتها، فإنها لا تتردد في التأكيد على بعض الأفكار الديمقراطية الإيجابية التي تدعي أنها قابلة للتطبيق عالمياً. ولابد أن تكون هناك ظروف استثنائية للغاية إذا ما رأينا مثل هذه البرجوازية، القوية اقتصاديًا، مجبرة على إنكار إيديولوجيتها الإنسانية. إن البورجوازية الغربية، وإن كانت عنصرية في جوهرها، فقد تمكنت في الغالب من إخفاء هذا العنصرية من خلال الفروق الدقيقة العديدة التي تسمح لها بالحفاظ على سلامة إعلانها المعروف عن كرامة البشر.

لقد أعدت البرجوازية الغربية ما يكفي من الأسوار والدرابزين لكي لا يكون لديها خوف حقيقي من منافسة أولئك الذين تستغلهم وتعاملهم باحتقار. إن التمييز العنصري البرجوازي الغربي فيما يتعلق بالزنوج والعرب هو عنصرية للاحتقار؛ إنها عنصرية تقلل من شأن من تكرهه. بيد أن الأيديولوجية البرجوازية، التي هي إعلان المساواة الجوهرية بين الناس، استطاعت أن تبدو منطقية في أعينها من خلال دعوة الأفراد إلى أن يصبحوا إنسانيين، وأن يأخذوا الشكل الأولي لإنسانيتهم من الإنسانية الغربية كما تتجسد في البورجوازية الغربية.

إن التحامل العنصري للبرجوازية الوطنية الشابة هي عنصرية دفاعية تقوم على الخوف. أساسا هي لا تختلف عن القبلية المبتذلة، أو الخصومات بين الممل الدينية أو الفرق الصوفية. قد نفهم السبب في أن المراقبين الدوليين أصحاب الفطنة لم يأخذوا الخطابة العالية حول الوحدة الأفريقية مأخذ الجد، لأنه صحيح أن هناك الكثير من التشققات في تلك الوحدة مرئية للعين المجردة بحيث يصبح الشيء الوحيد المعقول هو الإصرار على أن تُحل كل هذه التناقضات قبل أن يأتي يوم الوحدة.

لم تعرف شعوب أفريقيا نفسها إلا مؤخرا. لقد قررت أن تُثقل بقوة على النظام الاستعماري باسم القارة بأكملها. الآن، البرجوازية الوطنية، التي تسرع في منطقة بعد منطقة لتكوين ثرواتها الخاصة وإنشاء نظام وطني للاستغلال، تبذل قصارى جهدها لوضع العقبات في طريق هذه “اليوتوبيا.” لقد قررت البرجوازيات الوطنية، الواضحة تماما فيما يتعلق بأهدافها، أن تغلق الطريق إلى تلك الوحدة، إلى ذلك الجهد المنسق من جانب مائتين وخمسين مليون إنسان للانتصار على الغباء والجوع واللاإنسانية في وقت واحد وفي نفس الوقت. هذا هو السبب في أننا يجب أن نفهم أن الوحدة الأفريقية لا يمكن تحقيقها إلا من خلال الاتجاه التصاعدي للشعب، وتحت قيادة الشعب، أي في تحدي مصالح البرجوازية.

فيما يتعلق بالشؤون الداخلية وفي نطاق المؤسسات، فإن البرجوازية الوطنية ستعطي دليلاً بنفس القدر على عدم أهليتها. في عدد معين من البلدان المتخلفة تم تزييف اللعبة البرلمانية منذ البداية. إن البرجوازية، التي تفتقر إلى القوة الاقتصادية وغير القادرة على تحقيق وجود علاقات اجتماعية متماسكة، وتقف على مبدأ سيطرتها كطبقة، تختار الحل الذي يبدو أنه الأسهل، وهو حل الحزب الواحد. ليس لديها حتى الآن الضمير المطمئن والهدوء الذي يمكن أن توفره القوة الاقتصادية والسيطرة على آلة الدولة وحدها. إنها لا تخلق دولة تطمئن المواطن العادي، على العكس فهي تثير قلقه. إن الدولة، توجب عليها قوتها ورشدها أن تلهم بالثقة وتنزع السلاح وتهدهد الجميع للنوم، على العكس من ذلك، تسعى إلى فرض نفسها بطريقة مذهلة. تقوم بالاستعراض، تصارع الناس وتقوم بتخويفهم، مما يوحي للمواطن بأنه في خطر مستمر. الحزب الواحد هو الشكل الحديث لدكتاتورية البرجوازية، الشكل غير المقنع، غير غير الملون، عديم الضمير، والمثير للسخرية.

صحيح أن مثل هذه الديكتاتورية لا تذهب بعيداً. لا يمكنها وقف عمل التناقضات الخاصة بها. وذلك لأن البرجوازية لا تملك الوسائل الاقتصادية لضمان هيمنتها ورمي بعض الفتات لبقية البلاد؛ علاوة على ذلك، لأنها مشغولة بملء جيوبها في أسرع وقت ممكن، ولكن أيضا بقدر ما هو ممكن، فإن البلاد تغوص بشكل أكبر وأعمق في الركود. ولإخفاء هذا الركود وللمحافظة على نفسها في ظل هذا الانحدار، ولطمأنة نفسها ولإعطاء نفسها ما تفتخر به، لا يمكن للبرجوازية أن تجد شيئًا أفضل من القيام بتشييد المباني الفخمة في العاصمة وصرف الأموال على ما يسمى بنفقات الهيبة.

إن البرجوازية الوطنية تدير ظهرها أكثر فأكثر عن الداخل والوقائع الحقيقية لبلدها غير المتطورة، وتميل إلى تحويل بصرها نحو الدولة الاستعمارية السابقة ونحو الرأسماليين الأجانب الذين يعتمدون على خضوعها. وبما أنها لا تشارك الناس في أرباحها، ولا تسمح لهم بأي حال من الأحوال بالاستفادة من أي من المستحقات المدفوعة لها من قبل الشركات الكبرى الأجنبية، فإنها ستكتشف الحاجة إلى زعيم شعبي تُلقي عليه الدور المزدوج من أجل استقرار النظام وتكريس هيمنة البرجوازية. تستمد الديكتاتورية البرجوازية في البلدان المتخلفة قوتها من وجود زعيم. نحن نعلم أن الديكتاتورية البرجوازية في البلدان المتطورة هي نتيجة القوة الاقتصادية للبرجوازية.

في البلدان المتخلفة، على العكس من ذلك، يقف الزعيم ليمثل السلطة الأخلاقية، التي تقرر البرجوازية الرقيقة والتي يضربها الفقر والبؤس أن تغتني تحت ظلها. لقد رأى الناس الذين ظلوا طوال السنين ينظرون إلى هذا الزعيم وسمعوه يتكلم، ومن على البعد، في نوع من الحلم، وتابعوا مواجهاته مع السلطة الاستعمارية، فوضعوا ثقتهم تلقائياً في هذا الزعيم الوطني. قبل الاستقلال، يجسد الزعيم عمومًا تطلعات الشعب من أجل الاستقلال والحرية السياسية والكرامة الوطنية. ولكن بمجرد إعلان الاستقلال، بعيدًا عن ما كان يجسده الزعيم من حاجات الناس في ما يتعلق بما هو ملموس، الخبز والأرض، واستعادة البلاد المقدسة لأيادي الشعب، فإنه سيكشف عن وظيفته الحقيقية: أن يصبح الرئيس العام لتلك الشركة الخاصة بالمنتفعين المتسرعين لجني العوائد الذين يشكلون البورجوازية الوطنية.

على الرغم من تصرفاته الشريفة في كثير من الأحيان وتصريحاته المخلصة، فإن الزعيم إذا تم النظر إليه بشكل موضوعي هو في الواقع المدافع الشرس عن تلك المصالح، التي أصبحت اليوم مجتمعة، مصالح البرجوازية الوطنية والشركات الاستعمارية السابقة. إن صدقه، الذي هو خير روحه الحقيقي، ينهار شيئًا فشيئًا. إن اتصاله بالجماهير غير حقيقي لدرجة أنه يعتقد أن سلطته مكروهة وأن الخدمات التي قدمها لبلده أصبحت موضع شك. فيحكم القائد على الجماهير بقسوة بالجحود، ومع مرور كل يوم ينحاز أكثر وبشكل تدريجي إلى جانب المستغلِين. ومن ثم، فإنه يصبح، عن علم، مساعدا للبرجوازية الناهضة التي تتدهور في مستنقع الفساد والملذات.

تغرق القنوات الاقتصادية للدولة الشابة حتما في خطوط استعمارية جديدة. الاقتصاد الوطني، الذي كان محميًا في السابق، أصبح اليوم خاضعًا، بنص العبارة، للسيطرة. الميزانية تتوازن من خلال القروض والهدايا، في حين أن كل ثلاثة أو أربعة أشهر يأتي رؤساء الوزراء أنفسهم أو وفودهم الحكومية إلى البلدان الاستعمارية السابقة أو في أي مكان آخر، بحثا عن رأس المال.

إن القوة الاستعمارية السابقة تزيد من مطالبها، وتُراكم التنازلات والضمانات، وتحتاج إلى آلام أقل وأقل لإخفاء قبضتها على الحكومة الوطنية. يركد الناس في الفقر في ظروف لا تحتمل؛ ببطء يستيقظون على خيانة قادتهم غير المعلنة. هذه الصحوة تكون أكثر حدة لأن البرجوازية عاجزة عن تعلم الدرس. لا ينتشر توزيع الثروة المؤثرة بين عدد كبير من القطاعات؛ لا يتراوح بين مستويات مختلفة، ولا يضع في التراتب الهرمي نصف نغمة، فإما الغنى الفاحش أو الفقر المدقع. إن الطبقة الاجتماعية الجديدة هي الإهانة الأكثر إثارة للاشمئزاز حيث أن الغالبية العظمى، التي تشكل تسعة أعشار السكان، ما زالت تموت من الجوع.

يُصاحب هذا الإثراء الفاضح والسريع وغير المبرر لهذه الطبقة بصحوة حاسمة من جانب الشعب، ووعي متزايد ينذر بأيام عاصفة قادمة. إن الطبقة البرجوازية، ذلك الجزء من الأمة الذي يُلحِق كل ثروة البلاد من أجل ربحه الخاص، من خلال نوع من المنطق غير المتوقع، سوف يصدر أحكامًا مزعجة، على الزنوج الآخرين والعرب الآخرين، تلك الأحكام غالباً ما تذكرنا بالمذاهب العنصرية للممثلين السابقين للسلطة الاستعمارية. في الوقت نفسه، فإن فقر الشعب، وجلب المال بطريقة جشعة بواسطة الطبقة البرجوازية، والازدراء الواسع الانتشار لبقية الأمة، سيقوي الفكر والعمل.

لكن مثل هذه التهديدات ستؤدي إلى إعادة تأكيد السلطة وظهور الديكتاتورية. فالزعيم، الذي يقف وراءه عملاً سياسياً وعمرياً وإخلاصا وطنيا، يشكل حاجزا بين الناس والبورجوازية الجشعة لأنه يقف كضمانة على مشاريع هذه الطبقة ويغض الطرف عن وقاحتها ورداءتها ولا أخلاقيتها الأساسية.

إنه يعمل كقوة كابحة لصحوة وعي الناس. يأتي إلى مساعدة الطبقة البرجوازية ويخفي مناوراته عن الناس، وبذلك يصبح أكثر العاملين شغفا في مهمة تحييد الجماهير وإرباكها. في كل مرة يتكلم فيها مع الناس فإنه يذكرهم بحياته البطولية، النضالات التي قادها باسم الشعب والانتصارات التي حققها باسمهم، مما يوحي بوضوح للجماهير بأنهم يجب أن يستمروا في وضع ثقتهم فيه.

هناك الكثير من الأمثلة على الوطنيين الأفارقة الذين أدخلوا على حذر الحركة السياسية الذي كان يتبعه سابقوهم أسلوبًا قوميا مصادما. جاء هؤلاء الرجال من الريف البعيد وأعلنوا أنهم جاءوا من الريف البعيد ليتحدثوا باسم الزنوج، مثيرين دهشة السلطة المهيمنة وخجل سكان العاصمة من الوطنيين. هؤلاء الرجال، الذين تغنوا بأمجاد عرقهم، الذين أخذوا على عاتقهم عبء الماضي بكل ما فيه من أكل لحوم البشر والانحطاط، وجدوا أنفسهم اليوم، للأسف، على رأس فريق من الإداريين الذي يدير ظهره للريف والذي يعلن أن مهنة الشعب هي الطاعة، وأن يستمر في الطاعة حتى نهاية الزمان.

القائد يهدئ الناس. لسنوات عديدة بعد نيل الاستقلال، رأيناه غير قادر على حث الناس على القيام بمهمة ملموسة، غير قادر على فتح المستقبل لهم أو لدفعهم إلى مسار إعادة البناء الوطني، وهذا يعني، إعادة البناء الخاصة بهم؛ نراه يعيد تقييم تاريخ الاستقلال ويستدعي الوحدة المقدسة للنضال من أجل التحرر. ولأنه يرفض تفكيك البرجوازية الوطنية، فإن القائد يطلب من الناس أن يتراجعوا إلى الماضي وأن يصبحوا سكارى بذكرى الحقبة التي أدت إلى الاستقلال. القائد، برؤية موضوعية، يجبر الناس على التوقف ويستمر في طردهم من التاريخ أو منعهم من التجذر فيه. خلال النضال من أجل التحرر، أيقظ القائد الشعب ووعده بمسيرة إلى الأمام، مسيرة بطولية وغير مكتملة. واليوم، يستخدم كل وسيلة ليجعلهم ينامون، ويطلب منهم في ثلاث أو أربع مرات في السنة أن يتذكروا الفترة الاستعمارية وأن ينظروا إلى الوراء على الطريق الطويل الذي قطعوه منذ ذلك الحين.

الآن يجب القول أن الجماهير تظهر نفسها عاجزة تماما عن تقدير طول الطريق الذي قطعته. الفلاح الذي يستمر في استخلاص معيشته من التربة، والعاطل عن العمل الذي لا يجد وظيفة أبدا لا يستطيعون اقناع أنفسهم بأن شيئا قد تغير بالفعل في حياتهم، على الرغم من الأعياد العامة والأعلام الجديدة ذات الألوان المشرقة. البرجوازيون الذين هم في السلطة يزيدون من عدد المواكب العبثية. الجماهير ليس لديها أوهام. إنها جائعة؛ وضباط الشرطة، رغم أنهم الآن أفارقة، لا يعملون على طمأنة الجماهير بشكل حاسم. تبدأ هذه الجماهير في النكد. تبتعد عن هذه الأمة التي لم تحصل فيها على أي مكان وتبدأ في فقدان الاهتمام بها.

من وقت لآخر، ومع ذلك، فإن الزعيم يبذل جهدا؛ يتحدث في الراديو أو يقوم بجولة في البلاد لتهدئة الناس، ليهدئتهم ويضللهم. الزعيم أكثر من ضروري لأنه لا يوجد حزب. خلال فترة النضال من أجل الاستقلال كان هناك شيء واحد كافٍ، وهو حزب بقيادة الزعيم الحالي. لكن منذ ذلك الحين تفكك هذا الحزب للأسف. لم يبق شيء سوى قوقعة الحزب، الاسم والشعار والرمز. الحزب الحي، الذي يجب أن يجعل من الممكن التبادل الحر للأفكار التي تم وضعها وفقا للاحتياجات الحقيقية لجماعة الشعب، قد تحول ليصبح نقابة للمصالح الفردية.

منذ إعلان الاستقلال، لم يعد الحزب يساعد الشعب على تحديد مطالبه، ليصبح أكثر وعياً باحتياجاته وأكثر قدرة على تأسيس سلطته. اليوم، مهمة الحزب هي أن يقوم بإيصال التعليمات التي تصدر من القمة إلى الشعب. الأخذ والعطاء المثمر من الأسفل إلى الأعلى ومن الأعلى إلى الأسفل مما يخلق الديمقراطية ويضمنها في الحزب لم يعد موجودا. بل على العكس تماماً، فقد جعل الحزب من نفسه حاجزا بين الجماهير والقادة. لم تعد هناك حياة حزبية، حيث تم اليوم تسريح الفروع التي أُنشئت خلال الفترة الاستعمارية بالكامل.

والأبطال المتشددون ينتظرون على أحر من الجمر. الآن يُنظر إلى الموقف الذي اتخذه من قبل بعض المتشددين خلال النضال من أجل تحرير بأن له ما يبرره، لأن الحقيقة هي أنه في خضم المعركة طلب كثيرون من المتشددين من الزعماء صياغة عقيدة، وتوضيح الأهداف، ووضع برنامج. لكن بحجة حماية الوحدة الوطنية، رفض الزعماء رفضا قاطعا محاولة القيام بمثل هذه المهمة. كانت العقيدة الوحيدة الجديرة بالاهتمام، كما قيل مرارا وتكرارا، هي اتحاد الأمة ضد الاستعمار. ومضوا إلى الأمام على هذا الأساس، مسلحين بشعار متهور كبديل للمبادئ، في حين أن النشاط الأيديولوجي الوحيد كان في شكل سلسلة من الأوجه المتعددة لموضوع حق الشعوب في تقرير المصير، محمولا في رياح التاريخ التي ستكتسح الاستعمار بعيدا بشكل حتمي. عندما سأل المتشددون عما إذا بالإمكان تحليل رياح التاريخ بشكل أكثر وضوحا، أعطاهم الزعماء بدلا من ذلك الأمل والثقة، وضرورة تصفية الاستعمار وحتميتها، وأشياء من هذا القبيل.

بعد الاستقلال، يغرق الحزب في حالة الخمول غير العادي. يتم استدعاء المتشددين فقط عندما يكون هناك ما يسمى بالمظاهر الشعبية، أو المؤتمرات الدولية، أو احتفالات الاستقلال. يتم إعطاء قادة الحزب المحليين مناصب إدارية، ويصبح الحزب إدارة، ويختفي المتشددون في الحشد ويأخذون لقب مواطن ـ الذي لا معنى له. والآن بعد أن أوفوا بمهمتهم التاريخية المتمثلة في قيادة البرجوازية إلى السلطة، فإنهم مدعوون بشدة إلى التقاعد حتى تتمكن البرجوازية من القيام بمهمتها في سلام وهدوء. لكننا رأينا أن البرجوازية الوطنية في البلدان المتخلفة غير قادرة على القيام بأية مهمة مهما كانت.

بعد بضع سنوات، يصبح تفكك الحزب واضحا، ويمكن لأي مراقب، حتى الأكثر سطحية، أن يلاحظ أن الحزب، الذي أصبح اليوم الهيكل العظمي لذاته السابقة، لا يعمل إلا على شل الشعب. الحزب، الذي كان قد استقطب الامة كلها خلال المعركة، ينهار. والمثقفون الذين احتشدوا للحزب في عشية الاستقلال، أوضحوا الآن من خلال موقفهم بأنهم قدموا دعمهم من دون أي هدف آخر سوى تأمين نصيبهم من كعكة الاستقلال. أصبح الحزب وسيلة لتحقيق المصالح الخاصة.

ومع ذلك، هنالك عدم مساواة في الحصول على الثروة والاحتكار داخل النظام الجديد. البعض لديهم مصدر دخل مزدوج ويُظهرون أنهم متخصصون في الانتهازية. تتضاعف الامتيازات وينتصر الفساد، بينما تنخفض الأخلاق. اليوم، النسور الجارحة كثيرة جدا وشرهة جدا بما يتناسب مع الغنائم النحيلة للثروة الوطنية. فالحزب، وهو أداة حقيقية للقوة، في يد البرجوازية، يعزز جهاز الدولة، ويضمن أن يتم تحجيم الشعب وتثبيته. يساعد الحزب الحكومة على احتواء الناس. يصبح معاديا للديمقراطية أكثر فأكثر، وأداة للإكراه.

الحزب بشكل موضوعي، في بعض الأحيان بشكل ذاتي، متواطئ مع البرجوازية التجارية. وبنفس الطريقة التي تقوم فيها البرجوازية الوطنية باستحضار طور بنائها من أجل الإلقاء بنفسها في التمتع بثروتها، فإنها، بطريقة متوازية في المجال المؤسسي، تقفز فوق المرحلة البرلمانية وتختار ديكتاتورية من النمط القومي-الاشتراكي.

نحن نعلم اليوم أن هذه الفاشية التي تحظى باهتمام كبير والتي انتصرت على مدى نصف قرن في أمريكا اللاتينية هي النتيجة الجدلية للدول التي كانت شبه استعمارية خلال فترة الاستقلال.

في هذه البلدان الفقيرة والمتخلفة، حيث القاعدة هي أن أكبر ثروة يحيط بها الفقر الأكبر، يشكل الجيش والشرطة أركان النظام. جيش وقوة شرطة (قاعدة أخرى لا يجب نسيانها) تتلقى النصح من خبراء أجانب. إن قوة قوات الشرطة وقوة الجيش تتناسب مع الركود الذي تغرق فيه بقية الأمة. من خلال القروض السنوية، يتم خطف الامتيازات من قبل الأجانب. إن الفضائح عديدة، والوزراء يصبحون أكثر غنى، وزوجاتهم يجعلن أنفسهن دمى، وأعضاء البرلمان يملأون أعشاشهم بالريش ونزولا إلى الشرطي البسيط أو ضابط الجمارك ليس هناك روح لا تنضم إلى موكب الفساد الكبير.

وتصبح المعارضة أكثر عدوانية ويلجأ الناس في الحال إلى الدعاية. من الآن فصاعدا، تصبح عدائيتهم للبرجوازية واضحة للعيان. إن هذه البرجوازية الشابة التي يبدو أنها تعاني من الشيخوخة المبكرة لا تلتفت إلى النصيحة الملقاة عليها، وتكشف عن عجزها عن إدراك أنه سيكون من مصلحتها أن تضع حجابا، حتى لو كان أكثر رقة، على استغلالها. تتناول ذا آفريكان ويكلي، أوسع الصحف المسيحية انتشارا في برازافيل، أمراء النظام هكذا:

أنتم في مواقع جيدة، أنتم وزوجاتكم، اليوم تستمتعون بالعديد من وسائل الراحة؛ ربما تعليم جيد، بيت جيد، اتصالات جيدة، والعديد من المهمات التي تُبعثون فيها والتي تفتح لكم آفاقا جديدة. لكن كل ثروتكم تشكل قشرة صلبة تمنعكم من رؤية الفقر الذي يحيط بكم. احترسوا.

هذا التحذير الصادر عن صحيفة ذا آفريكان ويكلي وموجه إلى أتباع موسيو يولو (Monsieur Youlou)، نستطيع أن ندرك، أن لا شيء ثوري فيه. ما تريده صحيفة ذا آفريكان ويكلي من الإشارة إلى مجوّعي الشعب الكونغولي هو أن الله سيعاقبهم على سلوكهم. وتستمر في القول: “إذا لم يكن هناك مكان في قلبك للنظر نحو أولئك الذين هم تحتك، لن يكون هناك مكان لك في بيت الله.”

من الواضح أن البرجوازية الوطنية لا تقلق على الإطلاق بشأن مثل هذا الاتهام. وبفضل أطوال الموجات التي تم ضبطها في أوروبا، فإنها تواصل بثبات وحزم الاستفادة القصوى من الوضع. يتم تصدير الأرباح الهائلة التي تجنيها من استغلال الشعب إلى دول أجنبية. وغالبا ما تكون البرجوازية الوطنية الشابة أكثر تشككا في النظام الذي أقامته من الشركات الأجنبية.

ترفض البرجوازية الوطنية أن تستثمر في بلدها وتتصرف تجاه الدولة التي تحميها وتغذيها، وهو أمر لا بد من الإشارة إليه، بجحود مدهش. تكتسب ضمانات في الأسواق الأوروبية، وتنطلق لقضاء عطلة نهاية الأسبوع في باريس أو هامبورغ. إن سلوك البرجوازية الوطنية في بعض البلدان المتخلفة يعيد إلى الأذهان سلوك أعضاء العصابة، الذين يخفون بعد كل عملية نصيبهم في المسروقات من الأعضاء الآخرين الذين هم شركاؤهم ويبدأون التفكير بحكمة في التقاعد.

يُظهر مثل هذا السلوك أن البرجوازية الوطنية ستخسر، بشكل أو بآخر، إذا استمرت اللعبة طويلاً. إنها تعتقد أن الوضع القائم لن يدوم إلى أجل غير مسمى، لكنها تنوي تحقيق أقصى استفادة منه. غير أن مثل هذا الاستغلال والاحتقار لهذه الدولة يثير حتمًا سخطًا بين جماهير الشعب. في هذه الظروف يصبح النظام أكثر قسوة.

في غياب البرلمان، فإن الجيش يصبح هو الحكم: ولكن عاجلاً أم آجلاً سوف يحقق سلطته ويسيطر على رأس الحكومة ويهدد المنفستو. وكما نرى الأمر، لم تتعلم البرجوازية الوطنية في بعض البلدان المتخلفة من الكتب. إذا نظرت عن كثب إلى بلدان أمريكا اللاتينية نجد أنها بدون شك تعرفت على المخاطر التي تهددها. وهكذا يمكننا أن نستنتج أن هذه البرجوازية المصغرة التي تقذف بنفسها إلى الواجهة محكوم عليها بأن تتراوح خطاها دون أن تحقق أي شيء.

في البلدان المتخلفة، تكون المرحلة البرجوازية مستحيلة وقاحلة. من المؤكد أن هناك ديكتاتورية الشرطة والطبقة المتربِّحة، ولكن يبدو أن بناء مجتمع برجوازي متقن محكوم عليه بالفشل. إن صفوف المنتفعين الموشكين على المغادرة الذين يستولون على الأموال من البلدان التي يضربها الفقر سيصبحون عاجلاً أم آجلاً رجالاً من القش في أيدي الجيش، يتعامل معهم الخبراء الأجانب بذكاء. وبهذه الطريقة، تمارس البلد الأم السابقة الحكم غير المباشر، سواء بواسطة البرجوازية التي تدعمها أو من قبل الجيش الوطني بقيادة خبرائها، وهو جيش يثبِّت الشعب ويوقف حركته ويرهبه.

تعليقات

ترجمة رائعة وموضوع مهم ... وحتى الان لم يقرأ فرانز فانون جيدا في العالم العربي
تحياتي
 
أعلى