عبد النبي دشين - العشاء الأخير.. تغريبة ماي الحزين

عم مساء أيها الفتى النبيل ، عام اخر ينقضي ، واللوعة لاتنقضي كم كنت واهما أن الزمن كفيل برتق الجراح ، والارتكان إلى ذكرى اللحظات الاسيانة حيث استحضر طيفك وقد مر خلسة في جلسة وارسم خيط حزن على محياي ثم سرعان ما انخرط في وهم اليومي ، غير أنني بتوالي الأيام أدركت أن الحزن يقتات من بعد المسافة وان النسيان التجلي المعكوس لفعل التذكر .
رجاؤك الصغيرة بدأت تطل على العالم في عتبة مااحوج أن تكون مرافقا لها فيها ، لكن جمارك السرائر لم يسمحوا سوى باليتم أنيسا لها ، تسألني عنهم ، منذ الليلة التترية لم يتوقفوا عن الاستنساخ ، والرفاق ؟الرفاق كل في طريق .....
اعذرني إذا خدشت صمتك الأبدي لأهمس لك بان الوقوف في يوم الذكرى أمام النصب التذكاري صار بالنسبة للبعض ضريبة ثقيلة لاسيما إذا صادف موعدا لجلسة حميمية ، أو لمتابعة مباراة كرة القدم وما تحتاجه من انفعالات وأحاسيس
لنصرة الفريق المحبوب .
هكذا صار النسيان يغلف الذكرى ويلونها بلون الاعتياد ، وأنت كما تعلم لنا قدرة خارقة على التصالح مع الواقع
والارتكان إلي مسكن البداهات والاعتيادات .
سبعة أعوام تمضي ، بحساب العام وليس السنة ,مضت وتركت ندوبها ، اهتزازات وأحداث غيرت المسار .
ها قد عدت إلى مسقط الرأس ، مكر الصدف مرة أخرى قدر لي أن اسكن بيتا بني على الأرض التي شهدت ميلادنا
واحتضنت شغبنا الطفولي وارتعاشات أحلامنا الرومانسية الأولى ونحن نطل على العالم ، هو عود إلى الرحم الامومي إلى زمن لم أتوقع أنني يوما ما سأعيشه ، صرت أصادف كل يوم أصدقاءك القدامى ، أحاول في كل مرة التقاط صورتك في ملامحهم ، وبعض تفاصيل ذكرى لاتزال شظايا احتراقاتها صامدة تقاوم رياح النسيان ......
.أنا بدوري عدت من رحلة سيزيفية ، بعد اطمأننت لوهم حياة كنت أريدها استثنائية في كل شيءولانني كائن لااقوى على إيلام احد ، استيقظت ذات الم ولملمت أحزاني وانكساراتي وعدت من حيث أتيت خاوي الوفاض ,مليء الفؤاد بجروح قد لاتندمل ، أنت تعرفني جيدا ,أنني في اللحظات المصيرية قد اخسر كل شيء لكن أبدا لااقايض ببداهاتي وقناعاتي .
كم موجع هذا الغياب ,أيها الفتى الصادح بترنيمة الحياة ,وقد جف في الحلق موال تربص به القتلة ووأدوه لكي لايفشي في الناس حب الحياة والجمال .
كم جارح نصل الخذلان والنسيان ، وقد أعدنا طلاء الطاولات المحترقة التي جمعت كل المحتفين ببهجة الحياة ، وجلسنا لنتساقى ماتبقى من د مائكم .
قال قائلهم :أنت تريد تأبيد الأحزان ، الحياة تستمر ,دعك من الألم لكي لاتخسر ماتبقى من العمر .
وكأننا نختار أن نحزن أو نفصل الاحاسيس على مقاس التجربة ,لذلك صرت لااثير الذكرى في مجلس لكي لااكدر صفوها ، اكتفي بما استطعت ترجمته على الورق لأقراه يوم الذكرى كقارئ يحافظ على مسافة افتراضية مع مايقرا
واحتمي بمكر اللغة ، حيث الاستعارات تشرع نوافذها للهباء ، فما أقسى أن نحس بان الوجود عالم تشيده الكلمات وأوهامنا تسعى لمنحها معنى ، استشعرت فداحة الخسران وأنا أحاول استعادتك عبر الكتابة ، ابني لك عالما أخاله يعيد ترميم طيفك وبعضا من لحظات استسلمنا فيها لهشاشة اليقين بان حجم المسرات كفيل بمقاومة الزوال ، لم أكن أتوقع أننا في لحظة ستطوح بنا ظروف ومصالح وننفرط كحبات عقد ، هل كنا في تلك المواقف نتدرب على تحمل الغياب المؤقت ، لنلتقي في مناسبات عائلية نتبادل مودات نروض بها أنانيتنا ونكفر عن أخطائنا في حق بعضنا البعض ، هل كنا نعد أنفسنا لغيابك الفجائعي ؟ يا ويحي غصة تمزق الأحشاء وقد رحلت قبل أن اطمئن بأنك لم تحمل معك ألما أكون قد تسببت لك فيه ، اطلب منك الصفح فأحيانا لانعرف كيف نترجم إحساسنا لمن نحب فنقسو عليهم وقد نؤذيهم من غير قصد .....
ها قد سقطت في لعبة التبرير التي قد تشوش علي صفاء إحساسي بك ، لكن اعذرني فانا احتمي باللغة لكي لأانهار أمام توالي الخيبات والانكسارات ، فأنت تعلم أنني لم اجن من رحلة العمر سوى حفنة ذكريات اتد ثر بها لتقيني صقيع علاقات كنت مجرد محطات فيها لأشخاص عبروا وغادر كل واحد منهم بعد وصوله ....
كلما هممت بالكتابة عنك أساق بتحايل الكلمات إلى الحديث عن نفسي ، لأنني أحسك تجليني في أقصى درجات الإحساس باللوعة ، لذلك احرص على استعادتك ضدا على المحو ، وأعيد نحتك من مجاز اللغة وبلاغة التمثلات ، أيها الفتى القدري الذي اختزل العمر في لحظات وامضة قصيرة بالحساب الزمني ، عميقة بنسغ الابتهاج .
ما أفظع أن تصير الحياة ضريبة نؤديها فقط لنحياها وقد تربص بنا جمارك السرائر ليفتشوا نوايانا وما تخفي الصدور ويحولوا حياتنا إلى موت مؤجل مع وقف التنفيذ
من أين للكائن البشري هذه القدرة على صناعة كل هذا الحقد والقبح ؟ربما صورتنا عن الإنسان تنزاح نحو مجاز الإمكان لذلك نسعى إلى تركيب صورة مؤمثلة متشظية عن إنسان نريده أن يكون .
عم مساء ، أيها الفتى المضمخ بأريج العنفوان ، لاطعم للذائذ والفرح وغيابك يصر على الحضور ، ثقيل هو الوقت في انتظارك السرابي ، باردة هي الأمكنة التي لن تاويك ، خواء، هذا العالم وقد صار رجعا لصدى ذكراك
عم مساء أنت وكل رفاقك الذين اقتسمت معهم عشاءك الأخير وكل الذين سقطوا في ولائم الغدر .المجد لكل أرواح الضحايا.


عبد النبي دشين
نشر في الاتحاد الاشتراكي يوم 15 - 05 - 2010

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى